رواية (دوار) لأحمد عزام: معاناة اللاجئين في تركيا تدخل مضمار الأدب

رواية (دوار) لأحمد عزام: معاناة اللاجئين في تركيا تدخل مضمار الأدب
أفرزت الثورة السورية في مراحلها الأخيرة نوعاً من الأدب. نوع قديم متجدّد، برز منه ما يستحق صفة التأريخ لهذه المرحلة المهمة، وبقي في قعر المرحلة ما لا يستحق حمل صفات الإبداع والفنية، وكما يقال دائماً "الوقت كفيل في الإبقاء على أعمال ستكتسب صفة الخلود". ولعل المُطّلع على أدب هذه المرحلة سيلحظ كثرة ما أُنجز فيها من روايات وأعمال سردية، فوحده السرد قادر على حمل الحالة وإبرازها بصورة قريبة من المتلقي. 

مؤخراً صدرت رواية جديدة في سياق ما يمكن أن يسمّى "أدب المرحلة" وهي "دوار" للكاتب الفلسطيني السوري "أحمد عزّام" عن دار موزاييك للدراسات والنشر. وبتقنيات سردية يركز "عزّام" عدسته على مجتمعات اللجوء، والقوى السياسية التي تسلّقت على تطلعات الشعب السوري وآماله، بطريقة مباشرة أحياناً، وبطرق تحليلية أحياناً أخرى. في مساحة زمنية قصيرة تمتد نحو أسبوع؛ تمكّن خلالها الكاتب من تسليط الضوء على زوايا مظلمة، بشعة في المجتمع، على وجه العموم، وما يعانيه اللاجئ على وجه الخصوص.

تبدأ أحداث الرواية عند دخول "تيسير" الأراضي التركية، ليجد نفسه، بلحظة، في عمق حياة جديدة ظنّها مختلفة اختلافاً جذرياً عمّا قاساه في بلده "سوريا"، ليكتشف أنه لم يستطع الفصل بين معاناته الحالية ومعاناته السابقة "السجن". 

اللجوء نفسياً واجتماعياً

بلغة رشيقة وبسيطة، تستفيض رواية "دوار" في معالجة قضية اللجوء من جميع جوانبها النفسية والاجتماعية، حين يصطدم بطل الرواية بواقع جديد ولغة مختلفة ونهج حياة مغايرة، فيجد أنّ الألم يرافق اللاجئ كهوية شخصية يعرّف عنه في عيون الناس. كما سلّط الكاتب الضوء على مجتمعات اللجوء وطريقة عيشهم بين الاندماج والتقاطع مع المجتمع الرئيس "الدولة المستضيفة"، حيث يدأب اللاجئ منذ لحظة وصوله للحصول على ما يشبه الوطن في البلاد الغريبة البعيدة، علّه يشعر ببعض الألفة والطمأنينة لوجود من يشاركه هذه البقعة، إلى جانب همومه، ويخلّصه من مغبّة البحث عن السلع التي تشبه تلك التي اعتاد على اقتنائها في وطنه، ولسان يتحدث بلغته: 

"كنت أعاين البضائع المصفوفة على الرفوف والابتسامة تعلو وجهي منتشياً بهذا الشعور الذي أغرقتني به علب الشاي والقهوة وبسطات البقوليات المرتبة وأنواع البسكويت واللبان التي تحمل أسماء ماركات سورية أذكرها جيداً... كانت مطابقة تماماً لذاكرتي عن تلك البقاليات الفقيرة المنتشرة في حيّنا.. يا الله لكم أتمنى أن تطول لحظتي هذه!"، ليصطدم في نهاية المطاف بصخرة واقع أجبره على سلوك دروب أخرى أكثر وعورة للوصول إلى شبيه الوطن الذي خرج باحثاً عنه.

استطاع الكاتب إظهار الجانب الوحشي في حياة مجتمع قد نعرّفه على أنه مستقر نسبياً؛ وبرز ذلك في عدة مقاطع من الرواية "كالفتاة ذات الخمسة عشر عاماً والتي أجبرتها الظروف على عرض جسدها البريء كسلعة رخيصة". إلى جانب قدرته على تصوير النفس البشرية بجوانبها المتناقضة كما في شخصية "ناظم" العامل في المشفى الحكومي التركي والمنحدر من عائلة عربية كانت تسكن لواء إسكندرون، فتارةً نراه غير مبالٍ بالمرضى السوريين فيقول دون حرج: "أنتم اللاجئون لا تكفّون عن التدفق إلى بلادنا". وتارة أخرى نجده ملتزماً بمهنيّته مهما بدا الأمر قاسياً: 

"التعاطف الذي يحظى به المرضى في المشافي الخاصة هو تعاطف مدفوع الأجر... علّمتني هذه المهنة بين اللاجئين أنه عليك التزام الحياد وإن كان قاسياً كي لا تبيع الناس الوهم"، وإنّ اعتماد "عزّام" على المشهدية والتصوير منذ البداية إلى النهاية منح النص صفة العمل السينمائي، وأتاح له فرصة دمج قصص متنوعة ضمن نصه السردي. 

 وبينما يتم اعتبار أسلوب (الفلاش باك) في الكثير من الأحيان غير مُحبّب لدى القرّاء لأنه يسبّب التشتيت والابتعاد عن تراتبية الأحداث، إلّا أنّ عزّام في رواية "دوار" قام بتوظيف هذه التقنية بشكل متقنٍ وسلسٍ، عند الانتقال من الأحداث الآنية ليخبرنا عن تفاصيل اعتقاله وما عاناه في المعتقل على أيدي جلّاديه، كما إنّه لم يكتفِ بوصف معاناته إنّما تعدّاها ليحكي قصص بقية المعتقلين بعناية توازي اعتناءه بسرد قصة بطله، والذي صوّره على أنّه إنسان يحمل هموم الجميع، وإن كانوا غرباء عنه: 

"سامِحوني، سامحوني... أنا الذي قتلت أهلي... وحدي استدرجت الفقراء من البيوت إلى الشوارع... إلى المقابر الجماعية... وحدي المسؤول عن جسد هذه الفتاة الصغيرة التي دفعتُها لتتجاوز الحدود فتصبح مومساً في مدينة باردة، وعليّ وحدي أن أدفع هذا الثمن وسأقتصّ لكم جميعاً".

أفعال دونكيشوتية

غير أنّ هذا الهاجس بالمسؤولية يدفع "تيسير" إلى ارتكاب أفعال دونكيشوتية لا يستطيع بأي حال من الأحوال تحمّل عواقبها.

قام "عزّام" بطرح أسئلة عدمية أفرزتها مأساة اللجوء في روايته من قبيل الأفكار التي راودت الرجل الخمسيني أثناء حواره مع المهرّب: 

"في حال ابتلعني البحر، هل سأضمن أن يعود ثمن كليتي إلى عائلتي ليعوّضهم قليلاً عن فشلي حين سأصبح جثة يأكلها السمك في قلب المحيط؟! هل سيمنحونني هذ الغفران عن كل ذلك الغرق؟!"

وتتجلى العدمية عنده خاصة في ختام رحلة بطله "الهارب غير الشرعي" والتي تنتهي برومانسية غير متوقعة: "فليس مهمّاً إلى أين ستودي بي هذه الطريق، فلا بداية ولا نهاية، طريقٌ وحسب ولترمِ بي الأقدار حيث تشاء... وليذهب هذا العالم الذي يلاحقني إلى الجحيم".

في النهاية نستطيع تشبيه رواية "دوار" بحياة السوري، بآماله وخيباته، بنجاته المؤقتة، وسقوطه المتكرّر، وإلى حدٍّ بعيد هي صورة واضحة للدُّوار الذي ينتاب كل سوري.   

عن الرواية والروائي:

- "دوار" رواية صدرت مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر. 

- جاءت في 182 صفحة من القطع المتوسط وبلوحة غلاف للفنانة: فرح علي.

- أحمد عزّام: كاتب وسيناريست فلسطيني سوري، صدرت له أعمال تلفزيونية وسينمائية منها: "المرآة" - فيلم بعنوان "أصفر" -  فيلم بعنوان "إشارة استفهام"، بالإضافة إلى مشاركته في إصدار كتاب باللغة السويدية مع خمسة كتّاب آخرين.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات