10 سنوات على رحيله: إطلالة على عالم تاج الدين الموسى وسخريته من الشرطة والأمن

10 سنوات على رحيله: إطلالة على عالم تاج الدين الموسى وسخريته من الشرطة والأمن
مرت في الثالثة والعشرين من شهر شباط / فبراير الحالي الذكرى العاشرة لرحيل القاص السوري (تاج الدين الموسى) أحد أبزر كتاب القصة في سوريا. ثمانينات وتسعينات القرن العشرين. أورينت نت اختارت أن تحيي الذكرى العاشرة لرحيل هذا الأديب السوري الذي عاش حياته معارضا لنظام الأسد عبر إطلالة نقدية على عالمه الأدبي. (أورينت نت).

تمر الأيام هكذا مهرولة، رغم كآبتها وتجهمها، فتأخذ منا على حين غفلة ومن الأدب السوري المبدع تاج الدين الموسى. ومن شديد الأسف أنني لم أقرأ لتاج إلا بعضاً من قصصه المتناثرة في عدد من المجلات، وآخرها قراءتي لقصته في مقر اتحاد الكتاب العرب بحلب في النصف الثاني من عام 2011، لا أذكر الشهر بالضبط، لكني أذكر أن صحة تاج كانت قد تدهورت، ولم تعد تعينه على صعود الأدراج العالية ومقر فرع حلب في الطابق الثالث، والمصعد الوحيد لا يؤتمن جانبه مع انقطاع التيار الكهربائي، فتطوعت عندئذ للقراءة، وأظنُّ أنني وفقت بمساعدة أسلوبها الرشيق وجملها القصيرة وكذلك بغنى حوار أبطالها ودلالاته المثيرة، إضافة إلى نبل غايتها ومحتواها الذي يتجلى للقارئ عبر سخرية هادئة من واقع ينضح قسوة ومرارة..!

 كل ذلك في اعتقادي، زاد في متعة المتلقين الذين أبدوا انسجامهم. وهأنذا أكتب في الذكرى العاشرة لوفاة تاج، ولوفائه الذي تميّز به في حياته ولأحكامه الموضوعية في مجمل قضايا حياتنا..

حديث الثورة وبراءتها

 ما أذكره الآن أن الأديب تاج حدثنا قبيل قراءة القصة عن المظاهرات في إدلب وعن خروجه، وصديق عمره الأديب الساخر خطيب بدلة في التظاهرات جميعها، وكم كان معجباً حدَّ الإدهاش بأهالي مدينته وبتعاطفهم، فوصف لنا كيف كانت أبواب بيوتهم تشرع للمتظاهرين لدى ملاحقة أجهزة الأمن لهم، حتى وإن لم يكن أحد من الرجال فيها، وهم المجتمع المحافظ نسبياً. يقول تاج:

 كنا نرى الأبواب مشقوقة قليلاً، فنندس فيها ملتمسين الأمن، ثم نأخذ بمراقبة عناصر الأمن، وننتظر انفضاضهم. فنخرج إلى بيوتنا مغمورين بفرحَين: الأول خروجنا بالمظاهرة ونجاحها، والثاني تضليلنا عناصر الأمن وعودتنا سالمين بفضل تضامن أهلنا وشعبنا!

كان تاج يتحدث بفرح طفولي، يروي لنا القصص المدهشة، وكنت أرنو إلى عينيه، فأرى في نضرة بريقهما آلاف الفراشات التي لامستها ريش الحقول بعفوية وبراءة، فجاءت تحمل بشائر الخضرة وأريج الزيتون. أما مفرداته التي نثرها أمامنا صوراً ولوحات، آخذة أرواحنا إلى آماد بعيدة، فكانت أشبه بأسراب دورية، ترف وتدور في محيط بلوري أزرق، تتأرجح نشوانة بسحر الضوء، وبهجة الصباح.

 نعم لم أكن آنئذ، قد قرأت لتاج الدين الموسى، إلا ما ندر كما أسلفت، لكنني بعد ذلك التاريخ قرأت له خمس مجموعات دفعة واحدة، لأفاجأ به لا ككاتب متفرد في أطر قصصه ومضامينها، بل لأتساءل عن سبب أو أسباب تجاهل أصحاب الشأن لمثل هذا الكاتب المهم؟! ربما لاهتمامه بمن لا شأن لهم! 

أما الآن فكيف لي أن أوجز ما استشففت من قيم الأدب وجمالياته عند المبدع تاج؟! 

بداية لا أرغب بخلط الأدب بالسياسة، على الرغم من أن الأدب سياسة، ولكن في إطار جميل، إطار معشب ندي، يدخل عوالم النفس البشرية بسهولة ويسر، لما فيه من متعة، تأتي من قوة التعبير وجمال التصوير، ومن عزف هادئ على أوتار حركة الناس اليومية وما فيها من تشابكات وصراعات. وعبر ذلك الرصد يعيد الأدب ترتيب برمجة الذهن لما هو أكثر نفعاً ومتعة للإنسان.

 كذلك لن أدعي بأن الأدب السوري قبل الثورة قد مهَّد لها، لا هو لم يفعل ذلك لا لأنه أدب صادق فنياً وإنسانياً لا يحابي أنظمة أو يخشاها، رغم دعوة اتحاد الكتاب العرب لأن يكون الأدباء بوقاً للحاكم وسلطته. لكنَّ الأدب الحقيقي لا يستطيع أن يرسم غير صورته ومحتوى الحياة التي يعيشها صانعه 

قصص تاج الدين الموسى

أعود إلى الأديب القاص تاج الدين الموسى في تلك المعمعة، فربما أجده يستظل إلى هذا الحد أو ذاك تحت مظلة حزبه الشيوعي(سابقاً) الذي غادره قبل وفاته بسبب تخلفه عن ركب الجماهير الشعبية، فغادره الأدب والأدباء معاً، وفي مقدمتهم تاج الذي لم يأخذ حقه من الشهرة، وظل كغيره مهملاً مركوناً على رف قرية المركونة نموذجه المحبب الذي يتكرر في معظم قصصه رمز للمهمش والمعطل! وهل يمكن لنظام استبدادي لا يحفل بالأدب والأدباء أن يحفل بالريف رغم حاجة الشعب إلى قمحه وذراه، وإلى تينه وزيتونه وحليب بقره ولحم نعاجه؟! 

 يمكنني في إطار الأدب فحسب أن أضع اللوم على النقد أو سواه، ويمكنني كذلك أن أرى لب المسألة وجوهرها يكمنان في الاستبداد عدو الكلمة التي هي فاتحة لأبواب العلوم كلها، إذ لا يمكن للثقافة عموماً أن تنمو من غير الحرية نقيض الاستبداد.  

سخريته من رجال الشرطة والأمن

سخرية تاج الدين الموسى سخرية مبتدعة تخصه وحده، وليس لي أن أقرنها بأحد من الكتاب الساخرين، إنها سخرية هادئة ناعمة لكنها مؤلمة موجعة، قد تنوس بين الجد والهزل. لننظر الآن إلى هذا المقطع من قصته "مسائل تافهة" التي يسخر فيها من البيروقراطية التي ركبت القطاع العام بالحذاء العسكري، فهو خاص في الأصل ومن كد أصحابه ومساهمة الآخرين. يقول مالك المصنع الذي استولت عليه الحكومة:

«يوم كانت هذه الشركات لنا، كانت ظهورنا للكراسي وعيوننا على الآلات والعمال. العامل النشيط نكافئه والكسول نعاقبه وإذا لزم الأمر نسرّحه، الآلة التي تتعطل نصلحها فوراً، والتي يتعذر إصلاحها نركب بدلاً منها.. أما أنتم فقد وضعتم لإدارة هذه الشركات أناساً ظهورهم للعمال والآلات وعيونهم على الكراسي والسيارات، فكيف ستربحون؟!» ص 7. 

في مكان آخر ترى السخرية مستبطنة بكلمة واحدة هي كلمة: خرط التي قد تكون ميكانيكياً مستخدمة، لكنها، وفي سياقها العامي، تعني الكذب والابتعاد عن الواقع:

يقول معاون المدير في أول اجتماع لمجلس الإدارة بعد عودة المدير العام من سفرة له على أوروبا:  

«حققنا في غيابكم الإنجاز الذي حلمتم به طويلاً، ألا وهو دخولنا عصر التصنيع من أوسع أبوابه. صحيح أنَّ المسألة لم تتعدّ خرط برغي واحد، لكن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وها نحن قد خطوناها بنجاح.» ص 9 

لنلاحظ هنا النَّوَسان الذي أشرت إليه، فحديث صاحب المصنع المستولى عليه، صاحب الحق المسروق، قد أتى جدياً وهو يصف الواقع بدقة، بينما جاء حديث الآخر موضوع السخرية بعيداً محلقاً. ولنلاحظ أيضاً كلمة "خَرْط" التي لها في المخيال الشعبي معنى الكذب الفاضح والواسع، بينما هي كلمة لها دلالتها في علم التكنولوجيا المعدنية.. فأتى بها الكاتب في تركيب يدعى في علم البلاغة "التورية" ليسخر من كذب هؤلاء بالإشارة إلى دلالة المعنى البعيد للكلمة. ومثل هذه الأمور تتكرر في العديد من القصص. ولا تكتفي القصة بهذه الإشارة بل تتعداها إلى أمور أخرى كثيرة منها: سلوك المدير، وتفضيله أسرته، ومسائله الشخصية على عمله والمؤسسة، يبرزه الكاتب في مبالغة المدير حين الحديث عن المؤسسة فهي مفضلة على أهل بيته وأولاده. وكذلك في تصوير علاقة المدير بعماله وموظفيه، إذ تسودها الممالأة والمواربة والمداهنة.. إلخ..

وإذا كان تاج قد سخر هنا من أساليب إدارة القطاع العام فهو في قصة "ثمن الرائحة" من المجموعة ذاتها يسخر، بل يفضح رجال الشرطة وعناصر الأمن الذين تسلطوا على ابن الشعب المغلوب على أمره.. فبطل القصة العاطل عن العمل يسمع بارتفاع سعر البطيخ في المدينة وهو في المركونة ببلاش أو شبهه، فيعمل وزميله على استئجار سيارة سوزوكي، ويقودانها إلى هناك، ليعودا بها محملة بالبطيخ الأحمر الشهي فرحين حالمين لا بالربح فحسب، بل بتوديع الفقر إلى الأبد. بيد أن دوريات الشرطة والأجهزة الأمنية المنتشرة على الطرقات لهما بالمرصاد ،فتأخذها منهما خمساً وراء خمس إلى أن يفاجأا، حين وصولهما إلى المدينة بنفاد البطيخ إلا واحدة فقط، فيحملها صاحبنا بطل القصة، يتأملها قليلاً، ثم يقذف بها إلى الرصيف لتصير شقفاً ونتفاً، ولتفوح رائحتها الشهية في أرجاء الشارع، وليحمل هو خيبته وأوهام أحلامه المصادَرة. 

يمنح هذا المشهد القارئ، دلالات عنوان القصة في جملتها الأخيرة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأقدار قد شاركت الكاتب سخريته، فزادت له في الطنبور نغماً، إذ عمد الفنان ياسر العظمة إلى لطش هذه القصة وتحويلها إلى حلقة في مسلسله الساخر أيضاً "مرايا"، دون أن يعطي كاتبها مليماً واحداً. ولا حتى الاعتراف بجريمة اللطش؟!

ولا يكتفي كاتبنا بسخريته اللاذعة هذه من أجهزة الحكومة وتصويره تطاول أدواتها على الشعب ومقدراته عبر أشكال متعددة تثير الضحك والشفقة بآن واحد، وهو جوهر ما يرمي إليه كاتبنا، أي إظهار المرارة في عمق الضحك، وبذلك تستوفي السخرية شروطها وتحقق غاياتها ومراميها، بل تراه يأتي إلى الشعب ذاته إلى عمق نفسه، فيكشف حال ضعفه وانقياده وتفككه، وبالتالي تهافته على ظالمه والتمسح به وتكريسه لما هو فيه. وهي غاية ما يطمح إليه الاستبداد من تصغير وإخضاع. ففي قصة حارة شرقية وحارة غربية من المجموعة التي تحمل الاسم ذاته، والصادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 1996 يرينا الكاتب تسابق زعماء الحارتين إلى دعوة كبار موظفي الحكومة لزيارة حارته ولغاية الاستقواء بهم على أهالي الحارة الثانية شق قريته الآخر، وكيد الاثنتين بعضهما لبعض، وإنفاقهما على تلك الزيارات ما يعجزهم من أموال واستهلاك ممتلكات. في هذه القصة يمتد خيط الدلالة ليشمل الحكام العرب كلهم وليفضح سياساتهم التي تبقيهم على فُرقتهم وصراعاتهم الثانوية بينما عدوهم يسرح حواليهم ويمرح.

سلاسة القص.. وصفاء اللون

أكتفي بهذا القدر من الشواهد على الرغم مما يمكن أن تأتي به الشواهد من فائدة وإغناء ودخول في عالم تاج الدين الموسى القصصي فلكل قصة من قصص تاج نكهتها ومذاقها وتسليطها الضوء على جانب من جوانب الريف الإدلبي الذي لعله لا يغاير الريف السوري كله.

 وإذا كان لي أن أصف تاج بأنه كاتب الفلاحين وقضاياهم وعلاقاتهم ودقائق حياتهم اليومية في قراهم المهمشة بل المنسية، فسوف أفعل فهو كذلك بامتياز، ولا تشعر وأنت تقرأ له بأنه يفتعل أمراً ما في كتابته، فعلى العكس تماماً ترى قلمه ينساب جدولاً في انحدار هادئ لا نتوء في طريقه ولا عوائق..! 

لا يميل تاج في أسلوبه إلى الوصف والإنشاء، ولا تأخذ الأناقة اللفظية من عباراته أي حيز، قد يعمل على توشية أسلوبه ببعض المحسنات البديعية كالطباق والجناس والتورية وبما يخدم الدلالة اللغوية ويعمق محتوى رؤيتها في ذهن القارئ، ولذلك فهو يبتعد، ما أمكن عما يعيق سلاسة القص أو ما يمكن أن يفقد السخرية صفاء لونها السهل البسيط! 

وإذا كانت القصة تميل إلى رصد التفاصيل الصغيرة في حياة الناس والمهمشين منهم على نحو الخصوص، فإن قصص تاج قد أتت على ذلك بإتقان. فتاج لم يترك تفصيلاً في عالم القرية والأرض، وعلاقات الفلاحين ببعضهم وبزرعهم وحيواناتهم إلا وبنى عليها قصة أو بعضاً من قصة. وإذا كانت للقصة الناجحة أن تذيق القارئ شيئاً من ريقها الحلو منذ سطورها الأولى فإن تاج قد فعل ذلك بخبرة من يترك على شفاه صبية بريئة طعم قبلة أولى لا يمكن لزمن أن يمحوه أبداً.

وأخيراً إذا كان لكاتب أن يربط بين الفكر والممارسة فإن تاج قد فعل ذلك بصدق وعفوية، وإن كان الموت غير عادل باختطافه مبكراً، فإن تاج قد ترك روحه في ثنايا أدب تحكي قصص الحياة والإنسان.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات