يتمتع أسعد فرزات بحظوة نقدية تشكيلية سورياً وعربياً وحتى أوروبياً، حيث احتضنت المدن الأوروبية خلال ثورات الربيع العربي الكثير من المعارض الجماعية والفردية، لفنانين وجدوا في مأساة بلادهم مادة لإبداع جديد.. ووجدوا في هجرتهم ومنفاهم بعداً عن وطن لم يعد يفتح أبواب صالاته للوحاتهم.
حكايا مصوَّرة من شرق المتوسط
أسعد فرزات له دور استثنائي في تشكيل ما يمكن تسميته "الفن التشكيلي في الحرب السورية"، وأثر فرزات في الفن المعاصر السوري بدا واضحاً من خلال تقنية رسم الوجوه التي تختصر آلام البشر في زمن الحرب، وهو دور تخطّى فيه فرزات الفن التشكيلي السوري بالضرورة.. فجاءت لوحاته ممزوجة بألوان جريحة ومحتجّة وصارخة تقاوم عنف النظام، عبر ريشة تزخر بتفصيلات وإشارات الحرية ورموزها وفضاءاتها، بما فيها من حق وحياة وجمال.
في معرضه الأخير الذي افتُتح يوم الخميس الفائت في غاليري "أوربيا" في العاصمة الفرنسية باريس، تحت عنوان "حكايا مصوّرة من شرق المتوسط"، نجد أن التشكيل بالحدود الكلاسيكية ينطوي على تفصيلات ذات قيمة جمالية ونقدية.. إنه يحفل بأشياء وحالات يتمرد فيها أسعد فرزات على حدود التشكيل المقيّد بمحاكاة الأشكال والأجساد والوجوه، لينتقل بالألوان إلى الكلمة المؤنسَنة، الكلمة المقهورة، الهاربة، المحتجّة. إنه ببساطة المزج بين التشكيل بالريشة والتعبير بروعة الحرف عن حالات شعرية أو قصائد تُقال بالألوان..
وحين نتحدث عن القصائد فإننا نشير إلى روح التجربة. تلك التجربة التي جمعت الفنان التشكيلي السوري أسعد فرزات وزميله الشاعر السوري نوري الجراح، الجراح الذي استوحى عنوان المعرض من قصيدته المشهورة "الخروج من شرق المتوسط".
حديث عن التغريبة السورية
إن الحديث الصحفي النقدي عن معرض "حكايا مصوّرة من شرق المتوسط"، يكاد يكون حديثاً عن "التغريبة السورية" برُمتها. تلك التي لا تقلّ فظاعة عن الهولوكست النازي. إن السرد التشكيلي في اللوحات جميعها تتقاسم الألوان، فيها شحنات أناس بلون شمس سوريا الجريحة وجمالها التراجيدي المنسكب عبر مأساة البشر والأمكنة. تشكيل سردي بالألوان، يرصد قوارب الموت التي تقلّ الهاربين من الموت، بالتمثيل التشكيلي السردي الممسرح إن صح التعبير، يرمز لتمثيل جزئية الهاربين من جحيم نظام الأسد، والتدليل على أن إعادة القراءة في السرد التشكيلي يحيل بالضرورة على "لذة الاكتشاف" التي تحوز على قيمة جمالية ونقدية لكل متذوق عادي ونموذجي.
وعن رسوم الفنان التشكيلي أسعد فرزات لقصيدة الشاعر نوري الجراح والتي كانت منتشرة في غاليري أوربيا، يمكن القول: إنها تعبير عن الفرد السوري وأسئلة الثورة الكبرى ومنها المغادرة أو الهروب، سيّان، كلنا هاربون من جحيم الأسد، صرخة الألوان ممزوجة مع جمالية يفرضها الإيقاع الشعري المميز، نجح فيها التشكيل مع السرد في بناء شخصيات "اللقطة التشكيلية السردية السورية". شخوص لا تحتاج لمراجعة صورهم لمعرفة مدى تطابقها مع الواقع، كل لوحة منتشرة في الغاليري تحسّها لوحة مستقلة في مجموع لوحات تعالج وتستكشف وتعيد قراءة القهر والوجع والموت والتغييب ورغيف الخبز ومآذن الشام وخرير بردى، هكذا يكون النقد الصحفي، ملتزماً وأميناً وبالغاً في دقته، حتى يكون التشكيل وكأنه يلقي اللوحات شعراً لا تشكيلاً.
أسعد فرزات: المأساة السورية لا مثيل لها
"أنا برأيي أن فضاء الشعر متداخل تماماً مع فضاء الصورة والموسيقى حالات وجدانية عميقة مترابطة تحمل نفس الصفات والشروط من تكوين ومفردات مستمدة زمانياً أو مكانياً نجد أن القصيدة التي نتفاعل معها أكثر من غيرها هي القصيدة التي تحمل بطيّاتها هارموني موسيقياً وفضاءً بصرياً".
هكذا بدأ الفنان التشكيلي السوري أسعد فرزات حديثه لـ (أورينت نت) في باريس، ويكمل حديثه عن اللوحات المنتشرة الآن في معرض أوربيا قائلاً:
"لذلك كان هذا المشروع المشترك بيني وبين الشاعر نوري الجراح بحيث استمديتُ مشروع المعرض هذا من مشاهد بصرية متعددة تختلف زمانياً ومكانياً بإسقاطات تاريخية تراجيدية تمثّل المأساة السورية التي لا يوجد لها مثيل بتاريخ البشرية كلها، بما تحمل من ألم ومعاناة. أنا مسرحتُ حقيقة تلك المشاهد كما وصفها نوري وكما أراها بلوحاتي التي جسّدت الهلوكست السوري حصراً ..".
وحول مشروعه المشترك الأخير مع الشاعر نوري الجراح يوضح أسعد فرزات:
"مشاهد تراجيدية ملونة وبالأسود والأبيض أحياناً والبعض منها مختزلة جداً بحركات وتكوينات مسرحية تحكي ما حدث لنا نحن السوريين على شواطئ البحار والموانئ والمطارات والحدود أمام هذا العالم الصامت ...".
وحول مزجه بين الألوان والكلمة، وتأثير الثورة السورية في تحولات مشروعه التشكيلي يقول فرزات:
"حقيقة الثورة أضافت لعملي نوعاً آخر من الطرح الذهني بالضرورة... وتلك تجربة بدأتها عام 2012 بالوجوه أو البورتريهات المعروفة بوجوه أسعد فرزات أيضاً هي وجوه ممسرحة جسدتُ من خلالها خيوط الألم الواضحة بملامحنا.. وجوه قضمت جزءاً منها شظية ساخنة أو رصاصة مفاجئة أو برميل متفجّر، وجوه ابتلعها البحر ثم لفظها على شكل بالونات أو وجوه مشدودة ومشدوهة، ولوحات التجربة الآن “حكايا من شرق المتوسط” إنما هي استمرارية لعملي بتجسيد المأساة السورية، لكن هذه المرة مستمدّة من قصيدة (الخروج من شرق المتوسط) لنوري الجراح... هي عن العلاقة ما بين فضاء الكلمة عند نوري وفضاء الصورة عندي .. ".
ويسترسل أسعد فرزات في حديث يحاول أن يختزل فيه عوالم تعبيرية مختلفة:
"إن الصورتين تصبّان في قالب واحد.. تحاول تجسيد هذا الهولكوست السوري الكارثي الذي يكشف عالماً من الرثاثة البشرية.. والمشروع مستمر عبر أكثر من معرض وربما يُعرض بدول أوروبية أخرى.. فالعمل على المشاهد البصرية مستمر وهي تأخذ منحى آخر أيضاً من حيث الأفكار والتكنيك والعرض، يتّحدان ويتجادلان ويذوبان دون أن يملكوا يقيناً تعبيرياً منجزاً".
التعليقات (0)