استدراج أمريكي لروسيا في أوكرانيا.. والقطبية المهيمنة

استدراج أمريكي لروسيا في أوكرانيا.. والقطبية المهيمنة

استطاع الأمريكيون زرع الشك في ذهن الكرملين حول مصير أوكرانيا، هذا الشكّ تمثّل باحتمال انضمامها لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، إضافة لإمكانية قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي، وهو ما أيقظ الخوف لدى بوتين، وعزّز تصميمه على استعادة المجال الحيوي المنقرض للإمبراطورية الروسية بعهديها قبل ثورة عام 1917 وما بعدها.

الأمريكيون أرادوا استدراج الروس إلى شن حربهم على قاعدة هذه المخاوف، بغية تحقيق عدة أهداف تخدم إستراتيجيتهم المستقبلية، ومنها إجبار الروس على الانشغال بمحيطهم الحيوي من جهة، وفرض عقوبات اقتصادية شديدة الوقع عليهم، الغاية منها تبديد القدرة على تحقيق وتطوير تنمية بلادهم، إضافة إلى استنزاف متعدد يشمل تكاليف الحرب بشرياً واقتصادياً وسياسياً.

بوتين الذي يمثّل الخلاصة الكثيفة لذهنية أنظمة القمع الشمولية، والرأس المدبّر للأوليغارشية المالية والاقتصادية الروسية، يدرك أهمية استعادة ما يعتقده مجالاً حيوياً لبلاده، وهو تحدّث عن عهود الإمبراطورية الروسية في عهد بطرس الأكبر ودولة السوفييت، وهو بذلك يمهّد لاستعادة هذا الدور المنقرض، عبر آلته العسكرية المدججة بسلاح نووي تدميري.

بوتين ونظامه، يريدان أن يغيّرا قواعد اللعبة السياسية الدولية الحالية، القائمة على مبدأ قطبية أمريكا الوحيدة عالمياً، وهو باجتياحه أوكرانيا وتدمير نظامها الديمقراطي الوليد، إنما يوسّع من نفوذ روسيا ومن إمكانية خلقها قطباً دولياً ندّاً للقطب الأمريكي.

روسيا وأمريكا وبوتين

الروس حسبوا أن حربهم ضد نظام زيلينسكي ستكون خاطفة، دون أن يضعوا في الاعتبار ردود الأفعال الحقيقية للغرب عموماً، وللولايات المتحدة خصوصاً، وهم وفق ذلك، شنّوا حربهم، ولكنهم اكتشفوا أن تحقيق أهدافهم السياسية أمر صعبٌ، سيما وأن استدراج الجيش الروسي إلى حرب عصابات في أوكرانيا، سينهك هذا الجيش، ويدفع الطغم الأوليغارشية إلى إعادة حساباتها بعيداً عن طموحات رأسها "بوتين".

حرب بوتين على أوكرانيا، أيقظت خوف أوروبا من تهديدات هذه الحرب عليهم، ومن اندفاعة روسية محتملة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، من خلال محاولة بوتين قضم أوكرانيا بطريقة أو أخرى، لتشكّل لاحقاً عتبة حروبه الأخرى، لاستعادة الشرق الأوروبي من القبضة الغربية.

الأمريكيون وقبل الحرب بكثير، كانوا ضد مشروع نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، لأن ذلك يساعد نظام بوتين على الدفع بتنمية مضطردة، تشكّل لاحقاً حلقة تحالف اقتصادي وسياسي وعسكري مع الصين وربما مع الهند أيضاً، ما يهدّد جدياً هيمنة القطبية الأمريكية على العالم.

الأمريكيون يريدون من الأوربيين استبدال مصدر تزويدهم بالطاقة، عبر الاعتماد عليهم بدلاً من الروس، حيث يمكنهم تلبية حاجات أوروبا من هذه الطاقة، وهو يعني زيادة ارتباط الاقتصاد الأوروبي الغربي بعربة الجرّ الأمريكية، التي تقود الاقتصاد العالمي، وتثبّت زعامة الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد من جهة، وتعطّل عوامل التنمية الروسية من جهة أخرى، وتقطع الطريق على إمكانية تحالف حقيقي محتمل بين الروس والصينيين، هذا التحالف لو تعزّز اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً فإنه سيشكّل قطباً جديداً نداً للقطب الأمريكي الحالي.

إذاً، شنّ الروس لحربهم على أوكرانيا كانت خطوة استباقية لتشكيل قطب دولي جديد، يمهّد لتشكّل عالم متعدد الأقطاب، وهي بنفس الوقت محاولة لاستعادة إمبراطورية فات وقتها التاريخي، ولهذا أراد بوتين شنّ هذه الحرب الخاطفة وفق حساباته، دون أن يحسب حساباً لاحتمال انفتاح هذه الحرب على مدى زمني طويل، ما ينهك جيشه واقتصاده، ويخلق ظروفاً سياسية جديدة معترضة على هذه الحرب في الداخل الروسي.

هنا تأتي قيمة الاستدراج الأمريكي للروس في أوكرانيا، فالرئيس جو بايدن قال إنه لن يرسل جنوده للقتال ضد الروس في أوكرانيا، لكنه سيدعم الأوكرانيين في مقاومتهم للغزو الروسي، وجعل هذا الغزو باهظ التكاليف، وبناء على هذه الرؤية، قدّم الأمريكيون والأوروبيون أسلحة خفيفة ومتطورة، فتكت بمدرعات الجيش الروسي وحيّدت طيرانه، ما جعل الجيش الروسي يدخل في حرب غير تلك التي خطط لها بوتين.

إن الاستدراج الأمريكي للروس في أوكرانيا يشكّل حلقة من حلقات الحرب الاقتصادية والسياسية القادمة مع الصين، فإضعاف الروس من خلال تورطهم بالحرب في أوكرانيا، سيجعل من روسيا عبئاً على حليفهم الصين، ولهذا لم تتورط الصين بمساندة الروس خشية أن تتحول هذه الحرب إلى استنزاف غير محسوب لديهم.

إن إنهاك روسيا في أوكرانيا سيكون له نتائج متعددة ومختلفة، فبالرغم من حجم التضحيات التي سيقدمها الشعب الأوكراني في مقاومته للغزو الروسي، فإن الروس سيجدون أنفسهم أمام استحقاقات فواتير صراعات أخرى مع الغرب، سواء في ملف تدخلهم في ليبيا، أو دفاعهم المستميت عن نظام الأسد، أو غيرها من قضايا الصراع مع الغرب الأوروبي ومع الولايات المتحدة.

استنزاف الروس في أوكرانيا يحدث الآن، وزيارة بايدن لأوربا هو لوضع أطر الاستنزاف المختلفة قيد التشغيل، وظهر هذا من خلال توقف ستريم2، ومن خلال انعطاف الألمان نحو تطوير وتوسيع صناعاتهم العسكرية، التي تأتي على أرضية تخوفهم من حرب روسية قادمة ضد أوروبا.

وفق ما تقدّم، يمكننا القول إن جوهر الصراعات بين روسيا والغرب يقف خلفه الصراع الاقتصادي، فالاقتصاد محدّدٌ رئيس لأي تطوير وتقدّم واستقرار سياسي، ولهذا، لن يسمح الغرب للروس بالعمل على تشكيل القطب العالمي الثاني، وهم يقبلون روسيا كدولة ليست عظمى بالمعنى الاقتصادي، ولا يقبلون بتصنيفها كدولة عظمى اعتماداً على حيازتها للسلاح النووي، الذي يقابله سلاح مماثل لدى الغرب.

إن إمكانية إطالة مدى الحرب في أوكرانيا إمكانية محتملة وكبيرة، فاستمرار استنزاف الروس في هذه الحرب، سيمنعهم من توفير القدرة العسكرية والاقتصادية اللازمتين لهما، لتهديد استقرار أوروبا بعد سقوط المنظومة الشيوعية السوفييتية، وهذا الخيار هو أقل كلفة من خيارات أخرى لدى الغرب والولايات المتحدة. كذلك سيضعف دور روسيا وتدخلها في سوريا،ما سيغيّر في معادلات الصراع الحالية التي يستفيد منها نظام الأسد.

إن اكتشاف بوتين لهذه الحقيقة يعني وضع حربه على أوكرانيا موضع المراجعة، فانسحابه من هذه البلاد، يعني إقراراً بخسارته للحرب، ما يجبره على دفع فواتير سياساته العالمية.

أما استمراره فيها فهو نزيف لا يقدر على المدى الطويل دفع استحقاقاته، ما يمهّد الطريق لإبعاده عن السلطة من قبل جيشه ومجموعته الأوليغارشية.

في كل الحالات، لا يمكن لبوتين أن يعلن انتصاره على أوكرانيا ونظامها الديمقراطي حتى لو بسط سيطرته العسكرية عليها، فهو غير قادر على تحويل انتصاره العسكري فيما لو حدث إلى استثمار سياسي رابح لروسيا ولنظامه الشمولي المرعب. 

التعليقات (3)

    وامعتصماه

    ·منذ سنتين شهر
    قلنا وما زلنا أن امريكا هي الشيطان الاكبر وهي لغت فكرة أرسال الجيوش لكي لاتتحمل خسارة جنودها وتأليب الرأي العام الأمريكي على قادتها لتنفيذ مؤامراتها على البشرية وأستطاعت بدهائها أستدراج الدب الروسي إلى المستنقع الأوكراني وهناك ستدفع ثمن الدماء التي ساهمت في سفكها ولن تخرج من هذا المستنقع إلا بحرب عالمية وبدأت النار تعسعس وغداً ت *وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون *

    وامعتصماه

    ·منذ سنتين شهر
    قلنا وما زلنا أن امريكا هي الشيطان الاكبر وهي لغت فكرة أرسال الجيوش لكي لاتتحمل خسارة جنودها وتأليب الرأي العام الأمريكي على قادتها لتنفيذ مؤامراتها على البشرية وأستطاعت بدهائها أستدراج الدب الروسي إلى المستنقع الأوكراني وهناك ستدفع ثمن الدماء التي ساهمت في سفكها ولن تخرج من هذا المستنقع إلا بحرب عالمية وبدأت النار تعسعس وغداً ت *وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون *

    وامعتصماه

    ·منذ سنتين شهر
    قلنا وما زلنا أن امريكا هي الشيطان الاكبر وهي لغت فكرة أرسال الجيوش لكي لاتتحمل خسارة جنودها وتأليب الرأي العام الأمريكي على قادتها لتنفيذ مؤامراتها على البشرية وأستطاعت بدهائها أستدراج الدب الروسي إلى المستنقع الأوكراني وهناك ستدفع ثمن الدماء التي ساهمت في سفكها ولن تخرج من هذا المستنقع إلا بحرب عالمية وبدأت النار تعسعس وغداً ت *وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون *
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات