مشواري مع الثورة والأدب-3: وبدأت رحلة البحث عن أهلي في المخيمات

مشواري مع الثورة والأدب-3: وبدأت رحلة البحث عن أهلي في المخيمات

هي ثورة. لسنا في نزهة ولا سياحة. من يخرج للنزهة سيعود إلى بيته، ومن يذهب في سياحة سيعود إلى بلده، ونحن لم يبق لنا مكان نعود إليه، لا بد من العمل هنا في بلاد المهجر، نجهّز أنفسنا لرحلة العودة.

    هي ثورة... لا بد فيها من التغيير في كل شيء: تغيير  النظام, تغيير القيادة, تغيير نمط التفكير الذي درج الناس عليه خلال الخمسين سنة الماضية من حكم الحزب الواحد والقائد الذي رفعوه إلى ما فوق مستوى البشر.

       رجعت من مصر في زيارة. لا بد من البحث عن أهلي. وجدت مكاناً آمنا أضع فيه أشيائي، صار بيت مريم بيتي، فكرت بالبحث عن إخوتي وأهل قريتي، يجب أن نعمل شيئاً مثمراً، ولكن قبلها يجب أن نلم شتاتنا.

 أبي تركته يعود إلى قريته. افترقنا في قرية (كفرتة) في جبل الأكراد. بكى لفراقي بأعلى صوته كما يبكي طفل صغير، ولكن كان لا بد  لي من مغادرة البلد، إخوتي لا أعرف شيئاً عن مصيرهم. بدأت بالسؤال، قيل لي إن النازحين من (الحفة) قد دخلوا مخيم أورفا، قررت الذهاب للبحث عنهم، وتطوع أحد الشباب لمرافقتي، كان اسمه رائد.

       انطلقت مع رائد نرود أماكن تجمع السوريين، ابتدأنا من محطة انطلاق الباصات في أنطاكيا, هناك كان بعض السوريين يبيعون أشياء من المؤن التي جلبوها معهم من بيتهم, زيت الزيتون, ودبس الرمان.. وصابون الغار, انطلق بنا الباص, رائد شاب من شباب قرية (بكاس) التي كان لها النصيب الأوفر من القصف الوحشي والدمار، راح يحدثني عن تفاصيل ما جرى هنالك, وكيف اجتمع الشباب الذي يغلي بالحماسة, وعن الهتافات التي هتفوا بها, كان ممتلئاً نشاطاً وحماسة مثل كل الشباب الذين تركناهم وراءنا في أنطاكيا. وحدثته من الحديث ما يعرفه ويعرفه كل أهلنا.

      حدثته عن غدير,  الموظف في دائرة السجل المدني بالحفة, إذ جاءني متقصّعاً ضاحكاً, في أول يوم لي في العمل بعد اجتياح جنود الأسد بمدرعاتهم وأسلحتهم الثقيلة بيوت قريتنا, يومها لم يعفشوا, لم يكن الأمر بالتعفيش قد صدر بعد, لكنهم ما تركوا تلفوناً أو ثلاجة أو غسالة إلا وخرقوه برصاصهم, وما تركوا عبوة زيت إلا وسكبوا محتوياتها على المقاعد والأسرّة والسجاجيد, جاءني غدير يسأل: "ماذا كانت خسائركم في الأسبوع الماضي؟" قلت له لم نخسر شيئاً, كل ما ثمنه مال هو رخيص, أما الشهداء الثلاثة فنحتسبهم عند الله شهداء. انثنى غدير عائداً بالخيبة، وابتلع الشماتة غصة مرة.

       نزلنا في غازي عنتاب, مركز انطلاق الباصات يزدحم باللاجئين السوريين, نساء وأطفال وقليل من الرجال, يحملون القليل جداً من المتاع, انتقلنا إلى حافلة أخرى متجهة إلى (جيلان بينار)، السهول على جانبي الطريق تذكرني بسهول الرقة والحسكة التي تركناها وراءنا تعاني ظلمات الظلم، وجئنا إلى هنا لعلنا نرتب أمورنا ونعود فاتحين منتصرين، نكنس الظلم والقهر عن بلادنا، غابت الشمس وبدأ الظلام يخيم على الكون فشعرت ببعض الخوف، متى سنصل إلى وجهتنا؟ ما زال الطريق طويلاً.

   حكيت لرائد عن مصر, عن الصحف والمجلات التي أجرت معي المقابلات وكلها لا تزال تتبع للنظام القديم. صور الرئيس المخلوع تتصدر مكاتبها، يكررون عليّ نفس السؤال: هل وجدت في مجمعات اللاجئين تفرقة طائفية؟ أجيبهم باستنكار وهل وقع فعل التهجير والتدمير إلا على طائفتنا السنّية؟! يراوغون ولا ينشرون السؤال ولا الجواب. أحكي لهم عن اختراق المخابرات لثورتنا، عن رئيس اتحاد الكتاب العرب حسين جمعة وبحثه المستميت عن فكرة يقمع بها الثورة، ثم يردد: سننزل نحن في المظاهرات ونهتف بإسقاط النظام, وليأتِ رجال المخابرات أمام الناس, يشحطوننا ويضربوننا ويزجّون بنا في سياراتهم, في يوم الجمعة التالي ننزل في نفس المكان, ونهتف بإسقاط النظام بصوت أعلى, ويضربنا رجال الأمن ويقذفون بنا في سياراتهم, ننزل في الجمعة الثالثة, فيدهش الناس لشجاعتنا وإصرارنا، فيلتفّون حولنا ونصير نحن في قيادة الثورة نقودها إلى حيث نشاء! وهذه أيضاً لم تنشرها وسائل الإعلام، واقتُطِعت من مقابلات الإذاعة والتلفزيون.

وهكذا قطعنا الطريق أنا ورائد. وصلنا مخيم أورفا ليلاً، سأروي لكم عنه في مقال قادم.

 

التعليقات (1)

    منور الناجي

    ·منذ سنتين يوم
    بارك الله فيك أستاذة ابتسام نشهد بأنك قدمت الكثير
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات