في السياسات الخارجية: هل يحق للسوريين التفاؤل بعد حرب أوكرانيا؟

في السياسات الخارجية: هل يحق للسوريين التفاؤل بعد حرب أوكرانيا؟

ينقسم دارسو ومنظّرو السياسة الخارجية حول الطابع الهدفي للسياسة الخارجية، فهناك اتجاه يرى أن السياسة الخارجية ليست أكثر من عملية قوامها رد فعل لبواعث معينة في البيئة الخارجية والداخلية، أما الاتجاه الثاني؛ فأصحابه يعتقدون أن السياسة الخارجية عملية تكيفية قوامها تحديد أهداف معينة للدولة لإحداث تغيرات في البيئة الخارجية من شأنها أن تعود على الوحدة الدولية بمنافع معينة.

السياسة الخارجية بين التخطيط وردود الأفعال

في الواقع، يصعب على الباحث الادعاء أن السياسة الخارجية للدول تُدار وفق مخططات مُحكَمة. بل على العكس من ذلك، يمكن العثور على الكثير من الأدلة والشواهد التي تثبت وجهة النظر القائلة: ليست السياسة الخارجية سوى ردود أفعال على ما تفرزه البيئتان الداخلية والخارجية، فعلى سبيل المثال: كانت الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي "جورج بوش الابن" تركز على الاهتمام بالداخل الأمريكي؛ لتأتي أحداث الحادي عشر من أيلول وتقلب توجهاته رأساً على عقب، ويتحول البرنامج السياسي لهذا الرئيس إلى الحروب والمغامرات الخارجية. رغم ذلك، لا يمكن إنكار وجود التخطيط في السياسة الخارجية، فإدارة "بوش" التي خاضت حربي أفغانستان والعراق كردّ فعل على أحداث الحادي عشر من أيلول خاضت حربيها وفق خطط محكمة حسب اعتقادها، لكن الذي حصل أن هاتين الحربين كانتا من أفشل المغامرات الأمريكية. لذلك، فالتخطيط بدوره معرض للفشل، فربما تبدأ دولة ما بمخطط ما، ومع الوقت لا يتبقى من الخطة سوى اسمها، إذ تسوق الأحداث والمستجدات الخطة باتجاهات لم تكن في الحسبان، ولعل أجمل تعبير عن الخطة والتخطيط: "ليست الخطة أكثر من حلم يراود أصحابها". وفي هذا السياق يمكن للمرء أن يتساءل: هل كان الاتحاد السوفيتي يخطط لانهياره عندما غزا أفغانستان؟ وهل كانت الإدارة الأمريكية تخطط لأن تجلب العار للولايات المتحدة عندما غزت فيتنام؟ وهل كان هتلر يخطط لهذه النهاية المأساوية عندما اتخذ قراره بشن الحرب العالمية الثانية؟

من الذي صنع الحدث؟

تصلح الحرب الأوكرانية لأن تكون مثالاً مميّزاً لجدلية التخطيط ورد الفعل في السياسة الخارجية، فحول السبب الرئيسي للحرب يمكن القول إنه كان رد فعل روسيّاً تجاه الخط السياسي الذي انتهجه الرئيس الأوكراني، ونزولاً عند رغبة الذين يعتقدون أن كل ما يحصل مخطط له منذ فجر التاريخ يمكننا أن نقبل بمقولة إنه مخطط روسي قديم، أو هو مجرد استدراج أمريكي. أي، هو مخطط أمريكي. لكن هذا القبول يبقى بحاجة لبعض الإيضاحات، فالرئيس الروسي عندما أعلن الحرب – من فرط الثقة – كان يبدو وكأنه يعلن عن بداية نزهة. أما الدول الغربية فقد كانت تشاطره النظرة، وهي كانت تحضّر نفسها لاتخاذ بعض الإجراءات كالعقوبات الاقتصادية والسياسية، والعجز الغربي الذي كان واضحاً مع بداية الحرب ما زالت ملامحه مستمرة حتى اليوم من خلال تحاشي الصدام مع روسيا. والدليل على أن الدول الغربية كانت تعتقد أن غزو الجيش الروسي لأوكرانيا سوف يكون نزهة عسكرية؛ أن هذه الدول عرضت اللجوء على الرئيس الأوكراني.

إن الذي صنع الحدث وجعل المخططات القديمة، من الخطط العسكرية للغزو إلى الخطط الغربية للعقاب؛ تذهب أدراج الرياح هو صمود الشعب الأوكراني المتمثل بجيشه، ورئيسه العنيد "فولوديمير زيلينسكي" الذي رفض فكرة مغادرة البلاد وظهر منذ اليوم الأول للحرب ليقول: أنا هنا صامد. وبغض النظر عن مدى صوابية قرارات هذا الرئيس، لا يمكن لعاقل أن ينكر أن الأوكرانيين فاجؤوا الجميع بتصميمهم على الصمود؛ فتدفقت الأسلحة وارتفع زخم التنديد وتسارعت العقوبات والضغوط، واختلفت الخطط، وبدأ الجميع يتفنّن في إرباك روسيا، وأصبح الغرب يسعى بكل وضوح لجعل أوكرانيا مستنقعاً يغرق الروس في أوحاله.

عودة الروح 

"المستقبل مجهول دائماً" عبارة تصلح لأن تكون قانوناً ثابتاً. وهذا لا يحتاج لإثبات، وهو يتنافى مع مقولة المخططات المحكمة والتي تمتد لسنوات وربما لعقود أو لقرون، ولكنه في نفس الوقت لا يعني أن التخطيط لا قيمة له، أو أن المخططات يستحيل أن تنجح. إذ لا بد من وجود خطة يُسار على هديها، وتقييم الأداء على أساسها، وتعديلها أو تبديلها إذا لزم الأمر، أو تحقيق جزء منها. فالتخطيط موجود وهو ضرورة، فحتى ردود الأفعال يجب أن تتم وفق مخططات محددة، لكن ما نودّ قوله: إن قصص المخططات العابرة للزمان والمكان والتي تسير بانتظام الآلة؛ هي محض خيال.

المستقبل المجهول هو الذي أعاد الروح إلى الشعب السوري الثائر بهذا الشكل الذي تجلى في احتفالات عيد الثورة، فقد خلقت الحرب الأوكرانية بيئة دولية جديدة، يرى الكثيرون أنها جعلت روسيا في مأزق يصعب الخروج منه دونما عواقب مؤلمة. ورغم أن تنبؤات السوريين حيال الحرب يغلب عليها الطابع الرغبوي، إلا أن التنبؤ بسيناريو يجلب الخير للسوريين وثورتهم ليس ضرباً من الخيال.

سيناريوهات نهاية الحرب

بعيداً عن تصنيف الثنائيات الذي هو سمة عامة من سمات تفكيرنا (نصر/هزيمة)، فسيناريوهات نهاية الحرب الأوكرانية أكثر من أن تحصى، ولعل أكثرها استبعاداً؛ هو السقوط المدوّي لروسيا، وربما الغرب ذاته لا يرغب بهكذا سيناريو، إذ كما يقول الكاتب الأمريكي "توماس فريدمان": "لا يوجد سوى شيء واحد أسوأ من روسيا القوية تحت حكم بوتين، وهو روسيا الضعيفة والمَهينة والمخلّة بالنظام والتي يمكن أن تنقسم أو تتعرض لاضطراب قيادة داخلي طويل الأمد، مع فصائل مختلفة تتصارع على السلطة، ووجود رؤوس حربية نووية. إن روسيا بوتين ليست أكبر من أن تفشل. ومع ذلك، فهي أكبر من أن تفشل بطريقة لن تهز بقية العالم".

الأمر الآخر الذي أصبح مستبعداً؛ هو النصر الحقيقي لـ"بوتين"، فقرار الحرب أو أي سلوك في السياسة الخارجية يعني إنفاق الموارد المحدودة على سياسة معينة، وهذا يفرض على الفاعل السياسي أن يحدد شيئين صحيحين حسب "نظرية السياسة الخارجية"، وهما:

أولا: أن الفوائد المتوقعة من إنجاز هذا الفعل لا بد أن تتخطى التكاليف المباشرة المتوقعة له.

ثانيا: أن تكون الفوائد المتوقعة لهذا العمل أكبر من تكاليف الفرصة البديلة. أي، أن تكون الفوائد من العمل الذي تم اختياره أكبر من الفوائد التي يمكن الحصول عليها من جراء اختيار سلوك آخر متاح.

لا مكان للتشاؤم

بهذا المنظور يمكن القول إن روسيا في حال انتصرت عسكرياً في نهاية الحرب، فهو نصر شكلي، أو نصر بطعم الهزيمة، فكل المؤشرات تقول إن خسائر روسيا إلى الآن قد تجاوزت التوقعات. لذلك، ومع افتراض استثناء النصر المأمول من قبل الروس؛ فالنتائج المتوقعة للحرب الأوكرانية بما يخص الثورة السورية هي: المحافظة على الوضع القائم مع ضعف في الموقف الروسي كأسوأ احتمال، والوصول إلى تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة كاحتمال أفضل. بالإضافة إلى ذلك، لقد أصبح احتمال الثورة على النظام من قبل حاضنته احتمالاً قويّ الحضور، وخاصة أن جميع التوقعات تقول إن العالم مقبل على أزمة غذاء، ومعلوم لدى الجميع أن من هم على حافة المجاعة أكثر عرضة للتأثر بمثل هذه الأزمات. لذلك، فثورة الجياع ربما تكون قاب قوسين أو أدنى. وآخر ما يمكن قوله في هذا السياق: إن النظام السوري اليوم يعيش ما يشبه الكابوس.

التعليقات (4)

    .

    ·منذ سنتين 3 أسابيع
    تحليل دقيق

    عبد الغني محمود

    ·منذ سنتين 3 أسابيع
    الخطأ الأكبر للدب الروسي أنو استشار الطرطور وسمع منو بعد ما قللو اتكلوا على الله بقى لازم يعاقبو عقوبة مميزة على قد البهدلة اللي صارت

    يوسف اليوسف

    ·منذ سنتين 3 أسابيع
    مقال اكثر من رائع قراته مرتين.وفيه الكثير من الواقعية السياسية البعيدة عن تفكيرنا المالوف الذي يسبح في فلك نظرية المؤامرة بارك الله بك استاذ مصطفى

    لا بشائر

    ·منذ سنتين أسبوعين
    لا دليل على أن الشعب يمكن أن ينجح بأي حركة ضد السلطة القمعية، ربما وقفة هنا او استنكار هناك كما حدث في السويداء. السبب الرئيس أن الشعب عندما قام بثورته ظن أن من يمثلونها في أعلى الهرم كانوا فعلا بنفس المسار وتبين أنهم لا يختلفون في أغلبهم عن لصوص الصلطة ومتسلقيها. فأصيب الشعب بصدمة جعلته يكفر بالسلطة والثورة وانخمد صوته إلا من أنين يظهر على شكل وقفات احتجاجية
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات