بعد أحد عشر عاماً من الثورة: مصحّات الوطن الكبير

بعد أحد عشر عاماً من الثورة: مصحّات الوطن الكبير

أرتجفُ لا من البرد،.. وأجزعُ لا من العتمة!..
كوكبٌ بأكمله يميدُ،.. وشمسٌ تعلن ذهابها إلى نوم لا صباح يليه!..
أرتجف، كلما توقّفتُ أمام رقّاص الساعة، بطيئاً، متخاذلاً متواطئاً يعلنُ اقترابَ نيزكِ الغرباء..
كلما تأملت مراياي ومن حولي تلوحُ أرواحٌ تتشّح بالسواد،.. وأنا كقرنفلة مقتلعة أتلمّس الطريق إلى الغصن والساقية والصفحات!..
أرتجفُ كلما وقفت أمام مراياي أمسح عن بلّورها المشحون بالعتب لوم أمي وهي تذهبُ إلى قبرها البعيد في مدينتي المنهوبة في الشمال السوري، وأنا عاجزٌ عن مرافقة جثمانها في الرحيل الأخير.
من همسَ للغراب كي ينبش تربة الفراق..
كي يعلّم الأخَ الطريقة الأمثلَ للتخلص من تهمة أخيه؟


يا الله، ليست امرأة داشرةً تلك البلاد التي يتوّعدون،.. ليست مشاعاً ليتكالب على أسوارها اللصوص والقتلة وقاطعوا الطريق،.. يا الله.. ذاك النهرُ الذي يمتد كما المصل في أذرعة العواصم والحقول واليباس، ليس شريطةً يقصونها احتفاء بالنصر العظيم!..


لا أرتجف من الصقيع،.. أتغلّب عليه بقطعة جمر،.. لكنني كلما لمحت على أرصفة العالم العربي مواطناً مكسور الخاطر يمشي على غير هدى،.. أشعر بـ برودة الموت تغزو أوصالي..
وكلما هممتُ بمصافحة عصفور يمرُّ عجولاً أمام شرفتي، غير مبادر بالسلام،.. أشعر أنّ الشجرة تتآمر علي،.. والنهرُ يقدّم أوراق هجرته إلى القيعان..
بلاد قيعانها تحتل الذرى العاليات،.. 


بلادٌ جبالها مقلوبةٌ وسماؤها متخمة بالصديد،.. فكيف يخرج من حنجرتي الصوت،.. والهواء مصاب بصدأ لا يزول؟!
كيفَ يقومُ شعبٌ أعزلُ بمواجهةٍ محسومة النتائجِ والضحايا مع غولِ الحكايات؟..


حين خرجَ ذات وجعٍ وصحوٍ السوريون إلى الشارعِ يعترضونَ على الشارع وهو يكرّسُ شرائع الضلالة والتيهِ، غير آبهينَ بسلطةِ القمعِ، راغبين حقاً بالخروج من تحتِ وصاية العتمة التي استبدت بكل بصيص قلم وصرخة وعافية، كانوا مدركين النتائج ، عارفينَ تماماً أنهم قد لا يعودون كما كانوا، وقد لا تعود سورية التي يعشقونها حتى الموت فداءً لها، كما كانت أو كما يحلمون، خرجوا عراةً إلا من العشقِ، وعادوا في أكفان حمراء، هي أكثر الرايات طهراً في كوكب خراب حقاً ، خرجوا حفاة إلاّ من ترابٍ أرادوه سقفاً للأمل، فنبتت على قبورهم الشواهد، خرجوا مجنحين بالتوق إلى الحرية، فصاروا شعبا كونياً أنتشر في كل الأصقاع، تلقف أرواحهم البحر، وجثثهم اليابسة، وارتموا في كل ميادين التغرب القسري، يضيئون مخيماتِ التيه بحرقة أجسادهم النحيلة، وأصواتهم التي تهزّ العالم ليميد عن بكرة أبيه.


في هذه الأيام تمر الذكرى، ذكرى الاشتعال، وثمة حريق لا يزال على التلال وفي الأفئدة، وثمة جمرٌ في القلوب، ونور وإن خفتَ لابد يقوم من نعس القناديل.

 

قبل أيام، على أحد أرصفة العالم العربي،.. التقت مراسلة صحفية برجل يسير هائماً لا يستر عريه شيء..
حين دنت منه وجلة، ارتاب لأمرها وركض مسرعاً، مخلفاً وراءه لفافة ورق مطوية بحرص،.. حملتها وقرأت فيها..
سجّل أنا عربي،.. ورقم بطاقتي..
وأولادي..
وأوضاعي.. 


منذ ذلك الوقت، لم يعدْ أحد يصادفها على رصيف،.. وجدوها تستر عريها بتلك اللفافة الورقية، في إحدى مصحّات الوطن الكبير.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات