الحرب الأوكرانية إلى أين؟

الحرب الأوكرانية إلى أين؟
في أكثر من مرة صرح "بوتين" بشعوره العميق بالحزن والندم على خسارة الاتحاد السوفييتي. وبذلك، يمكن إدراك أن إعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي بشكله السياسي كقوة موازنة عالمية وليست كنموذج أيديولوجي، هو محدد رئيسي في التفكير البوتيني، وقد تبني الروس في هذا المجال عقيدة "إعادة جذب القوارب". أي، إعادة جذب الدول التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي إلى الميناء المركزي (موسكو)، ويدرك بوتين أن الثالوث المركزي في هذه المجال هي الدول الكبرى جغرافياً التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي، وهي: بيلاروسيا، وكازخستان، وأوكرانيا. لذلك، فالسيطرة على هذه الدول هي غاية إستراتيجية روسية لا يمكن التنازل عنها، وبقيت أوكرانيا هي الوحيدة التي تغرد خارج السرب بسبب توجهها السياسي للتحالف مع الغرب. لذلك، عندما شعر بوتين بأنه قد يخسر أوكرانيا نهائيا بعد ثورة 2014، عمل على التدخل العسكري المباشر لاحتلال شبه جزيرة القرم وضمها لروسيا، ودعم سيطرة ميليشيات انفصالية على أجزاء واسعة من شرق أوكرانيا، وقد عملت روسيا بعد عام 2014 على ترسيخ وجودها في كل من شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا. ويدرك العالم أن هذا الوجود لا يشبع الرغبة الروسية الإستراتيجية، وأن هدف بوتين هو السيطرة على القرار السياسي في أوكرانيا سواء كان ذلك بالقوة العسكرية أم بالتفاوض. لذلك عمل بوتين على جذب "زيلينسكي" بعد تسلمه للسلطة في أوكرانيا، ولكن ما قدمه ليس أكثر من أن يصبح الصبي الحاكم في أوكرانيا في كنف "الكرملين". 

يُعتقد أن الرئيس الأوكراني " فولوديمير زيلينسكي" لا يتقن فن الممكن، فقد ارتكب خطأ تاريخياً عندما اتخذ القرار بتجاهل القوة الروسية والاعتقاد بأن الغرب قادر على حمايته من بلطجة "بوتين"، فالغرب يستطيع أن يحمي دولة، ولكن؛ ليس أي دولة، فأوكرانيا الدولة المجاورة لروسيا. أي، التي تقع في محيطها الحيوي وتعدّ من الدول العصية على الحماية. ففي الحقيقة، وعلى عكس ما يعتقد البعض، حاول الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة منع الحرب على أوكرانيا لكنه لم يستطع فعل ذلك لأن إمكانياته في هذا المجال محدودة. وعبارة "إمكانياته محدودة في هذا المجال" تثير عدة تساؤلات أهمها: لماذا إمكانيات الغرب محدودة، وكيف؟ 

في البداية يجب التأكيد أن ميزان القوة يرجح لصالح روسيا بشكل مرعب. لذلك، فإمداد أوكرانيا بموارد قوة تخفف من حدة هذا الرجحان سوف يحتاج لترسانة ضخمة من الأسلحة الحديثة قد تصل قيمتها إلى مئات مليارات الدولارات، كما أن هذه الترسانة تحتاج لبنية تحتية لاستيعابها ووقت طويل من التدريب والتأهيل لاستخدام هذه الأسلحة بكفاءة. رغم ذلك، تستطيع روسيا بما تمتلكه من صواريخ باليستية متطورة، وأقمار صناعية قادرة على رصد تموضع بعض القطعات الحساسة أن تدمر هذه الأسلحة في أمكنتها، كقواعد الصواريخ المتطورة مثلا. إذن، ففكرة تعديل ميزان القوة من خلال التسليح فكرة شبة مستحيلة التحقق. ومن جانب آخر تعلم الدول الغربية أن لدى روسيا من الإمكانيات العسكرية ما يكفي لجعل هجومها أكثر حدة وعنفا وإفراطا. وبالتالي أكثر تدميرا، ومن التخوفات أيضا؛ أن تكون المساعدات ذريعة لبوتين لتوسيع هجومه ليشمل دولا أخرى، وهو، فيما يبدو، مستعد لهكذا سيناريو، بينما الآخرون لديهم التخوف.

في أدبيات العلاقات الدولية؛ هناك ما يعرف بنظرية الألعاب، وهي إحدى الوسائل الحديثة لبحوث العمليات التي تستخدم لاتخاذ القرارات في الحالات والمواقف التي تتميز بوجود صراع بين الوحدات المتنافسة بحيث يسعى كل طرف لتحقيق مصلحته على حساب الآخر. من بين هذه الألعاب ما يسمونها "لعبة الدجاجة"، أو "معضلة الجبان"، وهذه المباراة أخذت اسمها من اللعبة الرياضية التي نشأت بين مراهقي كاليفورنيا 1950م حيث كان هناك سائقان يصلان إلى بعضهما بسرعة عالية من خلال طريق ضيق كلاهما يملك الاختيار، إما أن ينحرف ويتجنب الضربة في الرأس أو الاستمرار في طريق التصادم لتلقي الضربة. أي، إما أن يمتلك الطرفان ما يكفي من الجسارة وتفضيلهما التصادم الذي سوف يؤدي للموت أو لكثير من الأذية، وإما أن يختار أحدهما الانحراف فيسمى "الدجاجة" أو "الجبان. يعتمد بوتين في سلوكه اليوم على هذه اللعبة، فهو انطلق في مشروعه، وعلى الآخرين الاختيار بين المواجهة والابتعاد عن طريقه.

يعلم بوتين جيدا أنه لا يوجد هناك مَن سوف يختار الصدام معه، وهو يعلم أيضا أن الآخرين لن يصفقوا له كبطل فائز، ولن يقبل أحدهم أن يُنعت بالجبان - باستثناء الرئيس الأوكراني الذي سيقبل مرغما -  لذلك، فهو يتوقع بعض ردود الأفعال التي ستكون محصورة ببعض العقوبات الاقتصادية والسياسية، لكنه يرى أن إمكانيات هؤلاء في رد اعتبارهم عن طريق العقوبات الاقتصادية هي الأخرى محدودة، فالاقتصاد العالمي مازال يبحث عن التعافي من الأزمة الاقتصادية التي تسببت بها جائحة كورونا، وسيجد الغرب نفسه عندما يقرّ بعض العقوبات الاقتصادية أنه سيعمل باتجاه تعميق الأزمة الاقتصادية، بينما هو مطالب بالتغلب عليها. من جهة أخرى، يعلم بوتين كما يعلم الجميع؛ أن حساسية الأنظمة الديمقراطية تجاه الأزمات الاقتصادية أعلى بكثير مما هو لدى الأنظمة الديكتاتورية ذات القدرة المرتفعة على التحمل على اعتبار أنها لا تقيم للشعوب وزنا.

إذن، يمكن القول إن بوتين يعلم جيدا ماذا يفعل، وهو اختار اللحظة المناسبة والتوقيت المناسب لشن هذه الحرب التي يُتوقع أن يحصد نتائجها في القريب العاجل. أما بخصوص ما يقال من استدراج أو موافقة أمريكية ضمنية، فهي مقولات أفضل ما يمكن أن يقال فيها: إنها خيالية، فعملية الاستدراج التي اكتشفها أكثر من نصف محللي الفيسبوك تفترض أن بوتين والقيادة الروسية، بشكل عام، قمة في السذاجة والهبل، إذ غابت عنهم إستراتيجية أمريكية (الاستدراج) كانت واضحة لبسطاء الناس. أما "الموافقة الضمنية" فتبدو هي الأخرى مقولة أشد غرابة، فعلى أي أساس يمكن للعقل أن يتقبل هذه الموافقة؟! لعلنا في هذه الحالة سنكون مجبرين مرة أخرى لأن نتقبل أن يكون قادة الدول الأوربية قمة في السذاجة والهبل، إذ يرى محللو الفيسبوك أنها محاولة لإرعاب أوروبا، وبالتالي ابتزازهم، بينما هم لا علم لهم ولا خبر.

روسيا قوة كبرى، ورغم تفوق الغرب عليها بالقوة، إلا أن هذا لا يؤهلهم لحماية من يجاور روسيا، والغرب ذاته يعلم أنها مهمة شبه مستحيلة، لذلك، ستكون الحكومة الأوكرانية ضحية ضعفها بتقدير الموقف، وستنصّب روسيا حكومة موالية لها في أوكرانيا، وهو ما يعني نجاحها في تحقيق أهدافها، وسيجد الغرب نفسه مضطرا إلى إعادة الدفء إلى تحالفاته وعلاقاته البينية. وهم إما سينجحون، على المدى الطويل، في ضبط الانفلات الروسي من خلال زيادة الضغوط على روسيا، وإما سيعتبرون روسيا أحد أقطاب النظام العالمي الجديد كأمر واقع لا فرار منه. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات