الحرب الروسية الأوكرانية بين الرومانسية الحالمة والنظرية السوداوية

الحرب الروسية الأوكرانية بين الرومانسية الحالمة والنظرية السوداوية
لن نتحدَّث كثيرًا عن الموقف العربيِّ الرَّسميِّ من الحرب الرُّوسيَّة-الأوكرانيَّة؛ لأنَّ كلًّا من الشَّجب والتَّنديد والاستنكار والدَّعوة إلى ضبط النَّفس لن يُغيِّر أيَّ شيء في معادلة الحرب؛ ولهذا يبدو لنا تحليل موقف الشَّارع العربيِّ من هذه الحرب أكثر فائدة من الحديث عن مواقف الدُّول العربيَّة الرَّسميَّة باستثناء تعريجنا على تناقضات محور المقاومة السُّوريِّ-اللُّبنانيِّ على المستويين: الرَّسميِّ والشَّعبيِّ؛ فقد عبَّر وزير خارجيَّة لبنان عن رفضه الحربَ الرُّوسيَّة على أوكرانيا بما ينسجم مع ظاهر الموقف الأمريكيِّ وكثير من مواقف الدُّول الأوروبِّيَّة الأخرى، في الوقت الَّذي بدت فيه دبَّابات روسيا جزءًا من فيلق القدس بالنِّسبة لحزب الله اللُّبنانيِّ، وغدا طريق هذه الدَّبَّابات إلى كييف وتشرنوبل عنواناً لنصر بشَّار الأسد على المؤامرة الكونيَّة وجزءاً لا يتجزَّأ من طريق القدس الممتدِّ من موسكو حتَّى الضَّاحية الجنوبيَّة.

ولعلَّ تناقضات الإعلام العربيِّ غير بعيدة عن تناقضات الموقف الرَّسميِّ في الدُّول العربيَّة؛ ولربَّما تَكَشَّفَ هذا التَّناقض في أكثر من تغطية إعلاميَّة لهذه الحرب، وظهر لنا اضطراب الإعلام العربيِّ مرَّات عدَّة وعلى مستوى لقاء واحد بين ضيوف يحلِّلون هذه الحرب بعيدًا عن المنطق حينًا ودونما فهم أو دراية بخريطة العالم الجيوسياسيَّة حينًا آخر، مثلما تكشَّفت لنا حيرة مقدِّمي البرامج وتردُّدهم مع ضيوفهم أكثر من مرَّة؛ فهذا يرى في روسيا نِدًّا قويًّا لا بدَّ من نهوضه لكسر سياسة القطب الواحد على مستوى العالم، وذاك يقف مع الشَّعب الأوكرانيّ انطلاقًا من نزعة إنسانيَّة أو موقف أخلاقيٍّ لدى شعب ذاق أفراده ويلات الحروب، وخبروا مآسيها؛ وصرَّح آخرون بأنَّ أمريكا وأوروبَّا خذلتا الشَّعب الأوكرانيِّ كما خذلتا شعوبًا أخرى قبله، ولم تقم أمريكا والدُّول الأوروبِّيَّة المتحضِّرة بأكثر من رفع العلم الأوكرانيِّ، الَّذي رفعه على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ كثير مع أبناء الشُّعوب المقموعة دونما حاجة لدولة أو حكومة أو جيش أو وزارة؛ وبرغم كثرة وجهات النَّظر السَّابقة وجدنا رأيين متخالفين أو نظريَّتين متناقضتين تماماً؛ يمكننا أن نطلق على النَّظريَّة الأولى اسم: نظريَّة الحلم الرُّومانسيِّ، الَّتي رحَّب أصحابها بأيِّ حرب قادمة؛ لأنَّها ستنهي_من وجهة نظرهم_نظام الاستبداد العالميِّ القائم، أو ستسهم في تقويضه على أقلِّ تقدير.

مقابل هذه النَّظريَّة الرُّومانسيَّة الحالمة، أميلُ شخصيّاً إلى أصحاب النَّظريَّة السَّوداويَّة، وآمل ألَّا تكون هذه النَّظريَّة صادقة؛ لأنَّها أكثر قساوة وسوداويَّة بين الآراء والنَّظريَّات السَّابقة كلِّها؛ ويرى أصحابها أنَّ معظم الحروب الحاصلة في العالم المعاصر بعد تفكُّك دول الاتِّحاد السُّوفياتيِّ إلى جمهوريَّات متعدِّدة سنة 1991.م، كان باتِّفاقات سرِّيَّة بين الدُّول العظمى ذات العضويَّة الدَّائمة في مجلس الأمن الدُّوليّ، وإن تراشق قادة هذه الدُّول الاتِّهامات، أو شجبوا الحروب، أو استنكروها، أو ندَّدوا بها وبقادتها عبر وسائل الإعلام؛ فإنَّ أيَّ واحد منهم لا يقوم في حربه قبل الحصول على موافقات الآخرين الصَّريحة أو الضِّمنيَّة، ولا سيَّما إن كانت حرب أحدهم في منطقة من مناطق نفوذه؛ كحرب بوتين الحاليَّة في أوكرانيا.

يرد أصحاب النَّظريَّة السَّوداويَّة على أصحاب نظريَّة الحلم الرُّومانسيِّ بقولهم: إنَّ خريطة العالم المعاصر الجيوسياسيَّة مقسَّمة إلى مناطق نفوذ منذ نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية سنة 1945.م؛ فقارَّة أمريكا الشِّماليَّة وقارَّة أمريكا الجنوبيَّة ومناطق مهمَّة أخرى في العالم تحت نفوذ الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة؛ لذلك تعزل أمريكا مَن تشاء مِن قادة تلك الدُّول، وتدعم أيَّ انقلاب عسكريٍّ تريد له النَّجاح، وتتدخَّل عسكريّاً لو احتاجت إلى هذا الأمر دون معارضة حقيقيَّة من أيِّ دولة عظمى أو صغرى في العالم، وتستفيد أمريكا في ذلك من قوَّتها العسكريَّة الهائلة وأساطيلها البرِّيَّة والبحريَّة والجويَّة المنتشرة في أرجاء العالم وجهاته الأربع، ولعلَّ اجتياح العراق سنة 2003.م أشهر مثال يسوقه أصحاب النَّظريَّة السَّوداويَّة للاستشهاد على صحَّة آرائهم وتوجُّهاتهم.

لا يكتفي أصحاب النَّظريَّة السَّوداويَّة عند هذا الحدِّ، بل يستطردون في ردِّهم على نظريَّة الحلم الرُّومانسيِّ، ويرون أنَّ نظام الاستبداد العالميِّ الجديد لم يكن وليد ليلة وضحاها، ويؤكِّدون أنَّ هذا النِّظام نتيجة تطوُّرات كثيرة طرأت على خريطة العالم الجيوسياسيَّة قبل الحربين العالميَّتين: الأولى والثَّانية بزمن طويل؛ ومن وجهة نظر أصحاب هذه النَّظريَّة أنَّ معالم هذا النَّظام العالميِّ راحت تتشكَّل منذ 530 سنة تقريباً؛ حين عَبَّر ملك البرتغال (جواو الثَّاني Joao II O Principe Perfeito) (1455-1495.م) عن ابتهاجه باكتشاف طريق رأس الرَّجاء الصَّالح البحريِّ، الَّذي يُمكِّن الأوروبّيِّين من السَّفر إلى الهند دون المرور ببلاد العثمانيِّين المسلمين أو المحمَّديِّين كما وصفهم (كريستوفر كولومبوس Christophorus Columbus) (1451-1506.م)، الَّذي اكتشف معظم الدُّول في القارَّتين الأمريكيَّتين بين (1492-1494.م) خلال بحثه عن طريق بحريَّة إلى الهند؛ لا يحتاج مسافروها إلى العبور من بحور العثمانيِّين المسلمين أو بلاد المحمَّديِّين، بحسب تعبير كريستوفر كولومبوس ذاته، وقد أسهم الذَّهبُ الَّذي اغتنمه كريستوفر كولومبوس من الهنود الحمر في الأمريكيَّتين في تمويل حروب الأوروبِّيِّين ضدَّ العرب المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيريَّة، وأكَّد سقوط الأندلس، وساعد بريطانيا على احتلال الهند، وزاد الذَّهب القادم من الأمريكيَّتين من قدرة الأوروبِّيِّين على تمويل حروبهم الطَّويلة جدّاً ضدَّ العثمانيِّين؛ حتَّى تمكَّنوا من إسقاط الدَّولة العثمانيَّة في الحرب العالميَّة الأولى بين (1914-1918.م)، وبعد هزيمة الدَّولة العثمانيَّة في الحرب العالميَّة الأولى، تقاسمت أمريكا والأوروبِّيِّين تركة الرَّجل المريض، الَّذي صار فارساً مهزوماً، وأعادوا ترتيب أوراق النُّفوذ والسَّيطرة على خريطة العالم الجيوسياسيَّة بعد الحرب العالميَّة الثانية بين (1939-1945.م)، ومنذ ذلك الحين لم يشهد العالم حربًا حقيقيَّة غير الحرب الباردة، الَّتي فكَّكت دول الاتِّحاد السُّوفياتيِّ.

يقودني هذا الإسهاب الدَّقيق لدى أصحاب النَّظريَّة السَّوداويَّة إلى الاقتناع بوجهة نظرهم برغم كرهي لها ونفوري منها؛ ولا سيَّما أنَّ أصحاب هذه النَّظريَّة يؤكِّدون أنَّ قادة هذا النِّظام العالميَّ الاستبداديِّ  من رؤساء الدُّول العظمى لن يسمحوا بنشوب أيِّ حرب كبرى؛ لأنَّها ستقود إلى خروج العالم من قبضتهم، وستؤدِّي حكماً إلى ولادة قوى جديدة، وكلُّ هذا لا يصبُّ في مصلحتهم؛ فكيف سيسمحون لحرب صغيرة جدّاً مثل حرب بوتين في أوكرانيا أن تُزعزع قبضتهم على العالم؟! ولعلَّ هذا التَّحليل المنطقيِّ برغم سوداويَّته أقرب إلى الواقع؛ لأنَّ نظاماً عالميّاً عمره حوالي 530 سنة تقريباً؛ لن يسقط بمثل هذه الحرب الصَّغيرة، بل كيف يسقط هذا النِّظام النَّاتج عن تراكم أحداث سياسيَّة وحروب عسكريَّة وكشوف جغرافيَّة بدأت منذ اكتشاف رأس الرَّجاء الصَّالح والقارَّتين الأمريكيَّتين؟ لا بل كيف يتجرَّأ أصحاب النَّظريَّة الرُّومانسيَّة الحالمة بالشُّروع في مثل هذا الحلم الرُّومانسيِّ، الَّذي يدفعهم إلى القول: إنَّهم يؤيِّدون أيَّ حرب ستقود إلى سقوط بوتين، أو زعزعة نظام الاستبداد العالميِّ السَّائد؟! ولذلك يرى أصحاب النَّظريَّة السَّوداويَّة أنَّ حرب بوتين ستنتهي بهيمنته على أوكرانيا أو هيمنته على قرارها السِّياسيِّ على أقلِّ تقدير، ويزيدون على ذلك رأياً أكثر مرارة وسوداويَّة؛ يقولون فيه: لو اتَّسعت هذه الحرب إلى حرب عالميَّة أو حرب واسعة؛ سنكون نحن_الضُّعفاء_وقودها، وستكون بلداننا في الشَّرق الأوسط ساحة لتصفية الحسابات بين الدُّول العظمى، وسندفع أرواحنا وبيوتنا وأوطاننا فاتورة كبرى لها. 

التعليقات (1)

    Hani Al

    ·منذ سنتين 4 أسابيع
    يمكن للتصنيف ان يسهم في عرض الفكرة شرق وغرب متشائم متفائل... لكن من وجهة أخرى هناك دور للبرغماتية التي تحرص على استمرار الصراع والعارف القوى يدير اللعبة ولا يهم لون العلم او عرق القوى المتنافسة وهي تتجدد عبر العصور... هذه استراتيجية الماسونيه الذين ادركوا حقيقة الوجود والتفاعل البشري و اتخذوا مكانة الله وسموه مهندس الكون الاعظم
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات