رواية (جبل الشك) لفواز عزام: هلوسات لغوية متشردة وحبكة روائية غائبة!

رواية (جبل الشك) لفواز عزام: هلوسات لغوية متشردة وحبكة روائية غائبة!

بعد روايتيه "جبل البداية" و"جبل النهاية" يقرر فواز عزام "جبل الشك" عنواناً لروايته الثالثة، والتي صدرت بطبعتين الأولى العام الماضي عن دار هدوء التي يملكها، والثانية هذا العام عن دار أزمنة للنشر والتوزيع. ولعل عزام في "جبل شكّه" أراد حبكةً تنتمي إلى ما بعد الحداثة، تكون مهتمةً بهدم المقاسات الهندسية للحبكة التقليدية، ثم رفَدَها بنزعةٍ عبثية في فضاء السرد كانت شديدة الودّ من التشكيك واللايقين، فأعادت بحث الجدل الوجودي لمقولات فضائه الحكائي من منظور سردي مفكك، لا يعترف بيقين السرديات الكبرى، ولا بجدواها. ومع هذا لم يفلح، لأن لسرديات ما بعد الحداثة تلك شروطاً ليست متاحةً في حكايته "جبل الشك" التي تظهر أقرب إلى هلوسات لغوية متشرّدة، وهذيان صور ومجازات لا ينقطع حبلها، في الصفحة 50 نقرأ مثلاً:

" ...كانت مغارة قريبة جنوب القرية يقبع فيها ذلك الشاب "دون كيشوت" ورهينته راسيل، واظب نوّار/ آدم على زيارتهما يومياً، وإيصال الطعام لهما، وحتى المساعدة في إعداد العدّة لغزو العالم... كل أصناف السلاح الأزرق الحالم من خشب مسنون إلى معاول رمل إلى جمل مكتوبة على ظهور زواحف…"

الحبكة المرهونة للغة إنشائية فحسب

يدخل الكاتب فضاءه الروائي منهمكاً باستطالات إنشائية يسميها "حوارية لا مفر منها كسابقة لكل التتالي بعدها…" والتي بدت كاسترسال تغذّيه الصور والمجازات بين ضميري هو/هي/ والراوي، نقرأ في الصفحة 19: إني أروض المتعة في المنحنيات لساعات...أشعل حماس الليل ليجرؤ على إخماد أول حرائق الفجر...أغلقُ فمَ الصوت الصاحي في الشوارع...أثيرُ فكرة القمح بين الشجر…

ويتوالى استيراد لغة النثر إلى لغة السرد، فينحجب انتباه ذهن القارئ عن مسار الحبكة، فتلك التشابيه البلاغية يتعالى تواترها وإيقاعها باضطراد، ومن أمثلتها: يلفُ الغسق في جريدة/ عرانيسُ ذرة تقطف الكرز/ يطبخون حجارة قلوبهم.

ثم يختار عزام في بناء حبكته الانتقال تالياً إلى ما يسميه "صفحات مأخوذة من دفتر المذكرات الخاص بالكاتب فواز عزام" وهو يبدأ بتاريخ الأربعاء 30/5/2012، ليتحدث عن مولده بتاريخ 22/5/1981، وعن فقدانه لاحقاً عينه اليسرى بلا سبب واضح، يصف قريته "تعارة" في السويداء بأنها قابعةٌ على حدود الصخر، يقول في الصفحة 36: 

"...لي فيها جرائمُ لم تسجل قتيلاً واحداً، ولي سبع عيون للحب على إطار نوافذها، وست آذان للشهوة على أبوابها، وأربعة أفواه للكذب، وثلاثة شوارع معبّدة للضياع، وطريق واحدة زراعية للوصول".

"جبل الشك" سردٌ لا يصافح انتباه القارئ

لكن زمن السرد الحقيقي يظل منغمساً في البطء، فرحيل آدم/ نوّار من قريته إلى دمشق استغرق عشر صفحات تحت عنوان "العين اليمنى" فنجد الكاتب مثلاً وقد استسلم إلى مزاج الجمل الاسمية، فيما انحسرت تقريباً أفعال الحركة، كما في الصفحة 46، وفيها نقرأ: 

"...الفجر قادمٌ على حمار الضوء، آدم يشعل عينيه بالقوة القصوى للطاقة المتوفرة لديه، ويسحب شريط بقائه من مقبس جدار الغرفة الأيسر، ناهضاً، جاهزاً لتبديل مساره في انزياح لن يبقيه داخل المجرّة…"

وفي الصفحة 73:

"..دمشق تنهض كاملةً تستحم بلغزها...الحدائق تشتعل بوجود المشردين...الحمام لا يطير بل يسرح على الأرصفة...غرف المدينة الجامعية تندى بألم الضجيج...أصحاب المطاعم يعلقون أول أرزاقهم على النار..."

فالسرد ينوء تحت حمل العينين إذاً، عيني الراوي/ البطل، العين اليمنى تقشع الحاضر، أما اليسرى فتستغرق في الماضي، لينفتح السرد على روزبة الأصفاني/ سلمان الفارسي في طريقه من دمشق إلى مكّة، ثم يعود إلى آدم/ نوار وحيداً في غرفته بدمشق.

ثم يطلُّ دفتر مذكرات الكاتب مجدداً في الصفحة 63، يحاول عزام من خلاله إنقاذ إفلاس سرده، ولا يقصد إغناءه على أي حال، نقرأ ما خطّه يوم الجمعة 21/12/2012:...اليوم أُطلق صاروخ سكود من سوريا إلى سورية.. هكذا غدت البلاد تلطم نفسها...scud يسميه الغرب، ويسمّون كل صاروخ لم يصنعوه...        

حتى إن مجازاته الكثيرة، لم يبخل بها عن ما يسرده في دفتر مذكراته ذاك، نقرأ في الصفحة نفسها:...أمتار من حديد تمتد على أعمارنا، من تفاعلات وتكاتف عقول صانعة له فقط لكي يقتل أحلامنا ويحيل ملاعبنا إلى حفر…

المجاز نسب الحكاية الوحيد

ينمو المجاز، يناور الواقعية ولا يعترف بها لدى عزام، فآدم/ نوّار مكث أشهراً كالتمثال في مكانه ينتظر عودة قمر، نقرأ في الصفحة 78:… كان الأطفال يرعونه يومياً طوال شهور ستة، يمشطون شعره، يحممونه، يسقونه الماء، يطعمونه بعضاً من حلواهم، يقصون أظافره، صار لعبتهم المفضلة…

الرمزية إذاً تصير مركز السرد وكليته، فآدم المنتظر لقمر التي هي تجسيد لكل مؤنث بما فيها دمشق يصير رمزاً للانتظار، وربما رمزاً للمعرفة بطرائق الحب والنجاة، إذ عبرته الطلقات التسعون ولم يمت، وحين دخل الجامع الأموي متتبعاً صوت الماء، ظهرت رمزية الرأسين المقطوعين هناك، رأس يوحنا المعمدان، ورأس الحسين بن علي، يبكي آدم مجدداً فيسيل دمعه من ساحة المسجد نحو سوق النقاشين متجهاً إلى الدرج النازل باتجاه "النوفرة".     

في الصفحة 89 تتفوق الرمزية لدى عزام كلياً على السرد الحكائي ومعانيه، فيشير مثلاً إلى العمل الإغاثي في حكاية الثورة السورية بكثير من التورية:

"...كانوا ملائكة مضحكين ينقلون المسكنات إلى مناطق الوجع، ويؤرشفون أسماء من سُحبوا من حضن الحياة إلى الموت الرجيم بأسمائهم بعد أن أسقطوا ثقتهم بالأرقام المجردة"!...  

ويقول في الصفحة 105:

"…آدم القابع في ليل دمشق الداكن والصامت إلا من صوت الحرب وهمسات الحرية المخنوقة تحت المخدّات، خلفه تنام قمر تهذي  بالمؤامرات والرعب، أمامه جدار، يمنه جدار، يساره جدار"... 

لذا لم يستطع التجريب السردي عند فواز عزام من النجاة في "جبل الشك" أو من أن يوقد متعة الاستغراق في الفضاء الروائي، ظلّ التجريب كلّاً فقيراً لم يعوض الفاقد الحقيقي لبنية الحبكة التقليدية المتسيّدة في مدرسة ما قبل الحداثة، فبعد أن تصل قمر إلى دمشق قادمةً من الاتجاهات جميعها، نقرأ في الصفحة 116:

“...هنا يجب أن أكون.. أن أتدخل وأصرخ بلسان الراوي أو نفسي أو شخصياتي لا يهم، المهم أن لا أقع بعد كل هذه الحرب منذ طفولتي إلى الآن فيما يسميه أولاد الزانية: ابتذالاً”.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات