عندما تقوم غرف عمليات الجيش الروسي الرئيسية في موسكو بتسيير أرتال ضخمة من الإمدادات اللوجيستية إلى ساحات القتال في أوكرانيا فهذا يعني أحد احتمالين:
إما أن مهام الجيش الروسي المنخرط بالقتال على الأرض الأوكرانية تغيرت, وتغيُّر المهام يستوجب تغيير عناصر وأدوات المعركة (وهذا الأمر تنفيه موسكو لتبرير فشلها بالمعركة السريعة والساحقة), وبالتالي هي بحاجة لدخول عناصر جديدة تستلزم من القيادة وعبر قوات المؤخرة الزجّ بدعم لوجيستي يتناسب مع المهام الجديدة.
أو أن سبب هذا الدعم الكبير, أن هناك خسائر كبيرة وقعت في صفوف الجيش الروسي, وبالتالي أصبح غير قادر على إكمال المهمة الموكلة إليه, وبالتالي يجب إنقاذه بدعم لوجيستي جديد.
الواضح أن كلا الاحتمالين واقع بالجيش الروسي, فمهمة الضربة السريعة الساحقة (أو العملية الخاصة كما أطلق عليها بوتين) لم تتحقق, وانتقل الجيش الروسي للحرب الشاملة التي تتم فصولها على معظم الجغرافيا الأوكرانية, رغم أن عمليات وتكتيك قتال وتحرك الجيش الروسي بدأ يرسم على الأرض الأوكرانية خارطة جديدة تقسم الدولة الأوكرانية إلى قسمين:
_ أوكرانيا المفيدة أو الشرقية: وهي تضم القسم الشرقي من أوكرانيا الحالية وتشمل مدن (كييف, تشيرنهيف, سومي, خاركوف, الدونباس, ماريوبول, ميليتيبول, خيرسون, ميكولاييف, أوديسا, دينيبرو, وقد تضم له مولدوفا لاحقاً), وهذا القسم ما تبحث عنه موسكو وتريد إخضاعه لسيطرتها وتحاول طرد السكان الأصليين إلى خارج حدوده.
_ أوكرانيا الغربية: وهي تضم كامل القسم الغربي من أوكرانيا الحالية والملاصقة لحدود رومانيا, سلوفاكيا, المجر, بولندا.
وتصبح المهمة العسكرية للجيش الروسي بهذا الإطار تتضمن السيطرة على القسم الشرقي من أوكرانيا, مع عدم إهمال خطورة المساعدات الغربية التي ترد من حلف الناتو للأوكرانيين من الحدود البولندية, لذلك قام الطيران الروسي خلال الأيام الأخيرة بقصف القواعد الجوية والمطارات المدنية الأوكرانية على الحدود البولندية ( مطار لوتسك, مطار ايفانوفورانيفيسك, قاعدة ساروكوستانيف, مطار مدني في مدينة فولين, وقاعدة المركز الدولي للسلام وهي قاعدة تدريب مشتركة مع الناتو) وكلها تقع على مسافات متفاوتة لكنها قريبة من مدينة لافيف عاصمة الغرب الأوكراني على الحدود مع بولندا.
الفشل العسكري (حتى الآن) الملازم لجيش بوتين في معظم مفاصل حربه على أوكرانيا دفعه للّعب بأوراق إضافية, فبعد التهديد بالأسلحة النووية عندما أعطى بوتين الأوامر برفع جاهزية قواتها, وافق بالأمس لوزير دفاعه (شويغو) بقبول طلبات الزج بـ 16 ألف متطوع من نظام الأسد بالحرب الأوكرانية, إضافة لمعلومات مؤكدة لم يعلنها بوتين وظهرت على جبهات القتال بالدفع بوحدات كبيرة من المقاتلين الشيشان تتبع لحليفه قاديروف, شوهدوا على جبهات الدونباس وفي ماريوبول وميكولاييف, ووصول هؤلاء المرتزقة سيشكل هاجس رعب للأوربيين بعملية خلط أوراق جديدة يلعبها بوتين وترعب الغرب بنقل الإرهاب إلى حدودهم.
مع أنباء عن انفراجة بالمفاوضات بين مندوبي موسكو وكييف مؤخراً, التقطت أجهزة الاستخبارات الأوكرانية أمراً عملياتياً أُعطي من موسكو للجيش الروسي والانفصاليين في إقليم الدونباس, بضرورة رفع وتيرة الأعمال القتالية, والسيطرة بأسرع وقت على ما تبقى من أراضي إقليم الدونباس, الذي ما زالت تسيطر على أجزاء كبيرة منه وحتى الآن قوات الجيش الأوكراني, ترافق هذا الأمر العملياتي مع تصريحات باتت تتكرر على لسان أكثر من محلل سياسي مقرب من الكرملين, وتتحدث بأن المهام المعطاة للجيش الروسي هي حصار المدن فقط وليس اقتحامها, وتلك مؤشرات تدلل على فشل الروس, وقناعتهم وعلمهم المسبق, أن عمليات اقتحام المدن وأمام قوة المقاومة الأوكرانية, ستجعل من كل مدينة يدخلها الروس مجزرة بشرية وغروزني أخرى, وتلك تجربة لا يتمنى بوتين أن يعود لذكراها, عدا أن دخول واقتحام المدن يتطلب من الجيش الروسي قوات قتالية ضخمة يجب تخصيصها داخل تلك المدن لضبط الأمن وحماية القوات من هجمات وأعمال مقاومة محتملة, نظراً لرفض السكان الأوكرانيين لوجود جنود الاحتلال الروسي فوق أراضيهم.
في موقف حلف الناتو من الغزو الروسي لأوكرانيا, ومن رسائل بوتين الدموية بقصفه القواعد العسكرية الجوية الأوكرانية غرب البلاد, والتي تشكل عصب الإمداد والدعم العسكري للرئيس زيلينسكي بالعاصمة كييف وللجيش الأوكراني, ظهرت عدة آراء:
هناك من وجد أن التدخل العسكري لحلف الناتو في الحرب الأوكرانية سيؤدي حتماً لحرب عالمية ثالثة نظراً لتهور واندفاع بوتين, كون هذا الديكتاتور لا يملك في قاموسه مفرداته الانسحاب أو التراجع, بل التقدم دائماً للأمام واللعب على حافة الهاوية. واعتبر أصحاب هذا الرأي أن اللجوء لهذا الخيار هو دمار للجميع ويجب عدم اللجوء إليه.
وهناك من قال: إن بوتين ينتحر وينحر جيشه في أوكرانيا, حيث إن كلفة الحرب للروس في حربها (كما نشرت إحدى الصحف الغربية), تكلف الحكومة الروسية خسائر بقيمة 20 مليار دولار يومياً, وبالتالي يكون تدخل حلف الناتو هو عملية وضع سلّم لإنزال بوتين عن الشجرة التي استعصى عليه النزول عنها, وهذا ما لا يريده الغرب, بل يريدون زيادة غوص بوتين بالمستنقع الأوكراني واستنزافه, لكن مقابل ذلك سيتم التضحية بالشعب الأوكراني.
ورأي آخر وإن كان بنسبة ضعيفة قال: إن بوتين جبان وأنه بمجرد إعلان الناتو التدخل العسكري في أوكرانيا, إن كان عبر فرض منطقة حظر جوي, أو فرض منطقة آمنة, أو عبر إمدادات عسكرية ثقيلة للجيش الأوكراني, ستلجم بوتين وتجعله يتراجع.
قرار حلف الناتو والقرار الغربي كان واضحاً, عدم التدخل بتاتاً, وتقديم كل ما يمكن أن يخدم حرب المقاومة الأوكرانية, مع تكشف معلومات استخباراتية غاية بالأهمية قدمتها الاستخبارات الأمريكية "سي آي إيه" والبنتاغون الأمريكي للقيادة العسكرية والسياسية الأوكرانية, تتضمن كامل خرائط انتشار قوات الجيش الروسي على الحدود الأوكرانية, والمحاور المتوقعة للأعمال القتالية, ونوعية وقوام الأسلحة التي حشدها الجيش الروسي على الحدود الأوكرانية الشرقية مع روسيا, وعلى الحدود الشمالية مع بيلاروسيا, وكذلك في شبه جزيرة القرم, وكذلك تعداد ونوع القطع البحرية للأسطول الروسي التي ترسو في ميناء سيفاستوبيل في شبه جزيرة القرم, والقطع البحرية الأخرى التي تناور بالبحر الأسود وبحر أزوف مقابل الشواطئ الأوكرانية, ولاحقاً حددت لهم أيضاً وقبل بثلاث ساعات, موعد بدء الحرب والهجوم على أوكرانيا, وحددت لهم ساعة الصفر التي سيعلنها "بوتين", وقبلها قدمت القيادات العسكرية الغربية نصيحة للرئيس زيلنسكي بعدم التورط وخوض الحرب الكلاسيكية التي تريدها موسكو, ونصحته بعدم نشر الجيش الأوكراني للدفاع عن الحدود, بل العودة للقتال والانتشار حول المدن, وانتهاج حرب المقاومة الشعبية وحرب الكمائن, وقدمت له إرشادات حول تنفيذ خطة تمويه إستراتيجية لإخفاء معدات الدفاع الجوي والطائرات والحوامات قبل بدء الهجوم الجوي, وقد قبل الجانب الأوكراني بنصيحة الغرب.
لكن الإهانة الأكبر التي وجهها الغرب لجيش بوتين تمثلت بنوعية الدعم العسكري الذي قدمه الناتو للجيش الأوكراني, فـ بضعة آلاف من صواريخ ستينغر (مضادات جوية محمولة على الكتف), وبضعة آلاف من صواريخ جافلين وصواريخ لاو (مضادات دروع محمولة على الكتف), مع مئات طائرات الدرون من نوع "بيرق دار" كانت قد أرسلتها تركيا للأوكرانيين قبل الحرب, فقط كافية لوقف ثاني أكبر قوة عسكرية بالعالم, وكأن الأمريكان وقادة الناتو أرادوا القول لـ بوتين: هذا هو حجم جيشك, وأن أوكرانيا لا تحتاج لطائرات أو صواريخ إستراتيجية أو دبابات وأقمار صناعية, فقط تلك المضادات وتلك الأسلحة البسيطة قادرة على وقف زحفك نحو كييف.
على الأرض ظهر واضحاً أن الجيش الروسي خسر نصف المعركة نتيجة سوء الأداء ونتيجة خلل عمل وحداته العسكرية بكل مفردات المعركة الحديثة, والنصف الآخر لفشله حتى الآن تكفل به ما تبقى من وحدات الجيش الأوكراني، وكذلك عمل منظومات الصواريخ المحمولة التي أرسلها الغرب، إضافة لطائرات بيرق دار التي ذاق طعمها الروس مرارة قبل ذلك في جبهات أرياف مدينة إدلب السورية، يضاف إليها عنصر هام وهو سلاح الإرادة والتصميم الذي يحمله الشعب الأوكراني بدءاً برئيسه وصولاً لأصغر مواطن.
المعلومات الأخيرة الواردة من ساحات القتال على جبهات خاركوف شرقاً تقول: إن هجوماً معاكساً شنه الجيش الأوكراني واستطاع من خلاله تقسيم الجيش الروسي المحاصر للمدينة إلى شطرين, وانه أنزل خسائر كبيرة بالجيش الروسي، أيضاً على جبهات مدينة ميكولاييف في الجنوب الغربي للبلاد تكرر الأمر ذاته، عندما استطاعت القوات الأوكرانية المدافعة عن المدينة، إبعاد القوات الروسية والشيشانية التي تحاصر المدينة لعدة كيلومترات شرقاً، وهذا الأمر يضعنا أمام سؤال هام: هل استطاع الجيش الأوكراني وبما تبقى من قوامه وأسلحته مع المقاومة الشعبية، من امتصاص صدمة الهجوم الجوي والبري والصاروخي الروسي؟! وعاد ليمسك بزمام المبادرة وينتقل من الدفاع السلبي للهجوم؟!
الأيام القادمة تحمل في طياتها الإجابة عن كثير من الأسئلة التي تحتاج لإجابات, لكن مهما تكن النتائج ومهما تكن طبيعة الخرائط الجديدة التي تفرضها الحرب على الجغرافيا الأوكرانية, فقد انتصر شعب أوكرانيا وخسر بوتين وجيشه.
التعليقات (1)