الجحيم الأوكراني.. خسائر روسيا البشرية خلال حروبها الغاشمة

الجحيم الأوكراني.. خسائر روسيا البشرية خلال حروبها الغاشمة

أطلق قادات الكرملين العنان لأكثر من حرب دموية على مدى العقود الماضية؛ لكن جميعها تقريباً انتهت بخسائر فادحة لروسيا في الأرواح والمعدّات. اعتمدت إستراتيجيتهم على زجّ أعداد كبيرة من المقاتلين والآليات في المعارك غير مهتمين بوقوع الخسائر البشرية والمادية في صفوفهم أو في صفوف خصومهم.. المهم بالنسبة لهم هو احتلال أكبر قدر ممكن من الأراضي، ومن ثم فرض الطابع الروسي القسري عليها؛ لذلك تجدهم يقدّسون - مثلاً - الأمير ديمتري دونسكوي باعتباره جامع الأراضي الروسية، حيث تمكن حينها من توسيع حدود إمارة موسكو بشكل كبير. ومن الطبيعي أن يكون فلاديمير بوتين معجباً أيضاً بسلفه ويسير على خطاه، فمنذ وصوله إلى السلطة عام 2000 وهو يقضم، كالجرذ الذي لا يشبع، بأراضي الآخرين، مستنداً إلى تواريخ مزوّرة وحجج واهية: شارك في الحرب الشيشانية الثانية، وغزا جورجيا، واقتطع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، ودعم الانفصاليين في إقليمي دونباس ولوغانسك، وقاتل من أجل الإبقاء على عصابة الأسد المجرمة في سدة الحكم، وشن منذ أيام هجوماً واسع النطاق على أوكرانيا. ومع ذلك، أصبحت هذه الحرب الأخيرة جحيماً حقيقياً لقوات جزار الكرملين؛ ولا يمكن مقارنة معدل خسائره هناك بأي حرب أخرى سابقة!


لا توجد إحصاءات دقيقة عن الخسائر التي تكبدتها روسيا في حروبها، فقد قلل الكرملين بشكل روتيني من الأرقام حتى يخفي الحقيقة؛ لكنه في المقابل قام بزيادة عدد ضحايا عدوانه محرفاً الأرقام لرفع الروح المعنوية لجيوشه ومواطنيه.


توفر المصادر المختلفة عدة بيانات يمكن من خلالها الحصول على فكرة عامة عن الخسائر التي لحقت بروسيا في الحروب الغاشمة التي أطلقتها. لنبدأ بالحرب الأخيرة للاتحاد السوفيتي، والتي أدت في الواقع إلى استنزافه ومن ثم ساعدت على انهياره.

أفغانستان


استمرت الحرب في أفغانستان مدة عشر سنوات (1979 – 1989)؛ وقد خدم خلالها ما يزيد على نصف مليون عسكري سوفيتي. نشرت صحيفة "برافدا" بيانات عن ضحاياها لأول مرة في أغسطس آب 1989. وبحسبها فقد قُتل هناك زهاء 13835. ارتفع الرقم الإجمالي بشكل طفيف في وقت لاحق، حيث ظهرت معلومات بعد عقد من الزمن، تفيد بأن الخسائر بلغت 14427 من ضباط وأفراد الجيش، و576 من المخابرات (كي جي بي)، و28 من وزارة الداخلية... هذا يعني أكثر من 15 ألف قتيل في المجموع!


بالإضافة إلى ذلك، تم اختفاء أكثر من 400 عسكري في أفغانستان بين أسير ومفقود. وبلغ عدد الجرحى والمصابين قرابة 54 ألف شخص.

الشيشان


كانت حروب الشيشان صعبة جداً على روسيا. ووفقاً لبيانات السلطات الروسية، فقد قُتل ما لا يقل عن 11 ألف عسكري خلال كامل فترة النزاع المسلح هناك.

الحرب الشيشانية الأولى


رافق الحرب الشيشانية الأولى، التي استمرت من 1994 إلى 1996، خسائر فادحة في صفوف القوات الفيدرالية الروسية؛ فقد لقي معظم المقاتلين الروس حتفهم أثناء الهجوم على العاصمة غروزني في أول شهرين من العام 1995!


أفادت القيادة المشتركة للقوات الفيدرالية الروسية بعد انتهاء النزاع مباشرة أن العدد الإجمالي للقتلى وصل إلى 4103. في حين تحدث "اتحاد لجنة أمهات الجنود" عن مقتل 14 ألفاً بين 1994 و1996. نُشرت فيما بعد دراسة عن خسائر روسيا في حرب الشيشان الأولى عام 2001 تحتوي على الأرقام التالية: 5042 قتيلاً، 690 مفقوداً، 17892 جريحاً ومصاباً. وبحسب مُعدّي الدراسة، وصلت خسائر القوات الفيدرالية إلى 5732 شخصاً، بما في ذلك 3860 جندياً، و1872 عنصراً من وزارة الشؤون الداخلية والإدارات الأخرى... أما المصادر الشيشانية، فقد تحدثت عن 80 ألف قتيل في صفوف الغزاة الروس!

الحرب الشيشانية الثانية


لم تكن الحرب الشيشانية الثانية أقل دموية من سابقتها رغم أن عدد الضحايا كان قليلاً نسبياً قبيل الهجوم على العاصمة غروزني؛ وبحسب الأرقام الروسية الرسمية بلغ إجمالي خسائر القوات الاتحادية في الفترة من أكتوبر 1999 إلى ديسمبر 2002 نحو 4572 قتيلاً و15549 جريحاً. ومع ذلك، فهذه الأرقام لا تشمل الخسائر أثناء الأعمال القتالية في الجمهورية المجاورة داغستان التي اندلعت فيها المعارك بين شهري أغسطس - سبتمبر 1999، وبلغت 280 قتيلاً و987 جريحاً روسياً. هنا يجب الإشارة إلى أن هذه الإحصاءات تخص وزارة الدفاع فقط، ولم تشمل وزارة الشؤون الداخلية التي تكبدت خسائر أيضاً.


أفاد وزير الداخلية الروسي الأسبق رشيد نورغالييف في أبريل 2010 أن 2178 ضابط شرطة لقوا حتفهم في الشيشان خلال عشر سنوات. كذلك أعلن القائد العام للقوات الداخلية نيقولاي روجوجكين في يونيو 2010، لأول مرة عن الأرقام الرسمية لخسائر القوات الأمن الروسية خلال الحربين الشيشانيتين الأولى والثانية. وبحسب قوله فقد قُتل 2984 شخصاً، وأصيب 9000 آخرون من وزارته أثناء القتال.


استمرت "عملية مكافحة الإرهاب" - كما أطلق عليها الكرملين حينذاك -  حتى عام 2008. البيانات الدقيقة عن الخسائر غير معروفة؛ لكن يمكن العثور في مصادر مختلفة على أرقام لما يقرب من 6 آلاف شخص. ومع ذلك اعترف النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع بـ "مجلس الدوما" أندري كراسوف في مارس 2021 بالتالي: "خلال النزاع المسلح الداخلي الأول في شمال القوقاز في الفترة 1994-1996، قُتل 5042 عسكرياً وأصيب 19794 آخرون. بينما خلال العملية بين أعوام 1999-2002، قُتل أكثر 6 آلاف عسكري وأصيب 15549".

جورجيا


كان للحرب التي استمرت خمسة أيام (7 - 12 أغسطس 2008) عواقب جيوسياسية واقتصادية وخيمة، حيث اعترفت روسيا رسمياً بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا كدولتين مستقلتين.. في اليوم التالي لوقف إطلاق النار، ووفقاً للمعلومات الأولية من نائب رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية أ. نوجوفيتسين، بلغ إجمالي الخسائر 74 قتيلاً، و19 مفقوداً، و171 جريحاً.


خفّض مكتب المدّعي العسكري الروسي س. فريدنسكي هذا الرقم بعد بضعة أسابيع، فقد نشر البيانات الجديدة في 3 سبتمبر مؤكداً أن الخسائر هي 71 قتيلاً و340 جريحاً. ثم صرح نائب وزير الدفاع نيقولاي بانكوف في فبراير 2009 أن 64 جندياً قُتلوا وفُقِد 3 وجُرِح 283 في جورجيا. وبعد عام من الحرب، أعلن نائب وزير الخارجية غريغوري كاراسين مقتل 48 وإصابة 162 بجروح فقط.


ظلت المعلومات الرسمية حول خسائر القوات المسلحة الروسية أثناء النزاع متناقضة، لذلك من الصعب تحديد عدد الغزاة الروس الذين لم يعودوا من هناك. نشرت "وكالة الأنباء الجورجية" معلومات حول الخسائر في صفوف العسكريين المهاجمين ومعداتهم أعلى بعدة مرات من الخسائر التي أعلن عنها الجانب الروسي.. كذلك صرح الرئيس الجورجي آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي في 12 أغسطس بأن خسائر العدو البشرية أكبر بكثير مما ذكر، وقد تكون في حدود 400 قتيل.


سوريا


بدأ التدخل العسكري الروسي في سوريا 30 سبتمبر 2015، حيث تمركز قرابة 4000 عسكري في البلاد. يمكن العثور على معلومات مختلفة حول خسائر الغزاة الروس في سوريا كما في حالة جورجيا. من الواضح أن الكرملين يخفيهم بعناية.


اعتباراً من ربيع 2019، أكدت وزارة الدفاع الروسية رسمياً مقتل 116 شخصاً من القوات المسلحة الروسية؛ في حين أكد نائب "مجلس الدوما" المذكور أعلاه أندريه كراسوف، أن عدد العسكريين الروس الذين قُتلوا هناك حتى مارس 2021 بلغ 112 عسكرياً.


إن الأرقام الرسمية لا تأخذ في الاعتبار أن الروس لم يشاركوا في المعارك البرية واكتفوا أغلب الأحيان في قيادتها عن بُعد وإشراك سلاح الجو لدعم الميليشيات الأسدية والإيرانية واللبنانية والأفغانية، لذلك لم تقع خسائر كبيرة في صفوفهم؛ إلا إذا أخذنا بالحسبان مرتزقة "مجموعة فاغنر" الذين قاتلوا في معارك تدمر واستعادة آبار النفط مقابل الحصول على نسب معينة من وارداتها في المستقبل. ومع ذلك، قد يصل العدد الإجمالي لقتلى الغزاة الروس في سورية لنحو 300 قتيل حسب البيانات غير الرسمية. 

أوكرانيا


لا تزال الخسائر البشرية الروسية متواصلة في أوكرانيا؛ ومع ذلك لا تعترف حكومة جزار الكرملين إلا بعدد قليل منها.
اعتباراً من صباح 2 مارس 2022، خسر الفاشيون الروس 5840 قتيلاً حسب البيانات ذات الصلة من قبل هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية. في يوم واحد من الحرب هناك فقد الجيش ووحدات القوى الأخرى ما يقرب من ألف شخص. وخلال الأيام الستة الأولى للغزو، تكبدت روسيا نفس الخسائر التي تكبدتها في الحربين الشيشانيتين، وبشكل ملحوظ أكثر مما تكبدته في جورجيا وسوريا بأضعاف مضاعفة.
اعترف رئيس شبه جزيرة القرم سيرجي أكسيونوف على قناته في "تيليغرام" (11 مارس 2022) ولأول مرة منذ بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، بأن هناك قتلى بين القوات التي تم إرسالها من القرم، دون أن يحدد عدد الذين لقوا حتفهم.


أفادت هيئة الأركان العامة الأوكرانية صباح 11 مارس أن أكثر من 12 ألف جندي روسي قُتلوا في أوكرانيا، بينما اعترفت روسيا رسمياً بنحو 500 قتيل. وفقاً لوكالة المخابرات الأمريكية، قُتل ما بين 2000 - 4000 جندي روسي؛ بينما لا يوجد تأكيد مستقل للبيانات الخاصة بخسائر قوات الكرملين في أوكرانيا حتى الآن.


شيء طبيعي أن تقلل روسيا من خسائرها بشكل كبير، ومن الصعب الوثوق بتقارير مسؤوليها. وبهذا الصدد كتب أليكسي نافالني المعارض والسجين السياسي أن دعاية بوتين تخفي الخسائر الحقيقية للحرب، وتلتزم الصمت حيال الدمار الذي لحق بالدولتين نتيجة ذلك: "أقول لكم كمشاهد تلفزيوني. حتى العدد الرسمي لخسائر الجيش الروسي - 498 شخصاً - لم يُذكر أبداً على شاشة التلفزيون. دعاية بوتين تصور ما يحدث هكذا: لا يوجد قتلى تقريباً من كلا الجانبين، لقد هرب الجيش الأوكراني، ولم يكن هناك دمار تقريباً.. استقرت "عصابات النازيين" في مكان ما، لكن سيتم القضاء عليها قريباً. الأوكرانيون يحيون الدبابات الروسية بالورد. إن العيش في مثل هذا التصور للعالم لن يبقى طويلاً حتى في أذهان الحمقى والعنيدين"!


قال رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي في 12 آذار 2022 إن الجيش الروسي يعاني من خسائر لا يمكن تصورها: "إن قواتنا المسلحة تبذل كل ما في وسعها لحرمان العدو من أي رغبة في مواصلة الحرب ضد بلدنا. خسائر القوات الروسية هائلة. إن ديناميكيات خسائر الغزاة في اليوم السابع عشر هي بالفعل من النوع الذي يمكننا أن نقول بثقة: هذه أكبر ضربة للجيش الروسي منذ عقود. لم يخسروا في أي مكان آخر كما خسروه عندنا خلال مثل هذا العدد من الأيام. فقدت مجموعة الكتيبة التكتيكية الحادية والثلاثين للعدو فعاليتها القتالية منذ بداية الغزو. الجيش الروسي يستسلم ليس واحداً تلو الآخر، وإنما في مجموعات كاملة".

عادة تفقد جيوش الغزاة فعاليتها القتالية بعد خسارة 15 ٪ من أفرادها. وهنا لابد من التأكيد أن روسيا قد دفعت بما يقرب من 200 ألف عسكري لاجتياج أوكرانيا.. هذا يعني إذا قتل 30 ألف منهم فإن هذا سيشكل 15٪!


سيكتمل هذا العدد من الضحايا الروس خلال الأيام القليلة القادمة، لأنه بمجرد أن أصبح واضحاً فشل "الحرب الخاطفة" للمعتدين، لم يعد هناك تقريباً أي شخص في أوكرانيا يرتاب في قوة تشيكلات المقاومة. إذا بقي الجيش الروسي محبطاً تماماً ويفقد قدراته القتالية بشكل مستمر، فإن هذا سيرفع الروح المعنوية للمدافعين ويزيد من ثقتهم بأنفسهم وببلدهم وبرئيسهم، ما سيؤمّن النصر لهم ربما ليس في القريب العاجل، لكن من الممكن في وقت لاحق.


أوقف المدافعون الأوكرانيون العملية الهجومية لقوات الاحتلال الروسية من جميع الاتجاهات بعد أسبوعين من انطلاقها. وها هي تتكبد خسائر فادحة في الأفراد والأسلحة والمعدات خلال الأعمال العدائية. وهنا لابد من تذكر دروس الحرب العالمية الثانية.


لقد كان واضحاً بأن هتلر سيخسر الحرب نهاية عام 1941، عندما فشلت جيوشه في احتلال لينينغراد وموسكو وهزم بالقرب من ستالينغراد. وعلى الرغم من أن نقطة التحول حدثت نهاية عام 1941، إلا أن السلام لم يأت إلا في مايو 1945.


لقد تجاوزنا بالفعل نقطة التحول في الحرب الروسية الغاشمة ضد أوكرانيا، ما يجعل الغزاة غير قادرين على دخول العاصمة كييف والمدن الكبيرة الأخرى بسهولة. ومع ذلك، إذا قمنا بإجراء المقارنة مع الحرب العالمية الثانية، فإن النصر يستحق تخزين القدرة على التحمل والصبر والتضحية.


من الواضح أن الكثير من الأشياء يمكن أن تسوء بالنسبة لروسيا في غزوها لأوكرانيا، فإن وتيرة الأحداث واتجاهها الحاليين تشير إلى أنها ستخرج من الحرب معزولة وضعيفة وأكثر عرضة لخطر الانقسام والسقوط.

التعليقات (1)

    Nabil

    ·منذ سنتين شهر
    شكرا دكتور علي💚
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات