أليس هذا جائزاً في عالم غير عقلاني كعالمنا؟! عالم تحرسه الخيبات من كل جانب وترعاه، عالم مراوغ بسياساته الكليّة وسياسييه. أليس محيّراً أن يبقى النظام السوري نموذجاً فريداً في تعبيره عن براغماتية القرار الدولي المنحاز إلى مراكز النفوذ المالي والسياسي، والبعيد عن بديهيات انتصار مفاهيم العدالة وحقوق الإنسان التي نادى بها العالم المتحضّر، المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية، ثم عاد وأنكرها على شعوب مستضعفة عديدة، والشعب السوري واحد من بينها؟!
المعتقلون ليسوا أرقاماً
نقبل بأن السلطة في سوريا صارت بنيةً بوليسيّة متغوّلة الانتشار والتوسّع، وسائدةً فوق سائر البنى المجتمعيّة منذ سبعينيات القرن الماضي، وهذا تحقق بفعل تحريمها وحجبها لهواء السياسية عن الفضاء الاجتماعي أولاً، ثم بتطويق وعزل القوى السياسية الحية المناوئة لها حتى نهاية الثمانينيات باختراقها أمنياً، وبتمزيقها تنظيميّاً عبر الاعتقال والمطاردة وصولاً إلى جعلها على قطيعةٍ تامة مع المجتمع الذي أعادت صياغته بشكل مثير للشفقة صياغةً حزبية بعثية، وأمنية مخابراتية لم يسبق أن عرف مثلها التاريخ السياسي المعاصر، بشقّه المدوّن على الأقل.
وها هي الشبكة السورية لحقوق الإنسان تعيد رمي أرقامها مجدداً بوجه العالم المتحضر نهاية العام المنصرم، وتقول فيها إن أكثر من 131 ألف شخص يتقاسمون مصائر الاعتقال، والاختفاء القسريّ لدى النظام السوري منذ آذار/ مارس من العام 2011، بينهم 3621 طفلاً، و8037 سيدةً.
ولعل المثال الأكثر إيلاماً الذي نستذكره عند الحديث عن الأطفال المعتقلين، والنساء المعتقلات هو اعتقال طبيبة الأسنان رانيا العباسي مع أطفالها الستة وزوجها عبد الرحمن ياسين من قبل الأمن العسكري من أمام منزلهم في مشروع دمر بتهمة إيواء ومساعدة نازحين من مدينة حمص عام 2013، وكانت من بين أبناء الطبيبة طفلةٌ رضيعة لم تكمل العامين من العمر حين تم اعتقالها، ثم أصبح مصير تلك الأسرة يجوب شوارع الضمائر الحيّة بلا ملل، مرّات ومرات قبل أن يتّخذ من النسيان عنواناً دائماً له، حتى إن جبهة النصرة فشلت في استعادتهم، أو الاطلاع على مصائرهم عام 2014 حين أُدرج اسم الدكتورة رانيا وعائلتها على قائمة التبادل في عملية احتجاز راهبات دير معلولا الشهيرة، والتي أسفرت عن استرداد 150 معتقلةً من سجون النظام السوري.
قبل العام 2011 كان ذكر لفظة "مخابرات" يثير الهلع، وكانت السرديات المتعلقة بمصير المعتقل السياسي تُكثّف بعبارات قصيرة ذات رمزيّة دلالية مثل "لم يعد يرى الشمس" أو "صار تحت سابع أرض" وكان مقياس الولاء مرتبطاً بالدراسات الأمنية التي تجعل كل معارض مصدر تعب وقلق لأسرته وأقاربه من الدرجة الثانية وربما من الدرجة العاشرة، وهذه من تدابير النظام الخبيثة لتكبيد الشخصية المعارضة لوماً اجتماعياً قد يصل إلى درجة النبذ والقطيعة معها، بحيث يصير التعاطف الاجتماعي مع المعتقلين إن خرجوا أحياء من أمعاء المعتقلات وغرف التوقيف الضيقة تعاطفاً فيه زادٌ متواضع من المجاملة لا أكثر.
حتى إن التعاطف الدولي مع ما أفصحت عنه صور "قيصر" التي اندهش العالم المتحضّر بها كلّياً مطلع عام 2014 (هل هذا يحدث فعلاً في كوكبنا؟!) وكأن العالمَ المتحضر، سليلَ نبالة فكرة حقوق الإنسان يسمع للمرة الأولى بالنظام السوري(هل يوجد هذا النظام السياسي حقاً على كوكب الأرض؟!)
55 ألف صورة تتلو 55 ألف وثيقة عن انتهاك آدمية الإنسان في سوريا وحرمةِ روحه وموته المجاني بتلك الصورة المهينة، الزاخرة بمدلولات التعالي واحتقار الكيان البشري من قبل النظام البوليسي الحاكم. كل ذلك، ولم يحصل شيء، فقط ما زال النظام منهمكاً في مكافحة الإرهاب، ويرجو ألا يزعجه أحد، أو يلهيه عن مزاولة تلك الهواية المسائية، ومعنيّاً باستنطاق حملة تلفزيونية تبثها قنوات تلفزيونه الرسمية مؤخراً حول الحدّ من العنف ضد المرأة، ليفقأ بها عين منظمة العفو الدولية، وسواها من منظمات حقوقية تشكك باحترامه لمجتمعه!!
سوريا في دهاليزها المعتمة
يشار إلى "رغيد الططري" بأنه المعتقل صاحب الأربعين عاماً من التنقل والطواف بين معتقلات النظام ابتداءً من سجون إدارة المخابرات العامة إلى سجن المزة ثم سجن تدمر فمعتقل صيدنايا ثم سجن عدرا حتى استقر به المقام في سجن السويداء المدني، وهو الملازم أول طيار الذي رفض مطلع الثمانينيات قصف أهداف مدنيّة في مدينة حماة.
تلك المدة الماراثونية من احتجاز الحرية، وذاك الترحال بين كل أشكال السجون التي ابتكرتها المخيلة البوليسية للنظام السوري تجعلان من رغيد الططري نموذجاً لسجين الفكرة، فعقل النظام الإلغائي سجن فكرة عصيان أوامره كلّ تلك المدة، أكثر من كونه سجن صاحبها، ولعله أيضاً فعل أمراً مشابهاً حين جمع في الثمانينيات معتقلي حزب العمل الشيوعي جنباً إلى جنب مع معتقلي الإخوان المسلمين. فهاتان فكرتان مناوئتان لسلطته اعتقلهما أولاً، ثم أجلسهما إلى جوار بعضهما البعض، فكرةٌ راديكالية تمثل أقصى اليمين، إلى جانبها فكرة راديكالية تمثل أقصى اليسار، دون أن يأبه بمن يحملهما.
في صور "قيصر" المسرّبة، تظهر أرقامٌ على الجثث التي أخجلتنا بصمتها حين صفعنا فجأة، تدّلُ على هوية المعتقل والجهة المخابراتية التي طردت حياته منه. ومقرات الأمن نفسها تحمل أرقاماً، ومستشفى المزة العسكري يحمل الرقم 601، وهذا ليس هوس النظام بالأرقام بل إنجازه الأكثر إبهاراً لنا، التجريد إلى أقصى الحدود، تحويل البشر إلى أرقام، وكذلك الجهات والمرافق، أي لا قيمة للموجودات لديه. هي أرقام فحسب، وهو الذي كلما حاول إحصاءها أخطأ في العدّ.
التعليقات (2)