رواية (أفعال بشرية): الموت كما يراه ميّت.. وصفعات السلطة السبع

رواية (أفعال بشرية): الموت كما يراه ميّت.. وصفعات السلطة السبع
تستردُّ رواية "أفعال بشرية" للكاتبة الكورية هان كانغ الحاصلة على جائزة مان بوكر عام 2018 مشهديةً خبرناها نحن السوريين، حيث قمع السلطة الوحشي لانتفاضة الناس ضدها، الأجساد التي هشّمت تكوينها قبضةُ العسكر، رائحة الدم المتخثر، وحديث الجثث عن قاتلها يُتلا بلا انقطاع في ذاكرتنا، وداخل دم الحبكة وروحها المستيقظة.  

الرواية التي تستعيد انتفاضة مدينة غوانغجو(جنوب غرب كوريا) حين بدأت في 18 حزيران/ مايو 1980 نستعيد معها المذاق اللاذع لخرائب الموت، ويقظة الروح البشرية في كل الأمكنة والأزمنة المتورّمة بالقبضة البوليسية لسلطة لا تجيد سوى إكالة الموت لشعوبها، نقرأ متأخرين الترجمة العربية للرواية لمحمد نجيب، وهي صادرة عن دار التنوير عام 2020.

موتٌ كثير، جثثٌ تنتظر

يتأسس السرد في مراسم تأبين ودفن ضحايا مجزرة "غوانغجو" فالكاتبة تقرر أن تبدأ حبكتها باستخدام ضمير المخاطب "أنت" لكنها تتمسك بأنها الراوية في الزمن الحقيقي للسرد، وسرعان ما نعاين الجثث الملفوفة بقماش أبيض، وعليها قصاصات ورقية تتضمن معلومات عن الجنس والسن التقريبي ونوع ولون الثياب، قبل نقلها إلى قاعة الرياضة التابعة لمبنى المقاطعة. يكتسي السرد بتلك التفاصيل، في الصفحة 31 مثلاً: "...في صباح اليوم التالي، حملتَ والفتاتان العديد من الجثث الأكثر تعفناً إلى الفناء خلف مبنى المقاطعة، كانت تصل إليكم الكثير من الجثث الجديدة..."

ينعش ضمير المخاطب "أنت" حميمية اتصالنا بالسرد، وأن نكون برفقة الفتى دونغ هو، تلك الشخصية التي استولت على وجدان ومخيلة الكاتبة منذ البداية، والذي قادته المصادفة ليعمل مع المتطوعتين "أون سيوك" و "سيون جو" وقد جاء إلى مبنى المقاطعة بحثاً عن صديقه المفقود خلال المظاهرات "جونغ داي"

يتقدم السرد ببطء متقن، الأم والشقيق الأوسط لدونغ هو يأتيان إليه ليقنعانه بالعودة إلى المنزل، فلا يرضَى، يسوق حجة بحثه عن جونغ داي، وهو الذي يعلم أنه سقط برصاص القناصة، السرد يمسك الانتباه بمكر بالرغم من بطء مرور الزمن الحقيقي.    

"جونغ مي" شقيقة "جونغ داي" كانت قد اختفت قبل مقتل أخيها. تكرّس الكاتبة لغة سردها الليّنة، وانتقالها بين فعل الرويّ الذي تملكه بمفردها، وبين مخاطبة "دونغ هو" محور حبكتها ومفتاح ولوج باقي الشخصيات، مستعينةً بحوارات بنائية تنطقها الشخصيات لتوسيع فضاء السرد، نقرأ في الصفحة 69 انتقالها السلس من حوار تُذكّر الكاتبة "دونغ هو" به وقد جمعه بجونغ مي إلى وصف مشهديّ أعقبه مباشرةً: "وقفتَ هناك تحدق بوجهها المبتسم مندهشاً من انطلاقها غير المسبوق في الكلام معك، ومن النور الذي يطل من عينيها المشرقتين مثل تحرر بتلات زهرة شاحبة من بين براعمها المحكمة الإغلاق…"

يمضي السرد وكأن "دونغ هو" عالقٌ مكانه في صالة الرياضة، حيث الجثث المتكدسة والشموع ونحيب العائلات المكتوم، نسترق في الصفحة 79 إطلالةً على ذاك المكان مجدداً: "...تعلم ما ينتظرك وراء تلك الأكفان القطنية وأنسجتها الملطخة بدم وإفرازات سائلة حين تنزعها، تعلم ما ينتظرك كي تراه مرةً أخرى: الوجوه الممزقة طولياً، والأكتاف المجروحة جراحاً بالغة تكشف عن اللحم أسفلها، والنهود التي تتحلل أسفل البلوزات"

الموت كما يراه الميّتُ!

في الفصل الثاني تكفُّ الكاتبة عن كونها صاحبة السرد، تريد حبكةً متعددة الرواة، بتقنيات سرد متنوعة، إذ يبدأ السرد في هذا الفصل على لسان جونغ داي: "تكومت أجسادنا فوق بعضها البعض على شكل صليب، ثمة جثة رجل ملقاة فوق بطني بزاوية قائمة، وجهه إلى أعلى، وتعلوه جثة صبيّ أكبر مني سناً، وطويل القامة إلى درجة أن مقدمتَي ركبتيه كانتا تضغطان على قدمي العاريتين، داعبَ شعر الصبي وجهي، كنت قادراً على رؤية كل هذا لأني كنت ما أزال عالقاً داخل جسدي الميت".

     

لا تغامر الكاتبة باعتناق سردٍ ترويه روحُ "جونغ داي" الميت، فهذا جعل الحبكة أكثر إحاطةً بنشيد الموت والجثث التي تكبدت عناءه، نقرأ في الصفحة 88، وقد شعرت روح جونغ داي بأن شقيقته قد ماتت، قبل موته هو: "...شعرت بألم فظيع كاد يحطمني، أدركتُ أنها ميتة، ماتت حتى قبل أن أموت أنا، بلا لسان ينطق بها أو صوت يحملها، انفلتت مني صرخةٌ ممزوجة بدم وسائل مائي، لا تمتلك روحي عينين، فمن أين انبثق هذا الدم؟! وأي نهايات عصبية كانت تحفّز هذا الألم الذي انفجر في كياني غير المادي؟!..."  

يتحصن جونغ داي الراوي في هذا الفصل وراء تقديم وصف حسّي متقن -وهو الميّتُ جسداً- لما يحيط بكومة الجثث حيث ترقد جثته، ثم يقدم سرد ذكريات آتياً بالحبكة من موجةٍ أخرى، في الصفحة 93 نقرأ: "...لو كنت أستطيع العودة بالزمن إلى الصيف الماضي، حين كنتُ أنتظر في رواق المدرسة انتهاءَ حصتكَ، مبدلاً القدم التي أستند بها على الجدار بين الفينة والأخرى بنفاد صبر" ثم يتقاطع سرد "جونغ داي"، مع سرد الراوية الموجّه إلى "دونغ هو" في الفصل الأول على سبيل المثال، حول سبب أخذ "جونغ داي" لممحاة السبورة، وهنا لا يستدرُ السرد عائداً إلى الوراء، بل يحيط بصور الحبكة المتدفقة بمشهديّة عميقة منذ بداية الرواية، ويثري تكوينها بتعدد الرواة. يَرِدُ في الصفحة 102: "...قبضتُ على يدك وقدتكَ إلى الأمام نحو المقدمة، بينما تمتمتَ إلى نفسك غير مصدق: جنودنا يطلقون الرصاص، يوجهون طلقاتهم إلينا؟! سحبتكَ نحو الجماهير الأمامية بكل قوتي، وفتحتُ فمي لأغني، بينما بدوتَ على وشك البكاء، غنّيت مع الحشود النشيد الوطني، وقلبي على حافة الانفجار..."

ولسببٍ ما ترمينا الحبكة في نهاية الفصل الثاني أمام فكرة مقتل "دونغ هو" حيث تسرد روح "جونغ داي" ذلك في الصفحة 110: "...هل كان عليَّ القدوم إليكَ في لحظتها؟ لو فعلت، لكان بمقدوري العثور عليك يا دونغ هو، وأن أزيل عنك الرعب الذي لا بدَّ قد اعتراك لحظة انفصالك عن جسدك…"

نسيان صفعات السلطة السبع

تنتقل الحبكة من العام 1980 خمسةَ أعوام إلى الأمام في الفصل الثالث، حيث تعود الكاتبة هي الراوي، تشير في أوله إلى تلقي المحررة المساعدة في دار نشر "كيم أون سوك" سبع صفعات في قسم شرطة بسبب تكتمها على معلومات تفيد بالعثور على المترجم، وسرعان ما ينعطف السردُ عائداً إلى "غوانغجو" والتي بدا بأنه ابتعد عنها في هذا الفصل، حيث أصول "كيم أون سوك" تعود إلى تلك المدينة، قبل أن تنتقل إلى سيؤول العاصمة، نقرأ في الصفحة 131: "...(فلتسقطوا مع السفاح تشون دو هوان) شعرتْ كأن تلك الكلمات منحوتةٌ على صدرها، وهي تتأمل الآن صورة الرئيس تشون دو هوان، المعلقة على الجدار الجصي، تساءلتْ كيف يمكن لوجه أن يخفي بخبث شديد الحقيقة المستترة وراءه؟ كيف لا يدمغ وجهه بحبر لا يمحي بكل تلك الغلظة والقسوة والإجرام الكامنة بداخله؟…"

جامعة سيؤول أيضاً عانقت الاحتجاجات في "غوانغجو" تلك التفاصيل التي كانت تعبر الحبكة بخفّة وبصنعة لغةٍ متقنة، مثل الخفة التي نتصفح بها حياة كيم أون سوك أثناء محاولاتها نسيان الصفعات السبع، ثم تلتحق تلك التفاصيل في الصفحة 148 بجسد الحبكة الرئيسي المبني في غوانغجو، نقرأ: "...مكتب الشكوى كان مهجوراً أيضاً باستثناء رائحة العفونة الكريهة التي تفوح من عدد من الجثث المتحللة، بدت الجثث كما تسلمتها هي وسيون جو..."

ثم يصل السرد وكأنه رافد من فرع آخر جاء ليصب في مجرى الحبكة العريض، في الصفحة 152: "...لقد تحطمت روحها إلى شظايا حين خرجت من مبنى المقاطعة، وتسمّرت في مكانها لرؤيتك يا دونغ هو بجسمك الصغير الأقرب إلى التكوين البدني لطفل منه لصبي مراهق، مرتدياً بنطلون سترتك الرياضية الأزرق الفاتح ومعطفك، وقابضاً بين يديك على بندقية"

عالم التعذيب والمذبحة

في الفصل الرابع المعنون "حديد ودم" يقفز السرد خمسة أعوام إضافية إلى العام 1990، إنه سرد المعتقل والاعتقال، والحياة الكفيفة المقيّدة بالأصفاد والعتمة والذل.  مجدداً تتنحى الكاتبة عن كونها الراوي، وتعير فعل السرد وأدواته لزميل كيم جين سو في الاعتقال، وصديقه لاحقاً بعد الإفراج عنهما، وقبل ذلك في اعتصامهم المسلح داخل مبنى المقاطعة في غوانغجو. يظهر الزمن مرناً في بناء حبكة هذا الفصل بين استدعاء حياة الاعتقال، والانتقال إلى الحاضر، في الصفحة 183 نقرأ: "...منذ نحو شهر، حين قرأت خبر نعيه، كانت تلك العينان أول ما خطر ببالي. العينان اللتان اعتادتا على تتبع كل حركة تصدر عني خلال تفتيشي الحثيث عن حبات البازلاء في الحساء الأقرب في تكوينه إلى الماء…"

يعيدنا السرد بلغته الواثقة من استرداد كل لحظة في الحبكة بلا مشقة ولا عناء إلى الشاب كيم جين سو الذي ظهر في الفصل الأول والثاني منظّماً لعمل المتطوعين في مبنى المقاطعة وصالة الرياضة، وفي الفصل الخامس نكون في العام 2002، وفيه تغزل الكاتبة سردها على منوال ما فعلت في سردها للفصل الأول، نقرأ في الصفحة 230: "...العرق العالق بخصلات شعركِ خلف أذنيكِ يزحف إلى أسفل فوق فككِ، ثم يتساقط على قبة قميصك، مرّرتِ أصبعاً بطول شفتكِ السفلى لتزيلي الحبيبات الندية قبل أن تضغطي على الرسالة الواردة حديثاً…"

تخاطب الكاتبة بلغة السرد ليم سيون جو، يسرق السرد تفاصيل علاقتها مع المناضلة العمالية كيم سونغ هي، ورغبة يون صاحب الأطروحة والبحث في تسجيل شهادتها الحية عن أحداث "غوانغجو" فنقرأ في الصفحة 265: "كانت الفتيات يُخرجن أذرعهن من النوافذ، ويطرقن على جسم الحافلة بعصي صغيرة بينما يغنين، وصلت أصواتهن بوضوح إلى حيث تسمرتِ في مكانك، تتذكرين أصواتهن الآن كما لو كانت صادرة من حنجرة طائر من نوع ما…"

تتذكر جونغ مي شقيقة جونغ داي ورغبتها في أن تكون طبيبة، تصف شعورها حين التقت بدونغ هو، نقرأ ذلك في الصفحة 287: "كنتَ يا دونغ هو مستلقياً على جانبك في ساحة مبنى المقاطعة، قوة الأعيرة النارية باعدت بين أطرافك، وجهكَ وصدركَ مكشوفان للسماء، بينما ركبتاك ملتصقتان بالأرض…."

السرد يبحر متنقلاً بين الذكريات والحاضر، يفعل ذلك بجسارة واقتدار، "لا طريق للعودة إلى العالم ما قبل التعذيب، لا طريق للعودة إلى العالم ما قبل المذبحة"

من يستعيد خطوات الصبي؟

في الفصل الأخير ما قبل الخاتمة نصير في العام 2010، لتطل علينا والدة "دونغ هو" فتصير هي الراوي، تخاطب ابنها وكأنه حاضرٌ لم يغيّبه الموت أو ينحيه جانباً، في الصفحة 296 نقرأ: "بحثتُ عنك لساعة كاملة بين أكشاك السوق، في الأزقة، لكن ما كان لك أثر، كانت ركبتاي ترتعشان من الألم، وشعرتُ بدوار كما لو كنت في دوامة، لذا انهرت في مكاني على الأرض حيث كنت"...  

تعيرنا الأم صفحات من حياة ابنها دونغ هو حين ولد، وحين كبر، وتعيدنا إلى تفاصيل الليلة التي سبقت موته غير المنتظر، وكيف زاحمت المخاطر والتفت حول قانون الطوارئ، وحاولت وشقيقه إعادته إلى المنزل، وفشلا. هو فصل ترجّي العودة، ونكران التصالح مع فكرة الغياب، هو فصلٌ عن الأم المرأةِ التي صارت عجوزاً وهي تحاول أن تمحوَ تجاعيد قلبها على فقدان ابنها، وفي الخاتمة المعنونة "مصباح مغطى بالثلج" (الكاتبة 2013) يكون بمقدور الحبكة العبقرية لـهان كانغ أن تشدَّ كل خيوط السرد مجدداً إليها، فبيت الكاتبة في "غوانغجو" كان قد اشتراه والد دونغ هو فيما مضى، في الصفحة 328 نقرأ حيث الكاتبة في الصالة الرياضية لمدينة غوانغجو: "...حام أمامي للحظة على الأرض الحمراء القانية منظر الجثامين الملفوفة بأكفان مؤقتة أعدت بسرعة، وتوابيت من ألواح الخشب مغطاة بالتايجوكي، وأطفال ينحبون ونساء بوجوه تخلو من أي تعبير من هول الصدمة…

بيتهم القديم الذي اشتراه والد "دونغ هو" هُدم بعد وفاة والدة دونغ هو، الكاتبة تجمع الوثائق اللازمة لإنجاز هذه الرواية، ثم تتبع خطى دونغ هو، وكأنها تكتشفه للمرة الأولى، فوالدها كان مدرسّه قبل أن تترك أسرة الكاتبة المدينة. تلك التقاطعات التي لا يجيد صياغتها سوى سرد عبقري، وحبكة تخرجها مخيلة مدهشة، كما فراشةٌ متموجه تخرج من شرنقة حرير. تضيء الكاتبة شموعاً عند قبر الصبي، قبل أن تعيد تشكيل كل ذلك الفضاء الروائي الرائع باقتدار بليغ.

تعاتبنا هذه الروايةُ إن لم نألفها نحن السوريون أكثر من سوانا، فمجزرة غوانغجو، هي امتداد لعقيدة المجازر التي يجيدها النظام السوري، تفاصيل الموت والاعتقال والألم فيها تنهب أرواحنا بلا شفقة، وتصفعنا كلما هدأت أنفاسنا وتريثت للحظة، فلا ننسى معها أبداً أن سوريا برمتها هي عبارة عن "غوانغجو" كبيرة، كثمرة موت ثقيلة لم تسقط عن غصنها بعد.      

هامش أخير

استولى الجيش على السلطة في كوريا الجنوبية عام 1961، وحكم الجنرال "تشونغ هي بارك" البلاد بدستور جديد وضعه في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1972 يمكّنه من البقاء في الحكم مدى الحياة تقريباً، وفي عام 1979 أعلن بارك قانون الطوارئ رداً على تظاهرات طلابية عمّت مدينتي بوسان وماسان جنوب البلاد، وفي 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1979 اغتيل باراك، وحل محلّه الجنرال الشاب "تشون دو هوان" الذي مدد العمل بقانون الطوارئ، ثم بدأت انتفاضة غوانغجو، التي قُمعت بالرصاص الحيّ، بعدما دخل الجيش المدينة يوم 27 مايو، وسحق الانتفاضة في أقل من ساعتين، واعتقل 1740 شخصاً، مات نحو 200 شخص، وارتكبت السلطة في كوريا بشاعات فضيعة بحق المتظاهرين، ومارست ضدهم تعذيباً وحشياً.

عنوان الرواية بنسختها الأصلية "الصبي يأتي" واختار الناشر العربي لها عنوان "أفعال بشرية"  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات