كتب أرّخت للثورة -4 (عشر عجاف) لسعاد قطناني: من نظرية المؤامرة إلى الحبكات السياسية!

كتب أرّخت للثورة -4 (عشر عجاف) لسعاد قطناني: من نظرية المؤامرة إلى الحبكات السياسية!

تتابع أورينت نت البحث عن صورة الثورة السورية في المكتبة العربية، من خلال سلسلتها الاحتفالية (كتب أرّخت للثورة) فلا ثورة بلا كتاب يوثق للتاريخ وللأجيال القادمة العوامل والمقدمات والوقائع والمآلات، وأي درب سلكه السوريون من أجل ثورتهم. في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة قراءة في كتاب (عشر عجاف) للإعلامية سعاد قطناني. (أورينت نت).


ليكتب أحدهم عن الوطن، علينا أن نتلقف من فمه كامل الوطنية من دون أن نشعر بأية مغالاة ومن دون أن نحسّ بثقل لسانه على أثر ثألولة أسمنها العسس والجنود الذين تربصوا لعقود على حدود حنجرته ليخرج الكلام مروّضاً بسياط الحكومات المستبدّة، عفناً برائحة المعتقلات المعتمة، فكيف إذا كان الكاتب ذا حنجرة مقسومة بين وطنين. كاتب يسلخ جلد حنينه في الليل ليدرأ عن وطنه الأول زمهرير الطغيان، وفي النهار يغلي النعناع بدمعه ليسقي وطناً آخر تتخبّط أمعاؤه مغصاً من فايروسات الديكتاتورية.


منذ أول هتاف..

كتاب "سبع عجاف" للكاتبة والإعلامية  "سعاد قطناني"،  يتضمن مجموعة مقالات قامت الكاتبة بتدوينها خلال سنوات الثورة. ترصد من خلالها يوميات وأحداث وحتى شخصيات من الثورة السورية.
صنف الكتاب تحت نوع "مقالات" إلا أنه تعدى اللغة الصحفية، مشحوناً بعاطفة تواكب المأساة، تُشعر قارئها أنه جاثم في عمق الحالة التي أرادت "قطناني" إيصالها. فتمرر أمام عينيه مشهدية دموية يختلط بها الأمل بالدم والحلم بأصوات الناس التي صدحت من كل زاوية ومن وراء كل تلّة، من عمق الوديان ومن أعالي الجبال. أصوات تطالب برأس السجان ودم الضحية، تريد وطناً تختمر الحرية في دقيقه، تخبزه كرامة لتُسكِت جوع سنين عجاف قصمت ظهر البلاد..
منذ الولوج إلى الكتاب نرصد الأمل الذي لم يمت في زوايا وجدان الكاتبة، فتهدي هذا العمل إلى "أحلامنا التي لم تمت" ثم تكمل مسيرتها لتأخذنا في الذاكرة إلى دمشق بحواريها الدافئة، ثم تنطلق لتسأل أسئلة على حافة الجرح والثورة، وتتوغل من بعدها في ما حصل.
تتجول "قطناني" في مقالاتها على شريط إخباري، توثّق من خلاله حدثاً وتشطب آخر وهي تستشعر وطنيتها الأولى، منذ أول هتاف في دمشق لتشعر بأن هويتها الفلسطينية تآخت مع الأخرى السورية فصارت تبحث عن كل منهما في الأخرى. 
"يا حراس العالم لا تبحثوا كثيراً في أوراق ذلك المهاجر لا تسألوا كثيراً، فهو سوري، فلسطيني، مصري، عربي واحد من ملايين وأكثر ضاعت أسماؤهم في دفاتر الهجرة والجوازات، لا تتنصلوا منه فهو لا يستطيع أن يهرب من دمه". 
ومن خلال هذه الكلمات أرادت الكاتبة إثبات أن شتات الشعوب العربية أصبح نسخاً بعلامة فلسطينية مسجلّة.

 

يوميات الخوف والتشظي

 

كما أرادت استرجاع يوميات الخوف والتشظّي الذي بدأ منذ أول صرخة ولم ينته على رمل بحر ابتلع الأطفال في رحلة لجوء فاشلة، ولا على قذيفة هاون بعين ثاقبة لم تخطئ يوماً هدفها. 
مروراً بحواجز المتشددين الذين لطخوا الهوية بالخوف، والحق بالإرهاب، لنصير جميعنا بين موتين أحلاهما مُر. ولم تنسَ أن تمرّ بسيرتها من دون ذكر؛ سنديانة دمشقية عتيقة كبرت على أطراف الغوطة (أبو صبحي)، العجوز الذي تبرّأ من عقلانيته تبريراً لخوفه، أخرج صوته الصَّدِء وأعاد برده وسنَّه ليهتف به للحرية، للفرح والمستقبل، قبل أن يجهش النعناع على بسطته الثكلى بجانب حائط قديم في دوما.. 
كما إنها وثقت لحظات التحام الدم بالدم حين أزاح بضعة شبّان الأسلاك الشائكة بأيديهم لتسقط كلمات (القائد الخالد) من وجدان توّهمها لسنين طوال.


صدور تنتظر المزيد من الرصاص!

" هل سينتهي هذا الليل الطويل من العذاب والخوف والحزن الذي يبدو كأبدية لن تنتهي " سؤال من سلسلة تساؤلات مخيفة طرحتها الكاتبة في كتابها وهي تفكّر بصدور عارية تنتظر المزيد من رصاص دكّ في سبطانات بمسميات عدّة بدءاً من الطائفية لتنتهي بخيانة الوطن. 

صدور متشابهة في مصر وليبيا وتونس واليمن وفلسطين الوجع الأول والقضيّة المزمنة والشمّاعة التي عُلقت عليها جميع ذرائع الوحوش. ثم تتكوّر الكاتبة حول مخاوفها كإشارة استفهام عن صمت من كانوا معها أو حيادهم، هل هو تراجع أم خوف أم حقاً (اللي بتعرفوا أحسن من لبتتعرّف عليه!) وكلام الليل يمحوه النهار أم إن ذاكرتنا فعلاَ تنسى ما لا تحب. 

ثم ما تلبث أن تأخذ نفساً عميقاً في راحة يد (أمجد ناصر) عندما فتح درفتي الماضي ووثّق المشهديات كما هي في كتابه (بيروت صغيرة بحجم راحة اليد) معوّلة على انتقال عدوى الناصر للأفواه التي أطبقت ولو للحديث عن مشهديات أخرى بحقيقتها. 

من نظريات المؤامرة إلى الحبكات السياسية مع الغرب والصفقات التي تمرر من تحت الطاولات، حاولت أن تفهم العقدة التي وضعت على أسنان منشار الشعوب المطالبة بكرامتها، أن تستوعب الطبخات التي يعدها الغرب ببهارات عربية على نار بلاد ليست هادئة، أن تدرك ازدواجية السلاح الهِبة الموجه نحو شعب أعزل ومحرّم أن يوجّه نحو الصهاينة، لتصبّ بمفهوم واحد ندُّ الانظمة الديكتاتورية وحلفاؤها الغرب هو شعب آمن بحريته.

لم تغب بيروت كذلك عن سطور هذا الكتاب، لكنها حضرت مختلفة بتناقضاتها بأسماء شوارعها بوجعها وحنانها، قاسية بوجه طفل يبيع الورد على كورنيش بحرها محاولاً فك عقدة لسانه كي لا تشي به هويته المنبوذة، أم لأبناء يرتشفون القهوة بطعم الانقسامات. لكن لم تكن بيروت أكثر قسوة من سياسة النأي بالنفس التي اتخذها البعض ذريعة للتنصّل من أعباء الثورة فكل الأطراف المتنازعة ومن يتبعهم محكومون بأيدلوجيات تسوقهم إلى الاصطفافات أو الحياد الذي تميّز به أغلب المثقفين الذين اعتمدوا المواربات والرمادية بعيداً عن صدق المشهد -برأي الكاتبة- وهذا ما شتت القضيّة إضافة إلى فساد رموز الثورة.  

ثم عادت الكاتبة في مؤلفها إلى التركيز على الوجع الفلسطيني، ربما هي محاولة منها لتشكيل مقاربة الوجع العربي المشترك. وتشابه الضحية هنا وهناك، وعنفوان الشهيد "مستشهدة بالحديث عن الفلسطيني محمد أبو خضير، والنضال السلمي من مظاهرة أو إضراب عن طعام.

 

داعش إبحار إلى قلب الظلمة 

رايات سوداء تتلطّى وراءها أبشع الممارسات الوحشية باسم الدين، تضعنا مع الكاتبة أمام تساؤلات كثيرة، من هم؟ من أين جاؤوا؟ وكيف لنا أن نؤمن بقاتل يلتف بعباءة ملطخة بدماء الأبرياء؟ تساؤلات تُحبط القارئ المتطلّع نحو أمل الحرية. 

(سميح القاسم، فلسطين، غزّة) 

عناوين تعيدنا بها إلى قضيّة أولى باتت كندبة في قلب الكاتبة، وكأنها تريد من القارئ أن يعرف أن الألم ينبع من تلك البلاد ويصبُّ وبتفرع في كل بلد عربي، مسترسلة بالحديث عن سميح القاسم، الذي على الرغم من رحيله ما زال متشبثّاً بالذاكرة "كدرويش وتوفيق زياد" شباب قارعوا المحتّل بالكلمة، الكلمة التي تشعل قلبها في كل مرّة تمرُّ بتلعثم على قصائد سميح، حيث يزداد شرخ الذاكرة بين وطنين. 

من خلال ما مرت عليه "سعاد قطناني" نجد أنها أرادت أن توجه صرخة في وجه اليأس كما إنها، اصطفت بجانب المظلوم، في بلدان الربيع العربي. إنها مقولة حق من كاتبة وإعلامية قديرة جاءت في ما يقارب "الــ 186 صفحة" من القطع الكبير. الكتاب صادر عن (دار موزاييك للدراسات والنشر) في طبعة أولى 2021

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات