التوثيق... سلاح الثورة الأخير

التوثيق... سلاح الثورة الأخير

جاء في معاجم اللغة العربية أن كلمة "التوثيق" قادمة من المصدر "وثَّقَ"، وتعني عموماً: جمع وترتيب وتدوين المواد والمعلومات، لتتحول مع بعضها البعض إلى مرجع معين مع تراكم المعلومات خلال فترة زمنية معينة، وعملية التوثيق ترتقي مع انطلاقها واستمرارها إلى مرتبة "الفن" وبهذا فإن "فنّ التوثيق" هو عرض المعلومات والمواد التي تم جمعها بطرق علمية ومناهج معرفية، متفق عليها بين الباحثين، ليس فقط للحفاظ على المعلومة وأهميتها، وإنما لتفسير المعلومات وفهمها بعد جمعها ترتيبها واستخلاص النتائج.


وعلى ما سبق فإن التوثيق يُعنى بالدرجة الأولى بالحفاظ على الحوادث التاريخية، ومن ثم فهمها، وبدونه تتلاشى هذه الحوادث التاريخية، وحتى إن بقيت هذه الحوادث كمعلومات، قد لا تكون ذات قيمة، أو قد يضيع معناها وتفسيرها، إذا ظلت بدون توثيق علمي، وبهذا تصيرُ الحوادث التاريخية مجرد مزرعةً واسعة بدون أسوار، يستطيع أي شخص "أو كيان" غرسها بما هب ودب مما يحلو له، وهنا تكمن خطورة عدم التوثيق.

تمر هذه الأيام ذكرى انطلاق الثورة السورية منذ أحد عشر عاماً، وهي ليست بالسنوات القليلة، فالطفل الذي كان يحبو مع انطلاق الثورة السورية أصبح اليوم شاباً بالغاً، والفتى صار رجلاً، يعني أن زمن الـ "11" عاماً كافٍ لظهور جيل جديد، جيل قد لا يعرف ما الذي حدث حرفياً وبالتسلسل منذ آذار "2011" فبحسب تقارير المنظمات الدولية، لدينا ما يقارب الخمسة ملايين طفل سوري ولدوا في سوريا خلال الـ "11" عاماً، منهم مليون طفل ولد خارج سوريا بسبب اللجوء. لهذا بات التوثيق الآن لتلك البدايات التي كسر فيها الشعب السوري جدران الخوف الإسمنتية، التي بنتها ما تسمى بـ "الحركة التصحيحية" للطاغية الأب، داخل أرواح الشعب السوري على مرّ عقود، بات ضرورياً أكثر من أيّ لحظة أخرى، على الأقل حتى لا تضيع تلك البطولات الشعبية بين صفحات التاريخ، وهنا يصير التوثيق سلاح الثورة الأخير، بعد أن استطاع النظام تشريد أبنائها، وقتلهم، وتدمير مناطقهم.


يرتبط "التوثيق" في جانبٍ ما من جوانبه بالحفاظ على الذاكرة الشعبية، ومنع وجود فراغ ما ضمن التاريخ، قديماً وحديثاً، بل يذهب "التوثيق" إلى أكثر من هذا، وهو إعطاء الحق لكل من سلب حقه ولو معنوياً.


للأسف دأب النظام منذ سنوات ومن خلال مؤسساته اللاشرعية، والتي تمثل مصالحه الدموية فقط، على إعادة بناء معلومات ركيكة تتنافى مع الواقع، بهدف كتابة تاريخ خاص به، يفرضه على الآخرين، وعلى المستقبل كذلك، فالنظام يعي جيداً أهمية التوثيق، لهذا بدأ بشكلٍ أو آخر، ولو بطرق غبية، التوثيق للأحد عشرية السابقة، كما يحلو له، ذارعاً الأكاذيب والمعلومات المزورة في كل مكان، وأبرز ما فعله ويفعله، هو تزويره للمناهج الدراسية وفقاً لما تمليه مصالحه... فمثلاً يغضب النظام من تركيا فيغيّر المناهج، يغضب من السعودية فيغير المناهج، يغضب من العراق فيغير المناهج، يغضب من دول الخليج فيغير المناهج، يغضب من نادي برشلونة فيغير المناهج، وكأنه يريد أن ينتقم من العالم بتسميم المناهج أكثر وأكثر على أجيال السوريين، وملئها بالأكاذيب وفرضها على الجيل الجديد، على أنها تاريخ حقيقي، وعلى أنه هو التاريخ الحقيقي، وهو ما يجب أن يكون عليه المستقبل، إضافة لذلك، يعيد النظام كتابة تاريخٍ غير حقيقي، لتشويه تفكير الجيل الجديد، بما ينسجم مع مصالحه، فالجرائم والمجازر ضد المتظاهرين السلميين والمدنيين تصبح معارك للصمود والتصدي ضد الإرهابيين، وهذا المعتقل وذلك السجين أو الشهيد أو البطل، يصبحون إرهابيين.

وعلى هذا يمكننا أن نتخيل كيف أن ابن شهيد، أو بنت بطل، أو أطفالاً ناجين من المجزرة، يدرسون الآن على مقاعد النظام في مدراسه التي تشبه المعتقلات، يدرسون يومياً في حصصٍ دراسية شاحبة، ما يشوه صورة آبائهم بالدرجة الأولى داخل عقولهم، ببساطة، إنهم يدرسون مناهج مزورة مهمتها قتل عقولهم بعد أن قتل النظام آباءهم.

مما سبق ولأسباب أخرى كثيرة، لا بد من "التوثيق" لحماية التاريخ، ولحماية الثورة السورية، على الأقل معنوياً كما اتفقنا في البداية، ولحماية الجيل الجديد أيضاً، ويخطر في بالي هنا أن أذكر عملاً متواضعاً ساهمت به مع الزملاء، يخص التوثيق، ولكن على مستوى صغير، من خلال "راديو أورينت" عندما قدمنا برنامج "حكايتي مع الثورة" كل أسبوع، بحوار مع ضيف من أبرز الناشطين في بداية الحراك الثوري السلمي، في مدينة "إدلب" ولكن توقف البرنامج فيما بعد لأسباب خارجة عن الإرادة، بسبب طبيعة بعض الضيوف التي جنحت بعيداً عن التوثيق، لتقترب من العواطف الذاتية فقط.

وأيضاً لا بد هنا من التنويه أن بعض مؤسسات المعارضة بدأت أو عملت ولو بشكلٍ خجول على "التوثيق" ولكنه جاء من جهة واحدة، متجاهلاً جهات أخرى، أو قوى فاعلة على الأرض، إن التوثيق العملي يتطلب أكثر مما قُدم، يتطلب تعاوناً وتنسيقاً وتواصلاً واجتماعات بين منظمات المجتمع المدني ومؤسسات إعلامية وناشطين ومفكرين وتنسيقيات وسجناء سابقين، تحت إشراف باحثين أكاديميين من الشرق والغرب، وعلماء اجتماع ... إلخ، بعيداً عن أي أجندة معينة أو انتماءات، أو أهواء أو عواطف وأمزجة، وهنا إن التوثيق بوصف "فناً" يتجاوز موضوع الإحصاءات والأرقام على أهميتها، التي هي اللبنة الأولى في بنائه، وصولاً إلى تسجيل التاريخ وتفسيره وفهمه.


لكل منطقة أو بلدة أو قرية أو مدينة في سوريا حكايتها الثورية، وحالياً صارت المعلومات تختلف بيننا وتتضارب وأحياناً تكون ناقصة، إن استشهاد الكثيرين، ولجوء ونزوح وتفرق الكثيرين بين جهات الأرض، أدى لضياع الكثير من المعلومات، حتى عن الناس أنفسهم، كل ما سبق يستدعي تضافر الطاقات، ضمن عمل مؤسساتي منظم للتوثيق.


نحن العاديون، اليوم، وفي اجتماعاتنا ولقاءاتنا وسهراتنا العادية، نعيد حكاية الثورة لبعضنا في منطقتنا، وكأنها باتت ذكريات بعيدة وجميلة أكثر من كونها تاريخاً واقعياً، ونسمع من البعض حكاية الثورة في مناطق أخرى، حكايات يجب ألا تبقى معلقة على الشفاه، تُحكى وكأنها فقط ذكريات، في سهرات التعب خلال أيام السوريين …

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات