حلب تفقد كاتبها وعاشقها.. رحيل وليد إخلاصي الذي ناصب الاستبداد العداء في أدبه

حلب تفقد كاتبها وعاشقها.. رحيل وليد إخلاصي الذي ناصب الاستبداد العداء في أدبه
برحيل وليد إخلاصي يوم التاسع عشر من شباط/ فبراير 2022 يفقد الأدب السوري قامة كبرى بالمعنى الحقيقي للكلمة. أثرت المسرح والقصة القصيرة والرواية على مدار ستة عقود من العطاء الإبداعي الغزير والمتنوع.. وتفقد حلب على وجه الخصوص كاتبها الروائي الأبرز الذي طالما جعل منها مسرحاً لأحداث رواياته، بل بطلاً من أبطال هذه الروايات، يستلهم من تلك التركيبة المعقدة للمعمار الحلبي البالغ الثراء، والمكتنز الأسرار والتفاصيل والمتاهات، هندسة معماره الروائي ودروبه ومتاهاته وسراديبه. 

هكذا كان وليد إخلاصي عاشقاً متأملاً لحلب، كتب عنها ومن خلالها رؤيته للعالم ككل، للخير والشر، للانفتاح والانغلاق، للهوية البيئية وللحداثة بوصفها انفتاحاً على العالم. لقد قاده خياله الخلاق، ورؤيته المتبصرة، وانتماؤه العميق للمكان وتاريخه وثقافته وشخوصه، إلى أن يجعل من حلب موشوراً تتراءى فيه كل الصور والقضايا، ونبعاً ثراً لا ينضب ما دامت في الحكاية بقية.. وفي الرواية حياة وحيوية. 

وجه حلب الثقافي

لم يتطلع وليد إخلاصي للانتقال إلى دمشق.. ولم تغره أضواء المؤسسات الثقافية فيها، المهمين عليها من قبل الدولة البوليسية الشمولية، ولم تؤرقه مركزية الانتشار الأدبي الذي كثيراً ما بدا أنه مقيد بجغرافيا العاصمة.. ظل في حلب عنواناً لها، ومعلماً من معالمها.. وعندما كان يتردد على دمشق بين الحين والآخر، كنا نلتقيه محملاً بثقل وهواجس مدينته الكبرى، متعمقاً في دراسة ظواهرها وبنية مجتمعها وتناقضاتها وجمالياتها... فكانت السهرة مع أبي خالد سهرة مع حلب الثقافة والتاريخ والمجتمع والحياة والناس. 

 كان وليد إخلاصي على الدوام ومع الجميع ودوداً، محباً لبقاً، قادراً بسلاسة نادرة أن يحطم كل الحواجز بينه وبين محدثيه، وأن يمد جسور الأفكار. حين تجلس معه بصحبة أصدقاء له لا تعرف أيهم الأقرب إليه، لفرط قدرته على رعاية الجميع ووضعهم في مسافة واحدة تغطيهم مودة اللقاء.. كانت مهارة الروح الجميلة التي يحملها، لا يعتورها التزلف أو المجاملات الرخيصة لأنها مسكونة بالنبل الحقيقي.

 كانت أفكاره ميالة للتمرد رغم مسحته الكلاسيكية الأصيلة المتصالحة مع كل إرث سابق، وكانت آراؤه تنشد التغيير والأفق الجديد، وتدرك عبء النظام الاستبدادي الذي وضع سقفاً لأحلام الناس، وبنى حائطاً مسدوداً أمام مستقبلاً. كان وليد إخلاصي منا وفينا أستاذاً ونبراساً ومتحدثاً ومنصتاً.. حتى إذا ما اندلعت الثورة ضد حكم الأسد الذي كان بارعاً في تحليل بنيته المغلقة، تاهت به الدرب في دهاليز الصمت، وتلاشى ذلك الصوت النضر الحار، الشغوف برواية الحياة التواقة إلى الحرية، تلاشى في ثنايا الذهول أمام اللحظة التاريخية ومآلاتها... وظلام مهادنة الاستبداد في زمن الثورة أحياناً، ليكتب فصلاً جديداً من فصول خذلان الأدباء لثورة وطنهم المطالبة بالحرية والكرامة والتحرر من قبضة معتقلات الموت تحت التعذيب، وأجهزة هندسة الفساد ونهب أعمار الشعوب وثرواتها. 

سيرة عائلية أرستقراطية

كان وليد إخلاصي المولود في لواء إسكندرون عام 1935 ابناً لعائلة حلبية عريقة، فوالده الأزهري (أحمد عون الله إخلاصي)، كان رئيساً للتحرير مجلة (الاعتصام) الشهرية التي كانت تصدر في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، والتي أوقفها الحاكم الفرنسي في فترة الانتداب. وقد تأثر بتوجهات والده الفكرية المنفتحة على بداياته المبكرة.. الذي لم تمنعه تاريخ الأسرة الديني، من توجيه مسيرته نحو آفاق جديدة.

 

درس وليد إخلاصي الابتدائية في مدرسة “الحمدانية” والثانوية في مدرسة “التجهيز الأولي” في حلب، في الخمسينات توجه إلى مصر ليدرس الهندسة الزراعية في الإسكندرية وتخرج عام  1958، ثم حاز على دبلوم الدراسات العليا القطنية عام 1960. وحين عاد إلى سورية عمل في مديرية اقتصاد حلب، ثم في المؤسسة العامة لحلج وتسويق القطن بحلب عام 1966 التي بقي فيها حتى عام 1999 ليُحال بعدها على التقاعد. 

عمل محاضراً في كلية الزراعة بجامعة حلب. ترأس فرع نقابة المهندسين الزراعيين في حلب. وبدءاً من عام 1970 ترأس فرع اتحاد الكتاب العرب بحلب أكثر من مرة.. إلى أن تقاعد من الاتحاد عام 1996  وساهم في تأسيس مسرح “الشعب” و “المسرح القومي” و “النادي السينمائي” حلب. كما عين عضواً فيما يسمى  (مجلس الشعب)  بين عامي 1999 – 2002.. وكان يتندر في أحاديثه وجلساته الخاصة على جلسة تعديل الدستور لتعديل سن أهلية رئيس الجمهورية ليناسب سن بشار الأسد بعد وفاة الديكتاتور حافظ الأسد، وكيف عين في اللجنة التي تقدمت بمشروع التعديل دون أن يدري! 

مشوار الإبداع والجوائز والترجمات

بدأ الكتابة الأدبية في مجال القصة القصيرة ونشر أولى قصصه في خمسينات القرن العشرين، ثم أصدر أولى مجموعاته القصصية (قصص) صدرت في بيروت عام 1963، أما أولى مسرحياته فكانت (العالم من قبل ومن بعد) - دمشق 1964، ونشر أولى رواياته (شتاء البحر اليابس) في بيروت عام 1965، وقد بلغ مجموع ما أنتجه ما يقرب من (50) عملاً أدبياً ما بين مجموعة قصصية ومسرحيات وروايات، ناهيك عن المقالات الصحفية والدراسات النقدية التي كانت مسكونة بالحب والفهم العميق للظواهر الأدبية في تاريخ الأدب السوري.

كُتبت عن أدب وليد إخلاصي العديد من الدراسات الجامعية، كان أولها رسالة الدكتوراه لأدمير كورية التي قدمها إلى جامعة نيويورك سنة 1983. وترجمت نماذج من أدبه إلى لغات عديدة كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والأرمنية والروسية واليوغسلافية والبولونية.

حصد الجائزة التقديرية لاتحاد الكتاب العرب (1989).  وجائزة القصة العربية (محمود تيمور) في مصر (1994).  وجائزة بلدية حلب (1997). وجائزة سلطان العويس في الإمارات (1997) التي جاء في حيثيات قرار لجنة التحكيم التي منحته الجائزة:

" تتنوع الأعمال السردية والدرامية لوليد إخلاصي،  وتتسع لمختلف الأنواع والأنماط وهو في كل نوع منها ينطلق من تجربة متجددة وملتحمة بهموم الإنسان العربي، تجربته تتميز بالجمع بين الواقعي والغرائبي كما بين اليومي والتاريخي، وقدم كل ذلك بصورة إبداعية منفتحة ومتجددة باطّراد".

 كما منح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة في حفل أقيم بمكتبة الأسد  بدمشق (أيار/ مايو 2005)، وقلد فيه وزير الثقافة الأسبق محمود السيد الوسام لسليمان العيسى ومحمد الماغوط ووليد إخلاصي. 

مسرح وليد إخلاصي 

كرم وليد إخلاصي في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي  عام (1992).. ولم يكن هذا التكريم لغزارة إنتاجه المسرحي كتابة وتأليفاً ونقداً وحسب، بل للصيغ التجريبية المبدعة والمبتكرة التي قدمها، والتي كانت عالماً بذاته يستحق أن يطلق عليه (مسرح وليد إخلاصي) رغم مؤثراته الثقافية المتعددة المنابع منذ المسرح الإغريقي وحتى مسرح تشيخوف. 

 في مسرحيته (السماح على إيقاع الجيرك) التي نشرها عام 1975 تدور أحداث المسرحية داخل عالم كاتب مسرحي وفي خارجه أيضاً، وخلال زمن محدد، حيث يقوم فريق من الممثلين بالتعبير عن الأفكار المسرحية المتداولة بين الكاتب والمخرج في المنطقة التي تمثل داخلية عالم الكاتب الذي يعيش صراعاً مع تخيله المفرط وقلقه الدائم، بينما يبحث عن هدف وحقيقة، مقال مخرج يدير فرقة مسرحية باحثاً عن النجاح المتداول بين الناس. 

 أما في مسرحيته (الصراط) التي نشرها عام 1977 والتي اعتبرها الناقد المسرحي المصري الدكتور علي الراعي "من أحسن ما قرأت في نوع التراجيكوميديا العربية" فيقدم لنا صيغة مبتكرة على صعيد بنية النص والعرض، وتدور أحداثها حول عامل التنظيف في المسرح (عبد ربه) الذي يجد نفسه وقد انتقل فجأة إلى ممثل لدور رئيسي في المسرحية بعد إصابة أحد ممثلي العرض بعارض صحي. وحين يظهر على الخشبة يرتجل ويخلط في كلامه بطريقة مضحكة، تجعل الجمهور يستظرف عفويته، فيغدو بين ليلة وضحاها نجماً تصنع له المسرحيات. لكنه يستثمر نجاحه في كشف الزيف والرياء، فيفضح استغلال الأغنياء ونفاق الصحافة والإعلام وزيف الإعلانات التجارية في التلفزيون ويحرض السجناء على أن يتحروا على الأسباب الحقيقية لجرائهم... ما يدفع الأجهزة الأمنية للتحرك مخيرة إياه بين النجومية والنجاح وبين قول الصدق.. فيقع في شرك الكذب وتنهال عليه العروض والأموال والجوائز، ولكن حين يحاول أن يمثل هذا الكذب بطريقة ساخرة تشي بما وراءه من حقيقة تحاصره أجهزة الأمن، فيقرر السفر، وبعد أن يخرج يقول له أمن الحدود أنت ممنوع من السفر.. وحين يقرر العودة يقولون له أنت ممنوع من العودة إلى البلاد.. ويجد خياره في النهاية في العيش حراً في المناطق الفاصلة بين حدود الدول، أي تلك الحدود الوهمية التي لا تتبع لهذه الدولة ولا لتلك.. بل تكون ملكاً لكل حر!. 

من المؤسف أن هذا المبدع العظيم الذي يفوق ما قدمه للمسرح، ما قدمه مسرحيون سوريون آخرون كرستهم الدعاية والشللية الثقافية والدعم السلطوي.. من المؤسف أن مبدعاً حراً مؤمناً بكل قيم الحرية والصدق والشفافية.. قد رحل في زمن الثورة صامتاً. لم ينتم إليها، ولم يبدع شيئاً عنها. 

لم يكن وليد إخلاصي على ما يبدو مؤمناً بالثورة على النحو الذي اندلعت فيه، لكن – في الوقت ذاته -  لم يشعر يوماً لا في أدبه ولا في نمط حياته أنه ينتمي إلى النظام الأوليغارشي الدموي الذي حكم البلاد بالحديد والنار وسلب منه ستة عقود من العيش بحرية.. كان في كل ما كتب بعيداً عن أفكار البعث وأيديولوجيته الشمولية الغوغائية، وعن انتهازية اليسار وتبعيته، وعن الانتماء لليمين الفعلي الذي سُحق في الحياة السياسية والثقافية السورية، كان ليبرالياً بحق.. متحضراً بعمق، يؤمن بقيم التكنوقراط والتفكير الحر، وحق البشر في أن يكونوا هم، خارج أي نمط أو قالب تريد أي سلطة أو ثقافة أن تؤطرهم فيه، وتسجنهم وراء شعاراته.

* هامش: 

نشر هذا المقال قبل نبش تصريحات وليد إخلاصي الصادمة التي يمدح فيها رأس نظام الإجرام بشار الأسد ويعتبره "إنساناً حقيقيا" وهو أمر يطعن في موقف إخلاصي المعادي للاستبداد، ويسيء لتاريخه الأدبي برمته. 

التعليقات (3)

    حلبي للعظم

    ·منذ سنتين شهرين
    هذا كاتب شبيح لقلوق

    شو صار ما صار

    ·منذ سنتين شهرين
    طيب يا أورينت فهمونا شو هالمنطق عندكن واحد شبيح وكتبتوا عليه كالحكي..

    saloon

    ·منذ سنتين شهرين
    معقول يا أورنيت أنكم تقولوا"النظام الأوليغارشي الدموي" شو ممكن تشرحوولنا عن موقفه من المجرم واللقاء على اليوتيوب موجود.. هذا أقل شي اسمه تشويه للحقائق
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات