من أجل فهم السياسة الخارجية الأمريكية وتاريخها واتجاهاتها

من أجل فهم السياسة الخارجية الأمريكية وتاريخها واتجاهاتها

ثلاثة من كبار المنظرين السياسيين أدلوا بدلوهم فيما يخص مآلات الحرب الأوكرانية، وهم: فرنسيس فوكوياما، وجون ميرشايمر، ألكسندر دوغين. تراوحت تنبؤات هؤلاء المفكرين الثلاثة بين الهزيمة المنكرة لروسيا وبوتين كما يرى الليبرالي "فوكوياما" الذي يبدو أنه مازال متأثرا بأفكاره حول "نهاية التاريخ"، وبين النصر الساحق لروسيا، والذي سوف يغير وجه العالم ويرسي قواعد نظام عالمي جديد كما اعتقد الجيوسياسي "دوغين". أما الواقعي "ميرشايمر"؛ فهو يرى أن روسيا سوف تنتصر في هذه الحرب، واعتبر الخاسر الوحيد في هذه الحرب هم الأوكرانيين. أي لم ير لهذه الحرب آثارا سلبية على الولايات المتحدة.

دول قانعة وأخرى تشعر بالظلم

في إجابته حول عزلة روسيا وتصويت 141 دولة ضد روسيا فيما يخص العملية العسكرية؛ قال "دوغين": "أعتقد أن كل شيء سوف يتضح بعد انتصارنا، وعندما ننتصر فإن العالم سوف يكون مختلفا تماما، وهيمنة الغرب سوف تولّي من دون رجعة، وسوف يكون هناك عدد من الأقطاب المستقلة لكي تحدد النظام العالمي وليس قطباً غربياً واحداً. هذه الدول (المنددة) لا تفهم هدفنا، وربما سوف تصفق لنا لاحقا بعد انتصارنا". فـ"دوغين" من خلال حديثة يبدو واثقاً من النصر، ووجهة النظر هذه يشاطره إياها "ميرشايمر"، لكن الفارق بين وجهتي النظر هاتين: أن "دوغين" يرى في الحرب الأوكرانية أنها ستغير وجه العالم، بينما يرى "ميرشايمر" أنها مجرد حرب لن تؤثر في موازين القوى القائم، رغم أنه لم يقل ذلك صراحة. فما هي الخلفية الفكرية التي يستند إليها كلا المنظرين في وجهتي نظريهما؟

في أدبيات العلاقات الدولية يوجد تقسيم معروف للدول من حيث إمكانيات قوتها وانعكاسات ذلك على سلوكها الدولي، وهذه الفئات هي:

أ‌- فئة الدول القوية والقانعة بالأوضاع القائمة.

ب‌- فئة الدول القوية وغير القانعة. (روسيا اليوم مثالا).

ج- فئة الدول الضعيفة والقانعة.

د- فئة الدول الضعيفة وغير القانعة. 

 

هذه الفئة الأخيرة من الدول رغم ضعف إمكانياتها من القوة، ورغم إدراكها لهذا الضعف، فإنها تكون في حالة من عدم الرضا عن استمرار الأوضاع الدولية القائمة، ويرجع ذلك إلى شعورها بالظلم أو الغبن الشديد الذي يقع عليها نتيجة استغلال الدول الأقوى منها لها. لذلك، فهي تكون في جانب التغيير على الرغم من أنها تفتقد كل مقدرة فعلية على إجراء هذا التغيير، ولهذا فهي غالباً ما تنحاز إلى جانب دولة كبرى غير راضية عن استمرار الوضع القائم؛ على أساس أنه إذا ما قُدّر لتلك الدولة الكبرى أن تتحدى الوضع الدولي بنجاح، فلربما انعكس عليها ذلك بميزات جديدة تفتقر إليها قبلاً. ولعل إخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد الرئيس "جورج بوش" حتى الآن، وتململ الإدارات الأمريكية المتعاقبة من لعب دور الضامن الأمني الذي اطلعت به الولايات المتحدة في علاقتها بحلفائها في معظم مناطق العالم جعل عدد هذه الفئة من الدول (الضعيفة وغير القانعة) بازدياد مضطرد. وهذه الدول وغيرها ممن يفضلون القفز إلى قاطرة المنتصر، هي التي يعول عليها "دوغين" بالتصفيق للروس بعد النصر الذي سيقضي على ما تبقى من هيبة أمريكية.

 

أمريكا المرتبكة تفقد هيبتها

"ميرشايمر" في مقال مطول يحمل عنوان "أمريكا المرتبكة" وكان وقتها يتحدث عن ضرورة عدم انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب السورية رغم تجاوز النظام السوري لخطوط "أوباما" الحمراء واستخدامه السلاح الكيماوي في قصف غوطة دمشق؛ عبّر عن وجهة نظره هذه بشكل واضح. أي، رأيه فيما يخص تأثر الهيبة والمصداقية الأمريكية، وقد قال بالحرف الواحد: " السياسة الذكية فعلاً تقتضي من الرئيس تجاهل الخط الأحمر الذي وضعه، واتباع سياسة عدم التدخل في سوريا. تعدّ تلك المقاربة منطقية لعدة أسباب: الأول أن مشكلة المصداقية جرى تضخيمها أكثر من اللزوم. فكما يشير "داريل جي. برس" في كتابه المهم "حساب المصداقية"، عندما يتراجع بلد ما عن قراراته في خضم أزمة يواجهها لا تتأثر مصداقيته بالضرورة في الأزمات اللاحقة. يقول "برس": "إن مصداقية أي بلد في خضم الأزمات على أقل تقدير، لا تتمحور حول سلوكه السابق، بل حول قوته ومصالحه". فحقيقة أن أمريكا تعرضت لهزيمة مذلة في حرب فيتنام، مثلا، لم تدفع موسكو إلى الاعتقاد بأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا الغربية يفتقر إلى المصداقية" . 

تبدو هذه المقاربة لـ"ميرشايمر" غير مفهومة تماما، ففقدان الهيبة الأمريكية أصبح واضحا للجميع، فحتى حلفائها التقليديين (أعضاء الناتو) أصبحوا غير واثقين بأن الولايات المتحدة ستحميهم في حال تعرضهم لعدوان روسي، وموجة الذعر التي اجتاحت أوروبا بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا أكبر دليل. لكن مقاربة "ميرشايمر قد تصبح أكثر وضوحا فيما لو استعرضنا ما أورده أستاذ العلوم السياسية "والتر راسل ميد" في كتابة "السياسة الخارجية الأمريكية؛ وكيف غيرت العالم".

 

أربعة اتجاهات للسياسة الخارجية الأمريكية

لقد اعتبر "ميد" أن السياسة الخارجية الأمريكية منذ نشأة الولايات المتحدة وحتى الآن امتازت بأربعة توجهات واضحة ونسب كل توجه لرئيس أمريكي صاحب رؤية متمايزة عن غيرها، وعرضها على الشكل التالي:

"الهاملتونية": نسبة للرئيس "ألكسندر هاملتون" الذي كان يرى أن التجارة هي القاطرة الأساسية للعلاقات الخارجية الأمريكية، وكان يعتقد أن على الولايات المتحدة أن تكون إمبراطورية مترامية الأطراف مشغولة بتأمين مصالحها التجارية ومصالح شركاتها الكبرى التي ستكون العمود الفقري لاقتصادها. وبالتالي، العمود الفقري لرفاهية المجتمع الأمريكي. وتأمين هذه المصالح يحتاج لأسطول كبير وقوة عسكرية هائلة. وكان يعتقد أن على الإدارة الأمريكية أن تفعل شيئين أساسيين: أولهما أن تعمل الحكومة الفيدرالية جنبا إلى جنب وبالتنسيق الكامل مع الشركات الأمريكية الكبرى. وثانيهما أن تساهم في بناء نظام اقتصادي تعمل فيه هذه الشركات بسلاسة كبيرة. كما كان يعتقد أن على الولايات المتحدة ألا تسمح بقيام أية دولة يمكن أن تهدد مصالحها، ولكن إن حدث ذلك فعلى أمريكا أن تكوّن تحالفا لمواجهة هذه الدولة إما سلما أو بالوسائل العسكرية إن تطلب الأمر. وكان لدى هاملتون تصور يقول إن العالم عندما تتشابك مصالحه التجارية سوف يصبح أقل رغبة في الحرب.

"الويلسونية": نسبة للرئيس "وودرو ويلسون" الذي كان يعتقد أن المحرك الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية يجب أن يكون نشر أمريكا للقيم الرئيسية للولايات المتحدة وهي: قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ونشر اقتصاد السوق أو الرأسمالية. وللوصول إلى ذلك على الولايات المتحدة أن تقوي تحالفاتها مع الدول التي تعتنق مبادئها وأفكارها (وأمريكا بهذه الحالة تحمي مصالحها) فهي كلما سعت إلى نشر هذه القيم بل وفرضها أحيانا على بعض الدول فسوف تصبح محاطة بدول مشابهة ومرحبة بأفكارها. وبالتالي لن تهددها. ومن أجل أن تفعل ذلك لابد أن تفعله بشكل جماعي، وهي بالتالي بحاجة لتحالف قوي، وهذا التحالف من أجل أن يعمل بشكل جيد يجب إنشاء نظام عالمي يشرف على هذه الأفكار، وأنه يجب أن يكون هناك قانون دولي، ويجب أن توجد مؤسسات فوق الدول؛ كالأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وأن تدعم أمريكا مع حلفائها هذه المؤسسات وتتحرك دائما بالتنسيق معهم.

"الجيفرسونية": نسبة للرئيس الأمريكي "توماس جيفرسون" الذي كان يخالف توجهات "هاملتون" و"ويلسون"، ويعتقد أن أمريكا يجب أن تحترم خصوصيات الشعوب الأخرى، وأنه يجب على أمريكا ألا تتدخل في مغامرات خارجية؛ فوظيفة الولايات المتحدة ليست أن تفرض الديمقراطية على الشعوب الأخرى، ولا أن تتبع مصالح شركاتها؛ ففرض الديمقراطية سيورطها في مشاكل ربما تهدد أمنها القومي (البعض يفسر أحداث الحادي عشر من أيلول كرد فعل على التدخل الأمريكي في شؤون الشرق الأوسط). أما تتبع مصالح الشركات فهذا قد يقوض الديمقراطية في الداخل والخارج، فالشركات معنية بالربح، وهي قد تتورط في دعم أنظمة ديكتاتورية، وهذا سيؤدي إلى نتيجتين سلبيتين: الأولى أن هذا سيجعل من أمريكا بلدا منافقا، والأمر الثاني أنه سيؤثر سلباً على الديمقراطية الأمريكية في الولايات المتحدة بمرور الوقت لأنها تدعم نماذج يمكن أن نتأثر بها في المستقبل. 

"الجاكسونية": نسبة للرئيس الأمريكي "أندرو جاكسون" الذي يرفض أفكار هاملتون وويلسون ويتفق جزئيا مع أفكار جيفيرسون فجاكسون يريد "الانعزال"؛ ليس من أجل احترام خصوصية الآخر، ولكن لأن أمريكا غير معنية بالعالم الخارجي بالأساس، و"الجاكسونية" رفعت شعار "عش ودع الآخر يعيش". ويعتبر الهدف الأساسي لأفكار جاكسون هو رفاهية المواطن الأمريكي بالدرجة الأولى، وعلاقته بالعالم الخارجي تقتصر على أمرين: فهو لا يمانع في إقامة علاقات تجارية مع العالم إن كانت ستحقق نفعا مباشرا للمواطن الأمريكي وليس للشركات ورجال الأعمال الأمريكان. وللجاكسونيين موقف معاد أو متشكك من العالم الخارجي. وبالتالي، هم لا يرحبون بالعولمة، ولا بحرية التجارة، ولا بفتح أبواب الولايات المتحدة أمام المهاجرين. هم يعتقدون أن أمريكا مجتمع واحد متجانس وأن أمريكا للأمريكان، والأمريكي ليس من يحمل الجواز الأمريكي، إنما هو الأمريكي غير المهاجر: الأبيض المسيحي، وخلاف هؤلاء هم ليسوا أمريكيين حقيقيين. ولدى الجاكسونيين مواقف غير ودودة من الأديان المختلفة عن المسيحية فهم يؤمنون بالهوية المسيحية لأمريكا، وهذا لا يعني أنهم متدينون وإنما لديهم ثقافة مختلفة تختلف عن ثقافة المسلمين أو البوذيين أو غيرهم. وكان جاكسون لا يرغب أن يتدخل في العالم الخارجي ولكن إذا ما تم تهديد الولايات المتحدة ومصالحها فيجب التدخل بمنتهى القوة والقسوة، فالأمريكي يجب أن يحارب لينتصر، ولا يجب أن يكون هناك أي ضوابط في أدائه العسكري والحربي إلا من خلال أمرين: مصالح أمريكا، والحفاظ على أرواح الجنود الأمريكان، أما أي ضرر يقع على خصومهم فهذه مسألة غير مطروحة أبدا. وكجزء من الفلسفة الجاكسونية: إن أمريكا لا يجب أن يكون لديها حلفاء لأن إقامة التحالفات قد يورط أمريكا في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.

 

أفكار تصدرت.. وأخرى اندثرت

عندما نسقط هذه الأفكار على أرض الواقع سنلاحظ أن أفكار "ويلسون" و"هاملتون" هما اللتان تصدرتا المشهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. وبالنسبة لأفكار "جيفرسون" فقد اقتصرت على الناس المثاليين الرافضين للتدخل في الحروب، أما أفكار جاكسون فيمكن القول إنها اندثرت من السياسة الخارجية الأمريكية وظلت كذلك حتى عام 2016 عندما جاء الرئيس ترامب الذي أحيا الأفكار الجاكسونية وتماهى معها لأبعد حد. والجاكسونيون (الانعزاليون) فئة موجودة في المجتمع الأمريكي و"ولتر راسيل ميد" يعتقد أنها أكثر الفئات تأثيرا في المجتمع الأمريكي وأنها تضم أطيافا من الديمقراطيين والجمهوريين، وهذه الفئة لم تجد من يعبّر عنها وهي أصبحت تتسع وتقوى خصوصا بعد الأزمات، وآخر الأزمات التي حصلت في الولايات المتحدة كانت في 2008- 2009 التي أدت إلى إفقار عدد كبير من الأمريكيين. بعد الأزمة، جاء ترامب في هذه الأجواء وقرر أن يعبر عن هذه الفئة، وبالفعل عبر عنها في مفاجأة بدت صادمة لكل من لا يتابع التغيرات التي تحدث في المجتمع الأمريكي. 

عموما، تتمحور نظرة الانعزاليين حول حقيقة جغرافية بسيطة: ثمة خندقان مائيان هائلان يفصلان أمريكا عن آسيا وأوروبا، ولا يمكن لأي قوة عظمى أن تقوم بعملية برمائية عبر المحيطين الأطلسي أو الهادي. وبالتالي لا يمكن لأي قوة خارجية أن تهدد وجود الولايات المتحدة بشكل مباشر. وعلاوة على ذلك؛ أصبحت الولايات المتحدة اليوم تتحصن بالإضافة إلى المحيطين العملاقين بآلاف الرؤوس النووية، وهي لا تواجه تهديدات في جوارها كونها قوة إقليمية مهيمنة على النصف الغربي من الكرة الأرضية. والانعزاليون الذين صوتوا لترامب رغم كل الفضائح المالية والجنسية وغيرها أصبحوا قوة في الشارع الأمريكي لا يمكن لأي رئيس أمريكي تجاهلها مهما كانت توجهاته، وسيبقى الرئيس بايدن يحسب ألف حساب كلما اتخذ قرارا قد يغضب هؤلاء. وباختصار شديد، يمكن القول إن المزاج العام في أمريكا اليوم تهيمن عليه النزعة الانعزالية إلى حد بعيد.

الآن، يعتقد أن ما ذهب إليه "ميرشايمر" أصبح واضحا (رغم أنه يقول عن نفسه إنه ليس انعزاليا)؛ فليتزعم من يتزعم، وليحصل على الهيبة من يشاء؛ لأن كل ذلك لن يخفي الحقيقة الواضحة للعيان، وهي أن أمريكا هي الدولة الأعظم، لكنها لم تعد معنية بما يحصل في العالم إلا في حدود ما له علاقة بمصالحها، وأنها لم تعد ترغب بلعب دور شرطي العالم المكلف لميزانيتها، والذي تعود فوائده على منافسيها.

 

التعليقات (1)

    رواد ابراهيم

    ·منذ سنة 9 أشهر
    مقال مسهب ممتاز .. سلط الضوء بقوة على الجذور الفعلية للساسية الخارجية لامريكية .
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات