لاءات الثورة تلك التي أعادنا إليها أحمد برقاوي في كتابه

لاءات الثورة تلك التي أعادنا إليها أحمد برقاوي في كتابه

يختار د.أحمد برقاوي سلسلة من مقالات الرأي التي نشرها، ليشيّد بها كتابه الجديد "سوريا في لاءات الثورة" وهو أول كتاب تصدره أورينت نت ضمن مشروع (كتاب أورينت) الطموح الذي عزمت عليه، وإن كان المؤلف يفارق في هذا الكتاب المنهجية المعتادة في تأليف الكتب الفكرية  من فصول مستقلة، وحواشٍ ومراجعَ واقتباسات، فإنه يكسب رهان تقديم المحتوى السلس، الهيّن، ويوسّع من قاعدة التلقي لكتابه، فيخرج بذلك من دائرة تقديم المحتوى النخبوي إلى القارئ النخبوي، والكتاب يقع في 170 صفحة غلافهُ للفنان علي فرزات، وقد تضمن أيضاً 15 لوحة فنية من أرشيف الفنان حلمي التوني.  

بلوغ سوريا من ثمانية محاور

استعادة سوريا الحقيقية، سوريا مجتمع الشرارات، الصراع على سوريا والصراع من أجلها، سوريا دولة السلطة، سوريا وسلطة الوهم المسلح، سوريا وشروط العيش الآن، سوريا المستقبل، المستقبل السوري بين المنهج العلمي والرجم بالغيب. تلك عناوين  حثّنا إليها د. أحمد برقاوي في كتابه، وفيها يظهر معنى سوريا متصلاً، من حلقات ومضامينَ متعددة، يقول في الصفحة 26: ...سوريا المحتلة تحتاج إلى حركةٍ تُحرر سوريا، وليس إلى حركات تابعة لهذا الاحتلال أو ذاك، والقرار السوري المستقل لن تنجزه إلا حركة سورية مستقلة تلقى التأييد الشعبي العربي والعالمي، وتغدو نداً وليس أداة لهذا أو ذاك، والوعي بهذا كله شرط ضروري لخلق الإرادة الفاعلة، وإلا فلا…  

       
ثم يُكسب الكاتب رمزية الهشيم في سرعة اشتعاله صفةً للمجتمع السوري، بل وإلى السلطة نفسها التي تحتاج اليوم إلى شرارة، وهذه المرّة تكون من المجتمع كله.


فالأصل أن هناك ثورة انفجرت في سوريا ضد نظام سياسي لم يعد الشعب قادراً على تحمله، أي نشأ صراع من أجل سوريا في صورة ثورة شعبية، بالمقابل تداعت قوى الصراع على سوريا الغرب وأمريكا وتركيا من جهة، وروسيا والصين وإيران من جهة ثانية.


لكن الثورة من أجل سوريا، كما يفهمها برقاوي ،في خطر على كل الأطراف التي تفكر وتسلك وفق منطق الصراع على سوريا. إذ إن الثورة انفجرت في سوريا ضد سلطة غاشمة، وليس تمرداً على دولة، فالتمرد جرى على سلطة دمرت دولة، فكان هدف الثورة هو قيام الدولة بمفهومها المعاصر، حيث المواطنة والحق والحرية وما يترتب على هذه المفاهيم من قيام مؤسسات فاعلة في تحقيقها.


وتشهد سوريا بحسب الكاتب نمطين من العنف يمارسان التدمير بكل أشكاله والقتل بكل أنواعه، الأول عنف الوهم السلطوي الدنيوي، والثاني عنف الوهم المقدس. ويضيف في الصفحة 40: ...لن تنهزم الأكثرية السورية التي هي صانعة الممكن الحقيقي لسوريا، ليس نوعاً من الحتمية والتفاؤل الصادر عن الأمنيات، بل تأكيد لانهيار العالم القديم.


أيضاً فإن شروط الحياة الآن تظهر متناقضة كل التناقض مع كل سلطة استبدادية، ومع كل سلطة  أيديولوجية شمولية أو غير شمولية، وإن أي سلطة مستبدة باسم أي أيديولوجيا بحسب الكاتب لا يمكن أن توفر شروطاً كهذه الشروط للحياة، سواء كانت سلطة أصولية علنية، أو أصولية مستترة.


يقول البرقاوي في الصفحة 43: ...لأول مرة في تاريخ الاستعمار تستدعي سلطة حاكمة دولتين لاستعمارها: دولة في بداية تحولها الرأسمالي، ومحتفظة بإرثها الشمولي الستاليني في الحكم وهي روسيا، ودولة تنتمي إلى وعي العصور الوسطى تخضع لمبدأ حق الملوك الإلهي في الحكم(إيران)..


ثم يضيف الكاتب إليهما نسق الاستعمار الأمريكي والتركي لسوريا، الأول باعتماده على حركة مسلحة لأقلية قومية، والثاني بفضل قوى إسلامية حليفة له.

 
ويعود ليرسم لنا ملامح حقل التوقعات الذي كان متصلاً بالثورة السورية فيما يخص حدود درجة العنف الذي ستستخدمه السلطة، الدعم الدولي، الدور الإيراني، وما الذي سيقوم به الجيش الحر، ويعتبر أن ظهور الحركات الأصولية المسلحة وقضاءها على الجيش الحر كان خارج حدود هذا الحقل، بالإضافة إلى التدخل العسكري الروسي، والطعنات الأمريكية الأوروبية، والدور التركي، والدور العربي المتقلقل. وهذا الطيف غير المتوقع لم يكن خطأ في الوعي المعرفي على حد وصف الكاتب، بل الخطأ الفادح هو في التعامل مع ما لم يكن متوقعاً ووقع.


الديكتاتورية والحرية وأضداد أخرى

في معنى التسوية واستحالتها، شذرات في الطاغية، الديكتاتور واغتيال الرموز الوطنية، الطاغية ومملكة العبيد، الحر والعبد، إلى المتمرد الذي يصنع للحرية تاريخها، الموقف والمعنى،  قطاع طرق التاريخ مرة أخرى. وتلك عناوين استيقظت أيضاً في الفضاء العام السوري، وصار سبرُ معانيها أو إعادة بحثه شأناً فلسفياً ملحاً. فيرى الكاتب أن التسوية التي يسعى ظاهرياً إليها العالم في الصراع الدائر بين حق الشعب السوري في الحرية والديموقراطية من جهة، والباطل المطلق للدكتاتورية والاستبداد من جهة أخرى، هي تسويةٌ مستحيلة باعتبار أن التسوية تعريفاً هي حلٌّ لنزاع حول الحق. فالطاغية ذات السلطة المطلقة تدمن على القوة والسيطرة، وعلى امتداد عقود والطغاة يعملون خناجرهم في روح التاريخ – الشعب، كذلك يعتبر برقاوي أن الطاغية مؤسس سياسات الهبش والنهب والفساد والقتل، ويقول في مواضعَ متعددة من كتابه: "الطغاة قتلة الأمهات، لا يفلح قوم تولى أمرهم طاغية عسكري، روح الشعب مصطلح لا يعرف معناه الطاغية، قطيع الديكتاتور سرعان من ينزوي في ركن مظلم من زوايا الوسخ التاريخي".

 

وينظر إلى الخراب الذي يلحقه الديكتاتور بالذاكرة الوطنية على أنه أكثر خطورة من الخراب الذي يلحقه في مجالات الحياة الأخرى، وهذا ما يحاول فعله الديكتاتور وأجهزته القمعية فالتاريخ يبدأ به وبتجلياته الزائفة.


كذلك يعرّف الكاتب الطاغية بأنه العبد المطلق للسلطة، ومملكة العبودية تتكون من عبد طاغية وأدوات عبيد وشعب من العبيد، فينقلك نظام الطاغية والعبودية من زمان تملكه، إلى زمان مسروق منك، ولعل وعي العبيد بعبوديتهم هو الشرط الأول لتحولهم إلى فاعل تاريخي، كما يحول الطاغية الوطن إلى طاولة قمار، ويقحم عبيده في عالم القتل والحروب أمام الثورة الشعبية. فالمتأمل فيما يجري على وجه الخصوص في سوريا والعراق واليمن ولبنان يدرك أمرين: تنوع قطاع الطرق الداخليين، وصراعاتهم وتبعيتهم لقطاع الطرق الخارجيين على حد وصف المؤلف، الذي يعود ويقول في الصفحة 64: ...إن واقع العبودية والحرية مرتبط بوعي الأفراد بذاتهم، أي وعيهم بالحرية والعبودية، والعبودية بغير أوانها التاريخي هي داء ومرض عضال، ولا يمكن الخلاص من فيروسات هذا الداء إلا بثورة تلقح المجتمع بلقاح مضاد لكل أشكال العبودية..


والدكتاتور القاتل والذي ولد في بنية قاتلة يواجه المعاني النبيلة للبشر النابعة من شعورهم بالحرية بمعانٍ زائفة تخفي معنى وجوده الوضيع في الحكم عبر القتل، فتصبح العروبة والممانعة والصراع مع الصهيونية ومواجهة الإرهاب عدته الأيديولوجية لجر العدد الأكبر إلى ساحة معركته المنحطة.


كما تظهر مجموعة من النصائح يلقيها الكاتب أمام قارئه، مثل: إذا قطعت نصف الطريق إلى غايتك العظيمة فاحتفظ بما أنجزت، في جميع الدروب الوعرة المؤدية إلى الحرية هناك قطاع طرق ملثمون تحاشاهم واصبر عليهم، حين ترفع سلاحك بوجه الطغيان لا تشغل يدك الأخرى برفع غصن الزيتون.

 

متفرقات في الراديكالية والإرهاب، الآخر المختلف كلياً

قول في الاستقامة المنطقية، الخلاص الزائف، في الوعي الثوري، الطائفية والوجود الزائف، الإسلاماوية والإرهاب، المستنقعيون والراديكالية الزائفة، راهننا وحزام الفاشية،صراع الجثث. يخطف د. أحمد برقاوي مصطلحاته التوصيفية من فم اللغة، وفلسفتها، يفعل ذلك بلا مشقة، وكأنها كانت منظورةً أمامنا ولا نراها، ويحاول هنا تطويق الراديكالية من جهةٍ أخرى، ونبش تربة الأصولية، واكتشاف علاقة كل ذلك بمواطن الثورة السورية، يقول في الصفحة 82: كل من يقيم فارقاً بين أصولية سنية عنفية أو سلمية، وأصولية شيعية عنفية أو سلمية ومنحاز طائفياً لا تتوافر فيه الاستقامة العقلية، فأحمد الأسير، وحسن نصر الله شيء واحد من حيث الماهية.


كما يعتقد الكاتب أن فكرة الخلاص الوطني تنتمي إلى حقل الكفاح الشعبي من أجل الحرية، والكرامة والاستقلال الوطني، وإن رسم صورة المستقبل للأوطان المدمرة مستحيل دون إجابة المعارضة  باعتبارها عقل المستقبل الوطني عن سؤال: كيف يكون الكفاح الوطني مستقلاً ومعبراً عن الهوية الوطنية؟


ويرى أيضاً أنّ من مثالب الوعي الثوري السوري عدم الانسجام بين الوعي والممارسة، وهناك نمط من المنتمين للوعي الثوري يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، ويذمون أي اختلاف معهم في زاوية الرؤية.


ثم يتساءل في الصفحة 119 عن الشروط التي تحوّل الانتماء الطائفي إلى تعصب؟ إلى طائفية تنطوي على حقد وعنف؟


وباعتقاده فإن التعصب الطائفي ليس سوى التعبير الأيديولوجي الزائف لعصبية تسعى نحو السيطرة، أو مسيطرة، أو مواجهة طائفية مع طائفة مسيطرة، وفي كلٍّ شر، وأن الكارثة السورية التي تولدت من طائفية السلطة العسكرية الأمنية الإعلامية والتي خلقت التعصب لديها وضدها معاً.


أما الإرهاب فيراه عصبية سياسية أيدولوجية متعصبة بين جماعة من الناس تأخذ شكل التنظيم وتتوسل العنف ضد الأفراد والجماعات والدول لتحقيق أهدافها، والإرهاب المتعين الآن في الوطن العربي هو إرهاب إسلاموي شيعي وسني يستمد حضوره من العامل الديني من جهة ومن تبعيته لوظائف بعض الدول من جهة ثانية .


فالإسلاموية  بوصفها مصيدة أيديولوجية لا تفعل فعلها إلا بفضل بنية الطرائد اللاشعورية المؤسسة منذ الطفولة في شروط التربية والحياة، وهي صندوق باندورا في الأسطورة اليونانية.


ويعتبر الراديكالية موقفاً جذرياً لا مساومة فيه من حيث المبدأ، ويصنفها برقاوي بين راديكالية ذات ارتباط بالحقيقة، راديكالية متخلفة، وراديكالية أصولية.


والمتأمِل بجمهور الدكتاتوريات الفاشية سيجد أن العصبية لهذه الدكتاتوريات إما عصبية طائفية أو مناطقية أو عسكرية قروية، وفي سوريا اتحدت فاشية النظام ورعاعه مع الفاشية الأصولية لتخريب منطق التاريخ وهذا نجده في الصفحة144.
إن الركود التاريخي نوع من الثبات المجتمعي بسبب غياب أو تغييب قوى اجتماعية محركة للتاريخ، بحيث يسود نوع من الاستنقاع الذي يخلق مع الأيام ما يسميه الكاتب جثثاً مجتمعية، ويتميز صراع الجثث هذا بحالة عنفية مطلقة لا يؤدي ولن يؤدي إلا إلى عملية دفن الواحدة للأخرى.

المستنقع،العودة إلى البدايات 

في بداية كتابه، يربط د. أحمد برقاوي بين خلو المجتمع من قوىً اجتماعية سياسية محركة للتاريخ، وبين تحوله إلى مستنقع، ويصف في الصفحة 16 المستنقع السوري بأنه الأوسع والأعمق من بين المستنقعات العربية، لذا كان البركان الذي انفجر فيه هو الأشد، وينظر إلى الاختلاف بين الطغاة على أنه اختلاف نسبي مرجعه اختلاف الحقل الثقافي الاجتماعي الذي ظهر فيه كل طاغية.


ثم يتساءل: كيف للبراكين العربية أن تجفف المستنقع، وكيف يمكنها الحيلولة دون أن تكون مستنقعاً آخر؟


بالأصل تتشابه الجماعات التسلطية في بلدان الربيع العربي في ماهية ممارساتها، وتختلف في صور ممارسة التسلط وأشكاله، وفي عصبياتها المتنوعة، ويجد الكاتب هذه العصبية التسلطية الذهنية في النموذج السوري مختلفةً عنه في النموذج اليمني والليبي والتونسي والمصري والسوداني، فهي أعقد، إذ إنها عصبية طائفية أخذت بالتبلور منذ العام 1970، بحيث صارت الذهنية التسلطية الطائفية ترى المجتمع عدواً طائفياً لها، وهي لا تمتلك فضلات قوة من الحاكم الأول المطلق كما في مصر وتونس، بل تمتلك القوة نفسها.


ينهي برقاوي كتابه بالبحث عن خاتمة للمصير السوري، فيعتبر أنه لا يمكن للنخبة السورية أن تكون جزءاً من إرادة التغيير والتحول إلا بوعي جديد يقيم القطيعة المعرفية والأيديولوجية مع التفكير الإرادوي، ويضيف في الصفحة159: ... إن الثورة والثورة المضادة هما صورتا الصراع حول سوريا، وجميع القوى الفاعلة تخوض الصراع انطلاقاً من هذا المفهوم.


ويحصي الوقائع التي نشأت وتعيش الآن بوصفها محددات لما هو آتٍ:
الانهيار شبه التام لسلطة الدولة والدولة، وانهيار وحدة السوق الاقتصادية، والشروخ الاجتماعية، والقوى الإسلامية، وفقدان الأمان الفردي والجماعي.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات