رواية تركية اسمها: (جحش): مغامرة مؤلمة لهارب من ميتم ينتهي بأحضان الجنون

رواية تركية اسمها: (جحش): مغامرة مؤلمة لهارب من ميتم ينتهي بأحضان الجنون
عند الحديث عن الأدب التركي الساخر؛ فإن أول الأسماء التي تتبادر إلى أذهاننا؛ هو "عزيز نيسن" الرائد في هذا المجال، لما أبدعه أو تم نقله إلى لغتنا العربية من نتاج هذا الكاتب. لكن المتبحر في هذا الجانب من أمواج الأدب لا بد له أن يمرّ على شطآن الأديب التركي "مظفر إزغو" الذي يعدّ أحد أهم الرواد في مجالات "القصة – الرواية – المسرح" ومن المؤكد أنه سيلمس مدى انشغال "إزغو" في الاشتغال على الجانب الإنساني بكل ما يحمله من قسوة وهشاشة، جنون واتزان. كما استنطق الأخير الأفئدة بالكوميديا السوداء التي رسمت بريشتها الضحك والبكاء على حد سواء. وتعدّ رواية "جحش" التي سنتناولها في هذه المادة، واحدة من أهم الإصدارات التي تُسجل في رصيد "إزغو" العريق. 

هارب من ميتم

تبدأ أحداث رواية (جحش) مع الصبي "صفا" المقيم في دار للأيتام، حيث يدفعه بحثه عن هويته المفقودة إلى الهروب من هناك، غير عارف بالمصير الذي ينتظره خارج أسوار المكان. ليواجه بعد ذلك قسوة مجتمع ساهم في دفعه إلى حافة الجنون، التي كان من المؤكد أنه سيصلها حتى وإن بقي في مكانه. فهذا هو مصير اللقيط بحسب ما جاء على لسان صفا:

"أن تكون لقيطاً، يعني شيئا من اثنين؛ إما مجرماً أو مجنوناً، لكنك لست إنساناً على كل حال".

قد يُخيل للوهلة الأولى حضور الحكاية بنمط رومانسي كلاسيكي بحت، لكن بعد الولوج إليها يكتشف القارئ أنه صعد في أفعوانية مشاعر تتأرجح بلحظة بين أعلى الضحك إلى قعر الحزن، فهي أيضاً خليط عجيب من البساطة والعمق في آن واحد، ففي جزئها الأكبر؛ تتمحور حول عدد من الأسئلة، من أبسطها إلى أشدها عمقاً ووجودية، من هو صفا؟ ومن أبواه؟ ولماذا وُجد هنا؟ وكيف وُلد؟... والكثير من الأسئلة التي ترافق حالة الضياع التي عاشها منذ أول دقيقة له في هذا الكون. وفي فصول أخرى تأخذ الحوارات وحتى المونولج سياقاً ساخراً يكاد يقارب الكوميديا. لكن يبقى محور السردية وواقعيتها ومعالجتها لموضوع بالغ الأهمية -الأيتام- طاغٍ على الجو العام للرواية.

عالم يرفض فكرة الجنون:

في اللحظات الأولى لهروب صفا من دار الأيتام يجد نفسه أمام تجربة جديدة كانت شاغله الأول والأخير، الأم أو الحاضنة ومنبع الحنان والعاطفة والتي تمثلت لديه بشخص الأخت "صباحات". لكن ما لبث أن انفصل عن هذه الحاضنة بلحظة ليصطدم بأقسى تجاربه وهي "المجتمع"، حالة من الظلم والقسوة واختلاط مفاهيم، كل هذا وأيضاً حالة التداخل في ذهنية بطل الرواية بين هويته الحقيقية وهويته في هذا العالم، جعل منه فريسة سهلة للجنون، أو هذا ما يظهره الكاتب لقارئه، لكننا إن حاولنا الدخول أعمق في مكنون الشخصية نجد أنها تحمل الكثير من الذكاء. وكمفارقة نجد رفضاً قاطعاً من قبل المجتمع لحالة الجنون التي أوقع الفتى فيها.

- كنت في المصح أليس كذلك؟

- نعم.

- تحسنت؟

- ما كنت مجنوناً.

- ولكنك تقول: أنا جحش!

- هل أكذب؟ وهل يمكن أن أقول عن حياة الحمار هذه حياة إنسان؟ 

ومن جانب آخر يظهر مدى اهتمام الكاتب في صنع مقاربة أو حالة إسقاطية في تشابه السلطات، بين إدارة دار الأيتام وجهاز الشرطة، فيُظهر معها حالة التسلط والقسوة، وقد يتمحور هذا الجانب على إبراز السلطة الأبوية المفقودة داخل الرواية فيذهب الكاتب إلى طرحها بهذه الصورة. أما عن تنقل بطل الرواية بين المدن فما هو إلا بحثٌ دؤوب عن المكان الذي ارتبط لدى "صفا" بالحاضنة والاستقرار "صباحات".

- أين تسكن أنت؟

- بين الأرض والسماء

- ماذا تشتغل؟

- أقرأ الكتب.

- أليس لك معارف؟

- لي.

- من؟

- المفتش سلامي حباب الحق. ثم الشرطي رضا أفندي.

أما من الناحية التقنية فقد امتازت رواية "جحش" باعتماد كاتبها على الحوار كلغة دائمة في معظم الفصول، فجاءت أقرب لعرض مسرحي على خشبة الحياة. كما يظهر استفزاز "إزغو" لقارئه ودفعه بعد الانتهاء من الرواية نحو هوة من الأسئلة التي لن يجد أجوبة لها، أو ربما أراد منا التعرف على "صفا" الموجود داخل كل إنسان منا.

وكما في معظم أعماله، قام "مظفر إزغو" في روايته "جحش" بتسليط الضوء على المشكلات الاجتماعية، وانتقاد الأحكام القيمية الشمولية المنتشرة حينذاك في مجتمعه. وقد مارس فيها أيضاً دور الرقيب وصوت الضمير الغائب.

لغة بيضاء وأحاسيس عالية، استطاع المترجم "عبد القادر عبداللي" إيصالها إلينا بسلاسة نسمة عابرة. ومن المعروف أن الترجمة في معظم الأحيان تُسقط نصف الإحساس المرافق للعمل، إلا أن المترجم هنا كان على قدر كبير من الحرفة الأدبية واللغوية، فجعلنا نقرأ الرواية وكأننا نقرأها بلغتها الأم.

عن الرواية والمترجم والكاتب:

- "جحش": جاءت الرواية في 202 صفحة من القطع المتوسط. صادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول. 

- عبد القادر عبداللي:  ترجم الأستاذ عبد القادر  رواية "جحش" إلى العربية في أواخر تسعينات القرن الماضي وطبعت من قبل مكتبة السائح في طرابلس لبنان. ثم عملت دار موزاييك للدراسات والنشر التي تخصص جائزة للترجمة من العربية إلى التركية باسم عبدالقادر عبداللي على إصدارها في طبعة جديدة ورائجة عام 2021 .

- مظفر إزغو: كاتب تركي اشتهر بكتاباته الساخرة، ولد في مدينة أضنة عام  1933 صدر له عدد من الكتب في مجالات (القصة – الرواية – والمسرح) للأطفال والكبار وتُرجمت أعماله إلى لغات عديدة، كما يُعدّ إزغو من أهم رواد الأدب الأتراك. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات