بين الصرخة والألم: (رسائل الشتات: سردية المنفى والوباء) أدب ما بعد كورونا!

بين الصرخة والألم: (رسائل الشتات: سردية المنفى والوباء) أدب ما بعد كورونا!
تختلف وظيفة الأدب من أديب لآخر ومن مرحلة لأخرى، كما تختلف الأدوات والأساليب التي يتعامل فيها الأديب مع نصوصه، لكننا لا نختلف على أنّ إحدى وظائف الأدب؛ وفي أفضل وجوهه هي عندما يكون مرآةً للواقع والحياة، يواكبها ويضمد جراحها ببلسم هو "الكلمات".

 صدرت مؤخراً مجموعة سردية للكاتبة والناشرة الفلسطينية "بيسان عدوان" والتي اختارت العودة إلى أسلوب أدبي فريد ومحبب، لتفرد آراءها ويومياتها بقالب سردي على طاولة القارئ، تحت عنوان "رسائل الشتات؛ سردية المنفى والوباء". وعلى الرغم من ظهور العنوان بحلّة إنشائية قد يبدو للوهلة الأولى كأنه عنوان دراسة أدبية، إلا أنّ المقاربة التي عملت "عدوان" على إنشائها ضمن العنوان، وفيما بعد ضمن النصوص -بين المنفى والوباء- منحتها أبعاداً دلالية تشابه الصرخة التي ترافق الألم، وكأنها تحاول التقديم والغوص في جرحين معاً.

وإذا ما تجاوزنا العنوان لنمسك خيوط السردية منذ بدايتها، سنلحظ مراوحة الكاتبة بين عالمين رئيسيين، فكرة الوطن الذي تركته خلفها، والمحيط الجديد بما به، والذي يقرع جدران قلبها مذكّراً أنها الآن منفية، أو كما في قول "إدوارد سعيد" الذي ورد في مقدمة الكتاب: 

(إنّ صعوبة المنفى لا تكمن في الإجبار على العيش بعيداً عن الوطن، بل العيش مع أشياء كثيرة تذكّرك دائماً بأنك منفيّ)

 عن الرسائل:

تفتتح "بيسان عدوان" رسائلها بمخاطب غائب "عزيزي" وهنا تركت الاحتمالات مشرعة أمام القارئ، فربما يكون هذا العزيز؛ حبيباً أو أباً أو وطناً أو ربما كلهم مجتمعين. وهنا أيضاً تحرّض الكاتبة أسئلة عند قارئها، عن المنفى والوطن وتعريفهما، فما هو الوطن في سردية "بيسان عدوان"؟ 

إن تتبعنا النصوص بحثاً عن إجابة لهذا السؤال، سنجد أنّ الوطن لم يحضر بمفهومه التقليدي الذي يعني الأرض والانتماء بل جاء كفكرة مهيمنة على شعور "عداون" أو لنقل بشكل أدق كعقيدة اعتنقتها الكاتبة التي عاشت سنين حياتها بلا وطن، فلم يكن الوطن بالنسبة إليها شيئاً مادياً ملموساً، بقدر ما هو أمنية.

 الحب والحرب، الثورة واللجوء، الأنثى والمفاهيم، الوطن والمنفى، الحجر والوباء؛ موضوعات اختيرت لتكون حاملاً لشعور الكاتبة التي تتشارك في هذا الهم! مع كثير من اللاجئين والمُبعدين على اختلاف جنسياتهم. كما تتشارك مع الناس جميعهم في يوميات الحجر التي شكلت في فترة سابقة هاجساً وهمّاً جمعيّاً لسكان هذا الكوكب المكلوم.  

كما تأتي الكاتبة في رسائلها على ذكر مدن كثيرة وأحداث تاريخية توثق من خلالها رحلة حياتها، أو ترفد بها سرديتها لتأخذ طابعاً وجدانياً وإنسانياً في آن واحد. ومن جانب آخر تأخذ الرسائل في جزء منها طابعاً توثيقياً ليوميات الحجر وفترة انتشار الوباء.

"عندما يستعدّ الوطن للعودة، عاديات المنفى سوف لن تُلزِمنا، فقط استعادة الحنين وحقيبة سفرٍ كل ما نحتاج. اقتبستُ ما قالته شاعرة فلسطينية لأخبر أصدقائي منذ أكثر من عشرين عاماً حين زرت عكا صيف 1999. لم يترك لنا أبي غير المنفى والقلق وأملاً بعودةٍ لا نعرف توقيتها. لم يترك لنا بيتاً نحتمي بين جدرانه من الزمن … لم أرث غير اسمي ووثيقة اللاجئين … وصموداً كما عسقلان … وبعضاً من حلم وأمل بعودة باتت تؤرّق منامنا."

أدب ما بعد الوباء:

مع بداية انتشار وباء كورونا ووقوع معظم بلدان العالم تحت الحجر، تنبأ كثير من النقاد والمهتمين بالحركة الأدبية، بظهور أو انتشار نتاج أدبي على نطاق واسع، نتاج يستمد من ركود العالم والعزلة التي فرضت؛ مادة دسمة لأعمال ستبدأ بالظهور بعد التخلص من الوباء. وقد استمدوا هذه النبوءة من أعمال سابقة كـ "الطاعون" لألبير كامو ومن الأحداث الكبيرة التي تحرك الراكد في النفس البشرية. وقد تحمل هذه الأعمال صفة الطرح غير المباشر أو المكتوب في تلك الفترة، وقد تحمل صفة المباشرة كما في "رسائل الشتات"، وهنا يجدر بنا أن نؤكد على بدء تبرعم هذه النبوءة، ففي السنة الأخيرة وبعد أن نفضت بعض بلدان العالم الوباء عنها، ظهرت أعمال أدبية تناولت يوميات الحجر بشكل مباشر وغير مباشر. ويجد المبحر في رسائل "عدوان" بأنها رسمت علاقة المنفي/اللاجئ المختلفة مع الوباء والحجر، حيث كان وقع ذلك أقسى في نفسها مقارنة بالمواطن العادي الذي يقطن في بلاده فهو متآلفٌ معها.

"في الموجة الثانية من الوباء، لا شيء حقيقيٌّ سوى الموت… في ساعات الحظر الطويلة التي تسود صمتك، تتوقف الحياة، لا شيء غيرك. تهرب من ضجيجك، فتخرج كل وحوش الأرض من مخبئها… ليس هناك من أحد… فقط ظلك يصاحبك أينما مشيت… كلما طال منفاك، ينكشف الضباب لترى كم هو مفزع هذا الوباء."

وتختم "عدوان" رسائلها بالرسالة (صفر)، حيث تلخص لنا معاناتها في المنفى وخلال الوباء، وقد اختارت الترقيم بهذا الشكل في مقاربة للأفعى الأسطورية "الأوروبوروس" والتي تمثّل دورة لا تنتهي من التطور داخل الأبدية، فالرسالة "صفر" أي قبل كل شيء، وقبل البدء، والذي يظل عنصراً بديلاً للقيمة الفارغة ومن هنا بدأت الحياة.

فقد كانت الكاتبة تؤرخ لسردية المنفى والوباء، وتعيد محو الذاكرة أو إفراغها من كل الوجع الذي لاحقها، ففي المنفى، كانت تحاول المضي بجنون لتحتمي في البلاد، وفي الوباء كانت تحاول الحياة ما استطاعت إليه سبيلاً، وفي الرسائل، كانت تحاول أن تبصر نفسها لتتجلى البدايات.

"لا تمشي معي في الحكايا، ولا تنتظر مني أن أخبرك ماذا في الرسائل، أو ماذا بعد الرسائل، فلست مشغولة بجماليّات اللغة، ولا بنيوية النص، ولا الحداثة … هذه الرحلة لي وحدي، ولا أنتظر إنكيدو ليعبر بي النهر، فهو مشغول ببلاده، فهي متعبة أيضاً."

عن الكاتبة والكتاب.. 

- رسائل الشتات: جاء الكتاب في 182 صفحة من القطع الصغير، وهو صادر عن دار ابن رشد في تركيا بالتعاون مع دار الرقمية في فلسطين.

- بيسان عدوان: كاتبة وناشرة فلسطينية؛ أقامت في عدة مدن في المنافي والشتات، ولها عدة كتب ودراسات في مجال الصراع العربي والإسرائيلي، وعدة دراسات إسلامية، وكتاب في مجال الدراسات الإسلامية. عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو اتحاد ناشري مصر، وتركيا. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات