أيام قليلة تفصلنا عن شهر رمضان المبارك، شهر يحمل صبغة دينية شعبية تراحمية، تفرض طقوسها بقوة بين أطياف المجتمع على اختلاف طبقاته وحالآته. شهر يستعد الناس لاستقباله أيما استعداد، فما بين حركة اقتصادية متنامية وروحانيات تتعانق في وجدان المقبلين على فريضة الصوم، يبقى لرمضان وقع ديني في نفوس السوريين بشكل عام، لم تمحُه أو تضعفه سنوات الحرب وآلامها وإجرام ميليشيات أسد خلالها مهما امتدت.
وفي مدينة إدلب التي باتت حاضرة الشمال المحرر، وأيقونة الثورة السورية، يستقبل الأهالي قدوم الشهر المبارك بمبادرة لافتة.. يطلقون من خلالها حملات تطوعية مثيرة للإعجاب... حملات ترسم البهجة والإيمان في صور تحكي عما اعتاد عليها الناس هنا.. كطقس احتفالي جماعي يتجلى في تنظيم وتنظيف المساجد لاستقبال الصائمين والمصلين. أورينت نت رافقت الأدالبة في مساجدهم فرصدت وجوههم المستبشرة واطّلعت على مراحل مبادرتهم الشعبية وأعدت التقرير التالي..
البداية من المسجد الكبير
في مدينة إدلب وفي حيها الشرقي، بين حنايا المسجد الكبير فيه، تنشط حركة الأهالي على اختلاف أعمارهم وأعمالهم بل وثقافتهم لتنظيف مسجدهم وكسوته بالجديد النظيف، كخلية نحل تسابق الوقت لإنهاء العزم قبل دخول رمضان، وعن هذه المبادرة تحدث لأورينت نت الشيخ (محمد الأحمد) إمام وخطيب الجامع الكبير في إدلب قائلاً "بتوجيهات من وزارة الأوقاف، قمنا نحن لجنة الجامع الكبير بدعوة الناس ودعمهم للمشاركة في تنظيف المسجد وتجهيزه لاستقبال المصلين، من خلال مبادرة شعبية في الأيام المتبقية من شهر شعبان، عملاً بقوله تعالى {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} نبتغي الأجر والثواب عند الله، وخدمةً لعباده، ويتم تنظيم العمل للمتطوعين كلاً حسب خبرته أو رغبته من أعمال المبادرة المختلفة، ويشهد الجامع الكبير إقبالاً منقطع النظير من جيرانه أو من غيرهم للعناية به، كونه يحظى بقدسية خاصة، ويتم أيضاً ندب المتطوعين إلى باقي مساجد إدلب، كون المبادرة تشملها جميعاً، تحت إشراف كل لجنة في مسجدها، ليكون العمل عاماً ومنظماً، ونستغل الوقت في إنهاء المبادرة في الوقت المحدد ولكل المساجد إن شاء الله".
وأضاف الشيخ (الأحمد) "تتعدد طرق القربى لله، ولكنها لا تقتصر على نوع معين أو نسق رتيب، وتبقى الروحانية المتولدة من العمل المباشر ببيوت الله أفضل وأزكى للنفس، لهذا تكون مثل هذه المبادرات محط أنظار الجميع، وبمجرد دخولك لبيت الله فهو كرمٌ منه، ولقد قال العلماء إذا أردت أن تعرف مقامك فأنظر أين أقامك".
أساس المبادرة ومبتغاها
شهد الجامع الكبير في إدلب العام الفائت إعادة ترميم كاملة، الأمر الذي جعله في حاجة أكثر من غيره للمبادرة العملية، ناهيك عن قدسيته التاريخية والمكانة الحاضرة في نفوس الإدلبيين، يشهد حملة تنظيف داخلية وخارجية كغيره من المساجد بنفس الوقت، فعن الأعمال الخارجية حدثنا (سعيد أبو علاء) أحد جيران المسجد قائلا ً "نحن مجموعة من عدة أشخاص، مهمتنا الأساسية الإحاطة بحاجة المسجد خارجياً، كإصلاح الجدران وتنظيفها من الغبار والأتربة، ومسح الأبواب والنوافذ، بالإضافة لإصلاح المصابيح و "البلجكتورات" على الجدران والساحة الرئيسية والعناية بتسليك الصرف الصحي".
أما عن الأعمال الداخلية أجملها الحاج (أبو أحمد) بقوله " نحن حوالي خمسة عشر رجلاً نقوم بتنظيف المسجد وموجوداته من الداخل مثل الجدران والمصاحف والرفوف، بالإضافة لغسيل كل سجاد وحصر الجامع في الساحة ونشرها على جدرانه، وتبديل المصابيح الكهربائية التالفة".
وعن الغاية من الاستجابة للمبادرة تحدّث (فادي طويل) بقوله "سأتكلم بلسان حال الجميع، فلا شك أن المتاجر مع الله يربح، جميل أن نكون مهتمين بشعائر الله ظاهراً وباطناً، ظاهراً بتنظيفها والعناية بها، وباطناً بالصلاة والعبادة وإصلاح القلب، ونحن بحاجة جميعاً للأجر والثواب من خلال خدمتنا في بيوته، ونسأله تعالى أن يتقبل منا".
تكاتف اجتماعي.. وعمل تطوعي
لم تقتصر المبادرة على جيران المساجد أو جماعة معينة بل لبّت نداءها أناس من كل أنحاء مدينة إدلب، حيث طالعتنا قصة آل سليمان من أهالي مدينة إدلب الذي اجتمعوا في ساحة المسجد الكبير للعناية به وحدثنا عن ذلك (مصطفى سليمان) قائلاً "نحن نسكن بعيد عن مسجد إدلب الكبير بمسافة بعيدة في الحي الشمالي وقدمت للمسجد برفقة ثلاثة من إخوتي وابن عم لنا، كوننا كنا موجودين أيضاً في ترميم المسجد العام الفائت، ونتحرى مثل هذه الأعمال لنكون سباقين إليها، فالعنابة ببيوت الله شرف ورفعة، وأدعى لدخول الجنة، وسنستمر كل أيام المبادرة في المسجد الكبير وغيره أيضاً، وعندما نجتمع ونأتي للمسجد نشعر بروحانية كبيرة وتآلف منقطع النظير وكما ترى كل العاملين الآن تعلوهم البهجة والحماس على الرغم من تساقط أمطار الخير بغزارة ضمن المسجد وفنائه الذي نحاول حالياً الاستفاده منه في تنظيف سجاد و حصر المسجد".
من جهته أكد ذلك (أكرم سليمان) بقوله “الكل يعلم ما لرمضان من فضل وخصوصية، حيث يجتهد الناس فيه بالعبادة والقربات ومن أعظمها الاهتمام بالمساجد، فعندما يدخل الإنسان إليها وهي نظيفة مرتبه وبأبهى حلة يجد في نفسه الرضا والطمأنينة والراحة النفسية، وعسى أن نكون قد أسهمنا في ذلك وكتبت لنا عند الله”.
وتبقى الثوابت الإيمانية متجذرة في نفوس السوريين وجزءاً متيناً من ثقافتهم وعلاقتهم مع ربهم، لا يلغيها أي قانون ولا يبدلها أي تضييق، فعندما يتعلق الأمر بالخير العام أو الناحية الدينية لا يوفر أحد أي جهد، ويُلقون بضيق العيش وقساوة التهجير بسبب الحرب أو غيرها خلف ظهورهم، ولا ترتبط خدمة مساجد إدلب بأهل إدلب فقط بل، بكل سوري حر، حيث إن المبادرة جمعت روح المجتمع السوري من شتى المحافظات في مكان واحد.
التعليقات (0)