تكمن أهم مساوئنا في عدم الاعتراف بالهزيمة، وعدم محاولة الوقوف عندها وتحليلها تحليلاً عقلانياً لكشف الأخطاء التي سبّبتها، ثم العمل على علاجها حتى نستطيع تجاوزها والنهوض مجدداً للسير في الطريق الصحيح. لكن هذا لا يحدث عادة، فغالباً ما نتهم الآخرين بفشلنا، ولا سيما الغرب - بلدان أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية - الذي طالما تشكّك بأفعال وتصرفات وأقوال كل الذين يقعون خارج نطاقه الجغرافي والثقافي، لأنه يعتمد على العقل والمنطق في خطاباته وعلاقاته؛ لذلك من المفروض على الجميع إقناعه بصدق رواياتهم وحسن نواياهم وصحة مبتغاهم، وملامسته في أطروحاتهم وشعاراتهم، حتى يستطيعوا استجرار عواطفه ودعمه، الذي لا غنى عنه شئنا أم أبينا، مثلما فعلنا في بداية ثورة الحرية والكرامة ومثلما يفعل الآن المقاومون الأوكرانيون الأبطال، من أجل الوقوف معنا بقوة ومساعدتنا في التخلص من ربقة عائلة الأسد الديكتاتورية المجرمة.
عندما كنت في حلب الشرقية بعد تحريرها مباشرة، وفي عنفوان انتصارات ثوارها وارتفاع وتيرة أصواتهم القوية والشجاعة والعميقة والعاطفية، وقبل تعرضها للقصف والتدمير بمختلف أنواع البراميل والحاويات المتفجرة والصواريخ والقنابل وزخات الرصاص الحارق والمتفجر، ودخولنا جميعاً في أطياف الضوء الأحمر الخطرة مع بداية عام 2013، طلبت من أغلب المثقفين (كتاباً وصحفيين وفنانين وأطباء)، ليس في الطرف الآخر من المدينة فحسب وإنما في كل أنحاء سورية، انتهاز الفرصة - التي ربما لن تتكرر في المستقبل القريب- للمجيء والمشاركة في فعاليات الثورة وهي تخطو بمجدها نحو التحرير الكامل للوطن المحتل، ورفع مستوى الخطاب الساذج والمتدني حينها بسبب غياب المثقف النوعي عن الحدث الأهم في تاريخنا الحديث، والمساعدة على الارتقاء بالثوار فكرياً وسياسياً وتنظيمياً على غرار ما حدث في أغلب الثورات الشعبية العالمية، عندما اصطفّ المثقفون بكل أطيافهم مع الثوار العاديين على خطوط الجبهات ووراء المتاريس، مقارعين ببسالة أنظمة القمع والظلم والاستبداد والديكتاتورية...؛ لكن، للأسف، لم يستجب أحد!.. والذي استجاب وتواصل معي كان من أجل مصلحته الشخصية الضيقة: مساعدته على تأمين ممر آمن نحو تركيا له أو لأحد أصحابه أو أفراد عائلته، أو أثناء اعتقال أو اختفاء أحد من معارفه وأقاربه، أو للمبيت أثناء رحلته الأثيرة نحو ربوع الأنصار... وربما، في أحسن الأحوال، يبقى لبعض الوقت، ليحضر إحدى المظاهرات وهو واقف بشكل لا مرئي ولا محسوس على الرصيف البعيد، وكأن لا علاقة له بما يحدث أمامه لا من قريب ولا من بعيد؛ ومن ثم يقوم بوصف الأمر على صفحته في "الفيسبوك" على أنه شارك فيها بفعالية وحماس منقطعي النظير، مخاطراً بحياته ومستقبله من أجل نصرة الثورة، ذاكراً عدد الإصابات والكدمات والجروح التي تلقاها نتيجة مقاومته رجال الأمن، كما فعل همنغواي الذي بالغ جداً في عدد الجروح التي أصيب بها في الحرب!
بعد فترة من الزمن، عندما تحوّل كل شيء في حلب الشرقية إلى محن رهيبة وكوابيس شنيعة لا يمكن تصورها حتى في أحلام صناع أفلام الرعب والعنف الهوليوديين، وتأسلمت أغلب الفصائل، وظهر إرهاب "إخوة المنهج"؛ أصبح لدى أولئك الأشاوس الحجة والبرهان لعدم المجيء خوفاً على عقولهم النبيهة وإبداعاتهم الفذة التي لم تكن تستوعبها غير صفحات جريدة "الجماهير" الحلبية بحضورها ما قبل التاريخي البائس؛ لذلك شقّ أغلبهم طريقه نحو تركيا دون حتى المرور بقسم المدينة الشرقي المنكوب والمستباح من قبل الجميع؛ والتعرف إلى الحرب التي غيّرت أشياء كثيرة في منظومة ما يُعرف بـ "ماهية الإنسان"؛ ودون أن يسمعوا صرخات وجعنا ودموع ألمنا، ليكتبوا أو يرسموا الحقيقة المرة التي عشناها دون تهويمات أو توهّمات أو خلبيات الشجاعة المتقمصة من أولئك الذين صمدوا ودافعوا عن مدينتهم وحقيقتهم الثورية - كما فعل أحدهم وأرسل لي نصاً حول مشاركته في المظاهرات ومن ثم اعتقاله، رغم أنه لم يشارك في أية مظاهرة ولم يعتقل قَطّ!-
مرّ الوقت ضبابياً، وأصبتُ - أنا الغريب - للمرة الثانية في منطقة "تراب الغرباء" بحلب القديمة؛ لكن لا أعرف كيف أخطأ الموت في حساباته؟ ربما في كثافة تدفق الهواء أثناء مواجهة الريح للرصاصة، وليس بأطنان حقد من أطلق الرصاصة المتفجرة؟
تقطعت الروح إلى أشلاء، كما تقطعت المدينة إلى حواجز ورايات وملتحين... أصبحت الحياة صماء بعدما أغلقت الستائر السوداء بقايا الضوء في نوافذ الحلم. وفي فالس الشظايا الساخنة التي دارت في جسدي المنكسر أمام دريئة قناص القلعة لم أجد إجابات مريحة لأعيد توازني الشخصي.. سقطت لبرهة، ثم نهضت لأكمل المشوار... لم أستطع أن أهرب من هناك، ولم أستطع أن أنسى نفسي وهي تجوب أبواب الحرية الجميلة، رغم أنني عشت بلا نور ولا سلام داخلي؛ وتحولت إلى صوت منسي تحت سماء باردة لا تستجيب للدعاء...
فجأة أطفأت المصابيح على وقع سماع التصريحات الخادعة والتقويمات الكاذبة، وارتديت قناع الصمت ليكون أفضل من كل أصوات النشاز التي سمعتها.. سقطت الأشياء في خضم الهرج والمرج حول الفتوحات المبينة، وأغلقت الدنيا موسمها الأخير على خشبة مسرح السقوط المدوي للمدينة المقاومة: حلب!
أنا لست نادماً على شيء؛ يكفي أنني وقفت مع شعبي أقاوم الديكتاتور والمجرم؛ ولم أخن أفكاري وسياق ثقافتي…
خلال إحدى زياراتي لتركيا من أجل صناعة أحد أفلامي الوثائقية، كانت المفاجأة صادمة عندما وجدت الكثير من أولئك (المثقفين)، وقد التحق بعربات قطار الثورة الخارجية عالية الدسم، ليس للإفادة وإنما للاستفادة فقط؛ ولا سيما من خلال العمل في مؤسساتها ومنظماتها ودكاكينها المدعومة بالمال السياسي القذر…
وهكذا، تُرك الثوار (البسطاء) فريسة سهلة لأيديولوجيا التنظيمات الإسلامية الهمجية كـ "داعش والنصرة وأحرار الشام والإخوان المسلمين" وأجندتهم العابرة للحدود والأزمنة...
جرى التحول الكبير بشكل منمق وخادع، ليصبح أغلب القادة، بدراية أو دونها، خدماً للاعبين الخارجيين، وأوراقاً على طاولات القمار الإقليمية، بعدما كانوا محط احترام وإعجاب لدى محبي الحرية والعدالة والديموقراطية في كل أنحاء العالم؛ كما هم اليوم المقاومون الأوكرانيون!
في حمأة الأسلمة الهجينة وتطويل الذقون وحمل المسواك وارتداء اللباس الأفغاني أو الشيشاني مع الكلاش، لم يدرِ هؤلاء الثوار بسبب غياب المثقف الحقيقي، أن الإسلاميين (أصحاب الإسلام السياسي) الذين لا يملكون حساً بالحاضر ولا بالمستقبل ويعيشون في صنمية الماضي الأبدية، هم فاشلون في كل شيء حتى في التقرب إلى الله. وكل أفكارهم، هذا إذا فكروا، لا تتعدى سقف الممول الواطئ والدنيء والسافل، بينما أعمالهم لا تدخل سوى بما يسمى مغامرة جر التاريخ نحو تخلف جديد.. لم يدر الثوار أن هؤلاء الإسلاميين الذين يشبهون بعضهم في عدم تطبيقهم لما يقرؤون من كتاب الله، ويقتصرون فقط على ذكر الاقتباسات من منظريهم وشيوخهم دون فهم أو إدراك لمعنى ذلك، هم من أنقذ الديكتاتور والمستبد وساعدوه على البقاء؛ فبعدما كانت الغالبية السورية تقارعه، توقف بعضهم فجأة وراح يعيد حساباته؛ كذلك حوّل الحلفاء أو ما عُرف بـ "أصدقاء سورية" أولويات دعمهم نحو "قسد"؛ وتركوا غالبية السوريين يتخبطون بين جهات البوصلة السلفية!
إذاً؛ هؤلاء هم في النهاية أول من أفشل المشروع الثوري السوري بأهدافه المدنية والوطنية والحضارية... وهؤلاء هم من سرق بكل سهولة ودون عناء ومقاومة إحدى أعظم الثورات وأنبلها في تاريخ المنطقة!
أذكر أنه في أحد الأيام، وبعد شعور عميق بالإحباط واليأس، قلت: "حسناً ما دمتم تريدون حكمهم الديني المزور؛ فأنا أترك لكم الأمور، ولم يعد لي أي شيء سوى الخروج أو انتظار سكاكينهم الغبية!"!
في النهاية، اعتقد بعض المثقفين أنّ الثورة مُجرّد زوبعة في فنجان ستنتهي في أقرب وقت ممكن؛ وآخرون وصموها بحركة الأكثرية ضد الأقليات الطائفية... لكنهم في حقيقة الأمر تغاضوا، بقصد أو دونه، أنها كانت محاولة شجاعة لمقاومة الظلم والعبودية والخنوع والإهانة، والأهم من ذلك كله أنها كانت ضد الجبن المسيطر على عقول وقلوب المثقفين!
التعليقات (9)