قراءة في ديوان (سماءٌ واسعةٌ لفرحٍ مُرّ): النجاة من "وطن" الموت والاستبداد

قراءة في ديوان (سماءٌ واسعةٌ لفرحٍ مُرّ): النجاة من "وطن" الموت والاستبداد
مُحمّلًا بهموم وطن أَثقلت كاهله طعنات الحرب وعبقت من تربته رائحة البارود والدماء، يكتب الشاعر والناقد "محمد طه العثمان" عن وجع الأحياء في مجموعته النثرية "سماءٌ واسعةٌ لفرحٍ مُرّ" كأنه آتٍ من ساحة معركة، أو من مقبرة جماعية، فيقول: 

"خارجٌ من قبري لأكتب عن قلق الرؤى في فلوات البكّاءين"

في البداية يطرح الشاعر فكرة الوطن الذي خرج منه ناجياً، فيشبّهه بالقبر، خرج ليكتب قلق وهموم أقرانه الناجين من آلة الموت. بهذا الوضوح، والسهولة الممتنعة التي اشتغل فيها "العثمان" على مجموعته، أنتجت ما قد نسمّيه "العويل" الذي اتخذته الأصوات في المجموعة، فهي أحياناً على لسان الشاعر، وأحياناً أخرى تنطلق من أفئدة شخصيات أخرى أو لنقل أبطال آخرون، فقد اتخذ الشاعر من ذاته في المجموعة منصّةً للتعبير عن دواخل شعبٍ بأكمله. وهذه أسمى أهداف الشعرية؛ عندما تكون شعورية تشاركية. 

شكراً للدمعة؛

فقد أخبرتني أنني ما زلتُ حياً

شكراً لعود الكبريت...

فقد آنس وحدتي في قسوة هذا البرد...

شكراً لكم 

لأنكم لن تعرفوا كم أنا ميت...!

تشتمل المجموعة بشكل عام على موضوعات "الحب، الحنين، الوطن، الحرب" كثيمات، عمل عليها "العثمان" بتكنيك اعتمد البناء والهدم، فنرى صعوداً سريعاً في بداية المقطوعة الشعرية، حتى نصل النهاية فنشهد سقوطاً في فخ الدهشة والجملة غير المتوَقّعة. كما خلق موسيقا داخلية تنبض بها قصيدته بشكل ظاهر للقارئ، وقد يعود هذا الخلق إلى كون الشاعر متمرّساً وله باع طويل في القصيدة الموزونة، وعلى الرغم من ذلك استطاع استخدام أدوات النثر بحرفية، لا بل طوّع النص النثري ليكون تربة خصبة للمفردة الشعرية بأبهى صورها.

كما يؤسّس في نصوصه لعوالم سوداوية ليست بعيدة عن الواقع السوري، تلامسه، وتعكس حالة التبعثر الذي بُنيت عليه الشخصية السورية التي عاصرت الحرب، رغم النزوح الكبير نحو التراجيديا وبناء القصة العبثية، تبقى النصوص حاملة لهموم جمعية، هموم طرحتها الأنا الشاعرة لتؤكّد الأنا القارئة على تشاركيتها.

أفكّر بالليل..

حين صار امتداداً لظلي...

أفكّر بظلي حين تعثّر بخطاي

أفكّر بخطاي..

لماذا صارت ضحية دسمة

لجسد نحيل...؟

ولا أفكّر بي،

لا أفكّر بي 

فالأشجار لا تعرف لون كآبتها!

 يمنح "العثمان" لعنوانه -كما لمعظم نصوصه- أكثر من بُعدٍ دلاليّ، فاستخدام الرمزية والمجاز الطاغي على نصوص المجموعة يشكل تماهياً بينها رغم اختلاف الموضوعات التي تم التأسيس عليها. وقد أخفى تقطيع النصوص تبايناً بين أكثر من قطعة وأخرى ضمن النص الواحد، إلّا أنّ الفكرة التي قام عليها النص أيضاً أخفت التباين تحت ستارة الفصام الشعرية: 

أنا نصف شاعر...

أحيد عني عندما أكتبُ ما يريدني أن أكتبه

وأحيد عن الرؤيا عندما أريد أن أفجّرها كنهر جارف...

ورغم أنّ الشاعر أحاط بكل مفردات الحرب ووضع يده على كل جرح، إلا أنه لم يعبر إلى ضفة المباشرة التي يفرضها أحياناً "نص الحرب" بل حافظ على مستوى الشعرية الفنية في أسلوب أقرب للمشاهد منه للمعاصر. 

ففي أغلب الأحيان يقع المعاصر للمعاناة في فخ التعامل العاطفي معها، ليتجرّد نصه من الفنية. وفي الوقت نفسه لم تخرج نصوص "العثمان" في قوالب فنية جامدة، خالية من الأحاسيس، وهنا حضر عمله على ثنائية الفن والإحساس. 

كم عليّ أن أبكي لأرسم شارعاً عابثاً بالمجانين...!

شارعاً مسكوناً بأنفاسكِ وظلال العصاة...!

كم عليّ أن أجرب شعور اليمام

لأحكي للقناص عن ذعركِ في المعاني الباردة...!

كم عليّ أن أكتب اسمكِ في عيوني 

ليعرف الحاسدون كم شارع من الجنون

يوصلني إليكِ؟ 

وقد يظهر لنا مدى التناقض في الأنا داخل النصوص فهي المهزومة تارةً، "هذا الموت مؤتلف مع حسني الذكوري" والمنتصرة تارة أخرى "أنا الماكر وثاقب جسد الأبدية، أنا الجنرال ذو النياشين الحمر..." ولا يُعتبر هذا التناقض ثغرة في جسد الشعر، بل يُجسّد ما آل إليه أبناء البلاد التي "تأكل أبناءها الطيبين بحنو".

بصور بسيطة في بنائها، شاهقة بعمقها رسم الشاعر اثنين وثلاثين نصاً على جسد المرحلة، لتكون شاخصات طرق أو إشارات تدلّ على كمّ القهر الذي عايشه السوري الخارج لتوّه من بين براثن الموت. وقد نسميها شهادات للناجين من الموت. وقد تُعدّ تذكرة عودة إلى مرحلة ماضية حاضرة.

من أجواء المجموعة:

كثيرة هي الأيدي النظيفة؛ التي ترشّ البراءة والقصائد على الطرقات.

كثيرة جداً 

حين تبتكر المجاز وتزاوج الغمام

فالأيدي تعلم كيف تصافح المقْبِلين

الضحكات المزوّرة؛ والأحاديث اللاهثة، كلها تعرفها الأيدي.

وهي تعرف أيضاً كيف تزرع الخناجر.

عن الديوان والشاعر:

سماء واسعة لفرح مر: صادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا في 82 صفحة من القطع المتوسط. وبلوحة غلافٍ حملت توقيع الفنان التشكيلي السوري "إبراهيم الحسون".

محمد طه العثمان: شاعر وناقد وناشر سوري، مقيم في تركيا؛ حاصل على ماجستير في النقد الأدبي.

حائز على عدة جوائز منها:

- جائزة البردة العالمية  2015 .

- جائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال النقد لعام 2016 عن كتاب “البعد الثاني – قراءة لآفاق الشعرية العربية".

مؤلفاته المطبوعة:

- "سدرة الموت ..شهوة الوطن" (مجموعة شعرية)، 2014

- "السرداب" (مجموعة شعرية)، 2015

- "جاءت تربي الضوء" (مجموعة شعرية)، 2016

- "البعد الثاني – قراءة لآفاق الشعرية العربية" (نقد)، 2016

- "حربلك" (رواية)، 2016

- "توق النص وأفق الصورة" (نقد)، 2017

- "لذة الرؤيا – المكونات السردية بين التوظيف والإيحاء" (نقد)، 2018

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات