كتب أرّخت للثورة-6: (عطب الذات) العام الصعب الذي أعاد برهان غليون ترتيبه بكتاب

كتب أرّخت للثورة-6: (عطب الذات) العام الصعب الذي أعاد برهان غليون ترتيبه بكتاب

يرتقي كتاب "عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل: سورية 2011-2012" لمؤلفه د. برهان غليون أول رئيس للمجلس الوطني إلى مرتبة الوثيقة التاريخية التي ترسم حدود الفضاء العام للاجتماع السوري بشقه المعاصر جداً، وذلك باتكائه المتقن على منهج التحليل الموضوعي، والسرد التاريخي للوقائع، ورفدها بالوثائق المؤرشفة بعناية، ومن دون الوقوع في أفخاخ الاستنتاجات العاطفية الرمزية لمدلولات الحدث بانعطافاته السياسية والاجتماعية الصعبة.


لقد أراد الكاتب مقاربة الواقع من مضامينه المجردة لا الاستنسابية إلى لحظة تاريخية، أو طرف سياسي بعينه، ونجح بتدبيج محتوًى لافت لجهة العمق، والاستطراد التحليلي المتقن الذي يحمل أيضاً مقاربات السيرة الذاتية، فالمؤلف كان له الدور البارز في الحياة السياسية بعد الثورة، وإن رغب البعض بإنكار ذلك عليه، واعتباره أكاديمياً مرموقاً فحسب، لكن الكتاب يسد الحاجة المعرفية لفهم الزوايا الضيقة التي انحشرت فيها المعارضة السورية في ترتيب بيتها الداخلي ومقولاتها على السواء في الفترة الممتدة بين العامين 2011 و 2012. 

   
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 2019 عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، والكتاب يقع في سبعة فصول:
الفصل الأول: مقدمات
الفصل الثاني: الثورة والمعارضة، إفلاس النخبة السياسية
الفصل الثالث: من الانقسام إلى الفوضى
الفصل الرابع: خيارات السياسة والحرب
الفصل الخامس: إسلاميون وعلمانيون، صراع الأيديولوجيات المأزومة
الفصل السادس: فوضى العالم 
الفصل السابع: انقلاب التاريخ، من الانتفاضة إلى الكارثة

الترك وعبد العظيم قطبا المعارضة ومشكلتها!

يطرح غليون مجموعةً من المقدمات المنطقية، منها العلاقة الجدلية بين المثقف والسياسي، فلا يمكن للإنسان أن يكون مثقفاً أي صاحب قضية من دون أن يكون في العمق سياسياً، ويعتبر أنه في معركة الحرية يكون التقاء الفكر والسياسة في ذروته. ولا يستغرق غليون كلياً في السرد النظري، إنما يسترق مقاطع زمنية من حياته، ويربطها بالمتغير السياسي، محاولاً أن يخفف من إسراف القارئ في تتبع الجانب الفكري من الكتاب، ويشير الكاتب إلى أن المهمة الرئيسية للمثقفين كانت بعد ربيع دمشق هي فرض فكرة وجود معارضة على النظام، وتجاوز خلافاتهم وتذليل العقبات التي تحول دون تشكيل قطب ديموقراطي يضم الجميع...الصفحة 51


في هذا الفصل أيضاً يتحدث غليون عن رياض الترك بما يمثله، وحسن عبد العظيم بما يمثله أيضاً، ويعتبرهما قطبي المعارضة السورية، ومشكلتها في الوقت نفسه. كما تصل قراءة الكاتب في هذا الفصل إلى النمط الاقتصادي الذي ساد عقب موت حافظ الأسد، لنقرأ في الصفحة 62: ...تم نقل الثروة العامة من ملكية الدولة الاسمية إلى ملكية المسؤولين وأبنائهم، ونشأ أكبر اقتصاد مافيوي، أفضل ما يناسبه من الوصف هو "رأسمالية العائلة". 


يحلل الدكتور غليون وهو أستاذ علم الاجتماع السياسي في فصل كتابه الأول، الظرف الموضوعي في تجلياته الأكثر تواتراً وظهوراً في الفضاء العام، ويصل إلى بدايات الثورة السورية، ويرى أنه في المرحلة السلمية الأولى من الثورة لم تظهر الآثار الخطيرة لافتقار الحقل السياسي السوري إلى هياكل العمل التنظيمية، ثم يتحدث عن مأزق غياب إطار سياسي متماسك يستطيع أن يحمل راية الثورة، ويربطه جدلاً بالتقريب بين قوى المعارضة الداخلية والخارجية التي غرقت في التفاصيل والخلافات فيما بينها. يقول في الصفحة 81: ...أدركت بالخبرة الحية الاختلاف الكبير بين ماهية الثورة ودينامياتها العميقة، وماهية المعارضة وحساباتها، والتباين للظاهرتين.

 

ممتلكات مجموعة العمل الوطني ورياض الأسعد!

يصف الكاتب "إعلان دمشق" - وهو عبارة عن ثلاثة تكتلات إعلان دمشق والإخوان المسلمين ومجموعة العمل الوطني - بأنه القوى الرئيسية التي تقاسمت النفوذ داخل المجلس الوطني، وتنازعت على قراره، فالإعلان يعتبر نفسه القائد الفعلي للمجلس، ويريد منه أن يطبق ما يمليه عليه، وهو الذي أصر أن تكون رئاسة المجلس تداولية ولمدة شهر واحد، قبل تعديل تلك المدة لتصبح ثلاثة أشهر.
أما الإخوان المسلمون، فهم القوة المؤثرة الثانية في المجلس، لكن لم يكن لديهم طموح لانتزاع قيادة المجلس الوطني، يقول غليون في الصفحة 105: ….يمزج الإخوان المسلمون بين عقائدية جامدة ومنهج براغماتي يجعل مسيرتهم تكتسي بشكل متزايد طابعاً انتهازياً يسهّل عليهم الدخول في تحالفات والخروج منها وتكرارها من دون كبير اهتمام أو مراجعة أو مساءلة لأنفسهم.


القوة الثالثة لجهة التأثير الكبير على مسار قرارات المجلس، كانت مجموعة العمل الوطني، وقد دخلت المجلس باسم "كتلة الـ 74" كأحد التنظيمات السبعة المؤسسة له، وكان همهم أن يتصرفوا في المجلس على أنه مجلسهم أي ملكيتهم الأدبية، ولهم الحق في التصرف فيه، باعتبارهم شكلوا أول طبعة من المجلس الوطني السوري تحت اسم المجلس الوطني المؤقت، وقد كان سلوكها بحسب وصف غليون أقرب إلى سلوك اللوبي ومجموعة الضغط منها إلى سلوك الشريك في بناء إطار وطني جامع.


ثم يتحدث د. برهان غليون عن علاقة المجلس الوطني بالجيش الحر، يصفها، ويضعها في إطارها الموضوعي، ويبين في الصفحة 122 ما ترتب على رفض المجلس الوطني ترفيع رياض الأسعد من رتبة عقيد إلى رتبة لواء، وما ترتب على ذلك من مقاومة الأخير تنظيم كتائب الجيش الحر في هيكلية واحدة، والأخذ بقواعد القيادة الوطنية وسلسلتها وخشيته من أي مشروع لدمج الضباط المنشقين مع الكتائب التي كانت تخضع له.


وسرعان ما أدى تعددُ المرجعيات الميدانية لقيادات الجيش الحر في العام 2012 إلى خمسة مجالس قيادية لم يثبت أيٌّ منها كما يرى الكاتب، فيقول في الصفحة 133: ...إن غياب القيادة العسكرية المركزية، والإشراف السياسي على الفصائل قد حرمها من أي رؤية وطنية توجه عملها، وتركها فريسة سهلة للقوى الإسلامية السلفية المتأهبة، والمدعومة من أكثر من نظام إقليمي ودولي.

المجاس النازف، وجعٌ في عدّة مواضع

لا يطمس المؤلف في الفصل الثالث من الكتاب الزّلات التي ألمّت بالمجلس الوطني فجعلته يغدو ذراعاً للجيش الحر وقادته، بل يعود وينصب قوائمها مجدداً لتسهيل فهم تدحرج الأزمة الوجودية لمكونات المجلس، فيرى الكاتب أن المجلس الوطني حين نسي عمله ومهامه السياسية برُمّتها انتهى كمؤسسة سياسية، وتحول إلى جوقة من المدافعين عن الجيش الحرّ، والمصفقين لحمَلة السلاح.


وإذا كانت هيئة التنسيق هي معارضة المعارضة في صيغة المجلس الوطني على حد وصف الكاتب، فإن تمسك الأحزاب الكردية وكان أغلبها ضمن تشكيلي إعلان دمشق وهيئة التنسيق الوطنية بمطلب الفيدرالية كشرط لدخول المجلس، قد ساهم في تفعيل هواجس الرأي العام السوري من مسألة الانفصال، والتشكيك المبكر بنوايا الأكراد، يذكر غليون في الصفحة 184: …. إن السبب الأكبر الذي حال دون تفاهم أحزاب الحركة القومية الكردية مع التيار العريض للثورة السورية ضد بشار الأسد، وكذلك دون تفاهمها فيما بينها هو تبعية أطرافها إلى قوى كردية خارجية في العراق وتركيا…
كذلك يتناول الكتاب الصعود المفاجئ للداعية محمد عدنان العرعور، وهو المتمرس بالخطابة والمجادلة الفكرية والسياسية، وتحوله إلى مفتي الثورة، وقائدها الفعلي. إذ إنه انتزع عواطف جمهور الانتفاضة لوحده، مستغلاً الفراغ السياسي الكبير الذي تركته  المعارضة المدنية، بما فيها الأحزاب الإسلامية المعتدلة.    


التدخل الخارجي، وهمٌ اصطاد الجميع

مع تحوّل قمع النظام إلى حرب ضارية، وتراجع فاعلية الثورة السلمية، وزوال شروط استمرارها، ازداد التعلق بوهم التدخل الخارجي، على أنه الحل الوحيد للتدمير الذاتي الذي تحدث عنه فاروق الشرع نفسه. يقول غليون في الصفحة 214: لم أكن في أي يوم من أنصار التدخل الأجنبي، بل كنت دائماً أقول إن سبب مشاكل المشرق وأزماته هي التدخلات الأجنبية.


وحدوث مثل هذا التدخل الخارجي في سوريا وجده الكاتب مستحيلاً، لأن سياسة الغرب في سوريا لا يمكن أن تُصاغ من دون التشاور مع إسرائيل، ويذكر أن هذه القضية شقّت صفوف المجلس الوطني في الأشهر الأولى لعام 2012، بينما كان في أوج صعوده الدبلوماسي. كما إنها شقّت صفوف المعارضة السورية كلها.


أيضاً يتنقّل غليون شارحاً الحوامل الموضوعية، وتكاثف الأسباب التي أدت إلى تسليح الثورة، ويحصي هنا ثلاثة منها، الأول هو تصميم النظام ذاته عليه، والثاني هو انقطاع الأمل في إيجاد مخرج سياسي للأزمة، والثالث هو تخبط المعارضة وعجزها عن تقديم أي خيار بديل. نقرأ في الصفحة 280: ...لقد قوّض الدخول في الحرب، بغياب قيادة سياسية شرعية وواعية، وحدة مؤسسات الثورة والمعارضة، وانتهى الأمر بتشتيت قوى الثورة وتنازعها على الأبوة والريادة والسيطرة، فاندفع البعض لتأييد إسلاميتها، والإلحاح على تطبيق الشريعة الدينية، وأُحبط البعض الآخر الذي وجد نفسه يُستبعد أكثر فأكثر عن موقع التوجيه والقيادة.


   
البحث عن الثورة بين رداءَي الإسلاميين، والعلمانيين!

يعتقد د. برهان غليون أن جماعة الإخوان المسلمين لم تكن التنظيم الوحيد الذي ساهم في إضفاء الطابع الإسلامي على الثورة السورية، لقد كان للنظام أيضاً دور أساسي في ذلك، من خلال سعيه لعزل الأكثرية السنّية عن السياسة، وتحويلها إلى طائفة دينية ساكنة، كما يرى أن دعم المنظمات الجهادية، حتى لو لم تكن جميعها مخترقة من قبل الأجهزة الأمنية الإيرانية والروسية والسورية، هو الخيار الأسوأ الذي تبنّته بلدان الخليج في مواجهة انحياز الأسد ضدها، وأكبر نقطة ضعف في إستراتيجيتها، وسبب خسارتها سياسياً وعسكرياً، ويضيف في نهاية الصفحة 301: ...ليس من المستغرب أن يدفع الموقف السلبي من الثورة السورية إلى تغذية العداء للغرب، وأن يحوّل الإسلام ويترجمه أيضاً، بالدرجة الأولى إلى عداء للغرب، بل إلى دين العداء والكراهية والانتقام.


أيضاً وفي نفس الحيّز الموضوعي ودلالاته، لم تكن النخب العلمانية السورية أكثر ديمقراطية ولا أفضل تنظيماً ولا أوسع مشاركة في الأعمال الميدانية ولا أوسع حضوراً دولياً من منافسيها الإسلاميين، بالعكس، لقد كانت الأكثر انغلاقاً والأشد إقصائيةً وخصاماً والأقوى غروراً والأجبن سياسياً والأبعد عن مخاطبة الجمهور والتفاعل معه والتفكير بمشاكله ومشاركته همومه، والأقل حضوراً دولياً. ثم نتجوّل أكثر في الردهة الواسعة لهذه الفكرة، نقرأ في الصفحة 320: ...لم تنجح النخبة العلمانية خلال الثورة في أن تبني أي مؤسسة، ولكنها ساهمت مساهمة كبيرة في تخريب مؤسسات المعارضة التي تكونت في ظروف استثنائية من المجلس الوطني إلى الائتلاف إلى الحكومات المؤقتة إلى الجيش الحر…


يصف غليون من منظور علم الاجتماع السياسي، وببلاغة لغوية النخبةَ العلمانية بعشيرة بني إسرائيل الضائعة، الباحثة باستمرار عن نفسها، وعن مرسى تركن إليه، ويضمن استقرارها.
يركن الكاتب في نهاية الفصل الخامس من كتابه إلى خلاصة تفيد بأن المشكلة أبعد من قضية الإسلاميين والعلمانيين التي طالما شغلت مراجعات ناشطي الثورة، وكلٌّ يلقي المسؤولية في تدهور أوضاع الحراك السوري على الآخر، إنها مسألة بناء أجندة ديمقراطية في سوريا، والمنطقة العربية، وهي لا يمكن أن تقوم على الإقصاء.

حين تعبث رياح التجاذبات الدولية بثورة شعب 

كان دور واشنطن سلبياً تماماً، ضيّع المعارضة، وضيّع الدول العديدة التي كانت مستعدة لدعم القضية السورية، وعبّر عن الاستهتار بمآسي الحرب وضحاياها، كل ما قامت به واشنطن كان من باب ضمان المراقبة على ما يحصل من دون أي موقف إيجابي، ما دفع الدول الأوروبية إلى التردد أيضاً وفقدان القدرة على تلمّس الطريق.


أما مجموعة "أصدقاء سوريا" التي جاءت بمبادرة فرنسية فقد عكست أزمة السياسة الخارجية الأوروبية بما كانت تظهره من حماسة استعراضية، ومن عجز وانعدام حيلة في الوقت نفسه، قبل أن تختفي بصمت لمصلحة مجموعة العمل المصغرة التي قبلت بدور أكثر من كومبارسي على هامش المبادرات الروسية الأمريكية، ثم يلخّص غليون الموقف الروسي في الصفحة 386 عقب لقائه لافروف في موسكو خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2011: لم يكن همّ روسيا هو حماية الأسد، بل أرادت أن تعطي الغرب درساً بأن تفرض وجودها عليه، وتستعيد احترامه لها، وتغير قاعدة اللعب، بإجباره على الحوار معها، بعد أن أهملها وأنكر وجودها وتنكّر لها ثلاثة عقود من الزمن.     

    
تلك المأزقية التي لفّت خيوطها حول القضية السورية، جعلت الكاتب يشعر بوطأة تلك اللحظة، وما سيتبعها، يقول في الصفحة 390: ...أدركتُ بعد هذه المحادثة أن قضيتنا نحن السوريين في مأزق عميق، فلن نستطيع إقناع روسيا بفك رهننا، ولا إقناع الغربيين والولايات المتحدة بالتضحية بمصالحهم أو ما يعتبرونها كذلك، في عزل روسيا أوروبياً وعالمياً لمصلحتنا، ذهبت القضية السورية ضحية عملية تصفية حسابات.


أما فيما يخص تركيا وحساباتها، فيذكر غليون أنها خسرت كثيراً في الساحة السورية جراء ترددها باستخدام الأوراق المهمة التي تملكها لقطع الطريق على الأطراف الأخرى من إيرانيين وروس، وتلك الخسارة لم تقتصر على فقدان السوق السورية التي شرّعها لهم بشار الأسد على ملئها منذ العام 2004، وإنما خسارتها تجاوزت ذلك إلى ما هو أخطر، أي ما يتعلق بالأمن الوطني التركي.


وعن إيران التي اخترعت الحرب في سوريا من ألفها إلى يائها، يذكر غليون في الصفحة 413: ….بينما كانت القيادة الإيرانية تعبر عن رغبتها في التفاوض، أو بالأحرى لبازار شراء سوريا من المعارضة، كانت تعدّ للتدخل الواسع لحزب الله في سوريا…


لقد فجّرت الانتفاضة الشعبية بمجرد اندلاعها واحتمال تغيير النظام حرب الهيمنة الإقليمية الكامنة بين القوى الأربع الشرق أوسطية المتنافسة، وكانت إيران هي التي اندفعت من دون تردد لخوضها. الكاتب لا يسوق لنا خلاصات استنتاجية فحسب، وإنما يطرح أسئلة ربما كانت تحوز على انتباهه خلال فترة رئاسته للمجلس، ومنها تساؤله عن مصلحة دول الخليج في انتصار ثورة شعبية ديمقراطية كالثورة السورية؟ الجواب يأتي بـ: لا، فلا مصلحة لها في أن يخلف نظامَ الأسد الذي كان دائماً شريك الخليج سياسياً وحامل قيمه الأتوقراطية وخياراته الاقتصادية الريعية غير الإنتاجية نظامٌ ديمقراطي  يحترم حقوق الإنسان ويطلق الحريات العامة. فالخليجيون كانوا يخوضون حربهم على الأراضي السورية لا حرب السوريين التحريرية كما يذكر لنا الكاتب.

 

الحروب الثلاثة، كلفة باهظة دفعها السوريون 

سيتحول نظام الحكم الأسدي مع تقدم الزمن إلى نظام احتلال بالمعنى الحرفي للكلمة،  فحكم الأسد كما يحيله الكاتب إلى حوامله ضمن الشرط الموضوعي هو حربٌ دائمة  وسيلتها الدولة ذاتها، لذلك لا يقوم حكم الأسد على قانون، وإنما على تعطيل القانون ونزعه، ولا يهدف إلى بناء أمة ووطن، ولكن إلى نزع المواطنة وتحويل الأفراد إلى رعايا وأقنان. يذكر غليون في الصفحة 465 بأن سياسة الأسد وأجهزته الأمنية كانت تتجلى بوضع الناس بشكل دائم تحت الضغط والاتهام والملاحقة والشك، كما جردت سياسةُ القمع المنهجي الشامل والدائم الأفرادَ من أي هامش تضامن فيما بينهم، أي من إنسانيتهم، ولم يعد للتعاطف أو التكافل أو التعاون أو النخوة موقعٌ في علاقاتهم.


غير أن سلوك الانتفاضة السورية كصاعق كان قد فجّر حروباً عنيفة كامنة، يعيد الكاتب ترتيبها لنا مجدداً، حربٌ سوريّة سوريّة بين الشعب والنظام، وحربٌ إقليمية بين الخليج وإيران، وحربٌ دولية بين روسيا المهمشة والغرب الذي اعتاد تهميشها، وتحمل السوريون شعباً ووطناً عنف هذه الحروب الثلاثة التي جرت على أرضهم، وعلى حسابهم دفعة واحدة.


لكن الكاتب يعود ويشير في الفصل السابع من الكتاب إلى أن البنية السياسية والفكرية للنخبة الاجتماعية، أظهرت بعمومها فقراً شديداً برأسمال الثقة الاجتماعية، وقيم التعاون والتضامن وتقاسم الأعباء والمسؤوليات. ثم يتساءل في الصفحة 503: ماذا تبقى للنخب الاجتماعية بعد نزع السيادة عنها، وتحويلها إلى نخب خلّبية؟ ويجيب: أخلاق المنفعة والارتزاق، والحذر من الآخر، والشك فيه، والجبن، والتحلل من المسؤولية، وانتظار الأوامر والتعليمات، والتنافس على المغانم والمواقع والمناصب، والتباهي بها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات