رسالة إلى الجنرال فرانكو: كيف نكتب لديكتاتور يكتشف المؤامرة الكونية؟!

رسالة إلى الجنرال فرانكو: كيف نكتب لديكتاتور يكتشف المؤامرة الكونية؟!
تصلح رواية (رسالة إلى الجنرال فرانكو) التي ألّفها "فرناندو أرّبال" وطبعتها دار ممدوح عدوان بترجمة أنيقة لعمار الأتاسي، لإعادة تفحّص المجتمعات المغمورة بأنظمة حكم شمولية، وكأن مضمون السرد فيها موجّهٌ إلى كل ديكتاتور، وكأنّ ما عاشته إسبانيا حين كان "فرانكو" وحزبه حزب الكتائب يستنطقان يومياتها، يشبه ما تعيشه سوريا مع إزاحة زمنية طفيفة، وتبديل شكلاني في الأسماء وموجودات الفضاء الروائي. فبنية السرد في رسالة إلى الجنرال فرانكو تظهر حميمةً مألوفة، كما لو أن أرّبال تدرب مراراً على كتابة رسالته – الرواية عن سوريا مثلاً، ونشرها قبل أيام معدوداتٍ في منفاه الباريسيّ.

عنف أعمىً وضحية مغمورة بالرماد       

 

لم يُقِم "أرّبال" وزناً لتقنيات السرد الروائي، ولا إلى تعاقب الرواة على نصّه، ومع ذلك فقد استطاع توريطنا بملاحقة سردٍ شيّق قبل كل شيء، صنعه بإيقاع عذب من لغة كثيفة طاوعته بمفرداتها، فروايته تلك عبارةٌ عن سرد بسيط بقالب الرسالة المكتوبة، تبدأ بتوجيهها من الكاتب المقيم في باريس حينذاك إلى فرانسيسكو فرانكو- المقيم في قصر البرادو في إسبانيا، بتاريخ 18 آذار/ مارس 1971.     

فالراوي الملتحم بضمير الأنا، بدا قادراً بمفرده ودون الاستعانة برواةٍ آخرين في مسار حبكته على فتح نوافذَ نبصر من خلالها إسبانيا التي تشكلت على هوى الطاغية، ونستنجد عن غير قصد بمقاربة تجسُّد ذاك الفضاء الروائي لما نعيشه نحن هنا في سوريا، إذ تبدو المقاربة لصيقةً وحتمية وعفويةً في آن، حيث الرحى التي تديرها الأنظمة القمعية هي واحدة أبداً لا تتبدل. نقرأ في الصفحة 12، والكاتب يخاطب ديكتاتور بلاده: "حياتك متّشحة بالحداد، أتخيلك محاطاً بحمام بلا أرجل بأكاليل سوداء بأحلام تطحن الدم والموت…" 

ومع أن الرواية – الرسالة استساغت قالب إنشاء خطاب الرسالة بشكله الكلاسيكي، إلا أنها حوت صوراً ومجازات تشبيهية عديدة، كما في الصفحة 22: "فأنا لا أعتقد أن هناك أخياراً وأشراراً، هناك فقط عنفٌ أعمى وضحيةٌ مغمورة بالرماد…". تلك الصور أثرت النص الذي جاءت حبكته ضمن انتقال زمني أفقي يبدأ من طفولة الكاتب واعتقال المنقلبين لوالده، ثم تخفيف الحكم عليه من الإعدام إلى السجن المؤبد، وينتهي بكتابة هذه الرسالة في المنفى، ونشرها في الصحافة الفرنسية.

كان "أرّبال" يبلغ من العمر أربع سنوات حين استولى فرانكو على حكم إسبانيا، يتحدث في رسالته عن والده المعتقل، وعن ظروف الاعتقال في إسبانيا فرانكو التي تكاد تتطابق مع ظروف الاعتقال في سوريا بشار، فلكل معتقل 30 سنتيمتراً ملكه، لا ينازعه عليه أحدٌ، ووسيلة تدفئة المعتقلين شتاءً هي بطانيّةٌ هزيلة، كذلك فإن المحاكمات الصوريّة تنتهي غالباً بإعدامات تخطّها أيدي القضاة على عجالة، حتى إن المسيرات الإجبارية تحت مسمى المسيرات "العفوية" إلى ساحة الشرق في مدريد والتي كانت في إحداها احتجاجاً على العزلة التي فرضتها الأمم المتحدة على نظام فرانكو، تشبه مثيلاتها عندنا في سوريا، وكأن المسيرات "العفوية" تلك تنتقل بالتخاطر بين أدمغة الطغاة، وتغرق في وحول مجتمعاتها المغيّبة ببلاهةٍ وصمت.      

  

مؤامرة وتحديات كونية

"خمسةٌ وثلاثون عاماً مدفونون بين الأبواق" يصف "أرّبال" مسيرة الحياة الخائفة من ظلّها في إسبانيا المكبّلة بأغلال فرانكو، حين يسافر بسرده إلى مدريد، وقد انتقل ليعيش فيها منذ كان في الرابعة عشرة من العمر، وذلك في العام 1946. وبعد تسع سنوات كان الكاتب ينهي دراسته في كلية الحقوق، وحبكته تواصل التقدّم متكئةً على قصص يرويها، وينقلها في خطابه إلى جنرال قصر البرادو، ومتكئةً أيضاً على التفاصيل المنهكة للبلاد المتشبّعة بمذاق المهانة، يقول الكاتب في الصفحة 49: "موظفو الدولة والحزب الوحيد (الكتائب) كانوا يعطوننا دروساً في التربية الوطنية، الدينية       والرياضية..."

يغيب الحوار بين الشخصيات في لغة السرد، يذوب لمصلحة أنا الراوي التي تمسك بمفاتيح الحبكة كاملة، وتشرع تدخل الأبواب وتلوي الأقفال الواحد تلو الآخر، متنقلةً تعرّي أغصان شجرة الحياة غصناً تلو الآخر، يتحدث "أرّبال" عن القناع الذي كان يزيّف وجه الحياة بيومياتها المتعددة، يقول في الصفحة 54: "المناسبات تنتهي بأمر حكومي مع النشيد الوطني والصيحات المألوفة: يحيا فرانكو، إلى الأمام إسبانيا..."

ويضيف لنا في الصفحة 68 مخاطباً فرانكو: "جميع التعليقات في الصحافة والراديو والتلفزيون صبّت دائماً وأبداً بصالح ملاحم نظامك، وأفرزت مدائح وإطراءات وتهليلات جدائل من عسل مرّ تُغرق إسبانيا بصمت أبله…"

تلك المرثيّة الطويلة التي يتهلل لها وجه السرد، مغتبطاً بما تخطه يد كاتب الرسالة إلى ديكتاتور قصر البرادو البعيد، نقرأ في الصفحة 69: "يا لإسبانيا المسكينة، حانةٌ برائحة بول، حيث يُؤكل الطعام مع سياج من حداد، وحيث تغرز الكلاب الضارية أنيابها في القلوب..."

ولا عجب إن لمحنا ظهور المؤامرة الكونية، وكأنها عطبٌ يصيب أدمغة الطغاة أجمعين، فيعتقدون أن الموجودات في الكون الفسيح تتآمر لإزالة فضائل حكمهم من الوجود، وها هو "أرّبال" يلمّح إلى مؤامرة كونية، نعرف أن رئيس النظام السوري كان قد تحدث عن واحدة مشابهة طوّقت نظامه على مرّ السنوات الماضية، يقول الكاتب في الصفحة 72: "كانت التحديات كونيّةً، لا علاوات على الأجور، طردٌ ونقل وسجن..."

ثم ينبش مجدداً في قدريّة الموت الحمقاء حين تسعف الأرواح قبل يباسها، يعود في الصفحة 78 ليتحدث عن الأقدار السوداء للناطقين بالحقيقة: "يوزّع الشهداء على أيدي رجال عيونهم مطاطية، قلوبهم حديدية، وأيديهم مصنوعة من الخردة…" ويضيف في مقطع آخر في الصفحة 85: "سائر البلاد مرغمةٌ على الصمت عما يصرخ في روحها، الجميع هم أعداءٌ لنظامك، يهددون أمن حكمك، ابتداءً من عمل مسرحي بسيط، وصولاً إلى اجتماع ثلاثة عمال، مروراً بالكتيبات وبالأعلام…"

مات فرانكو فليحيا الأمل

ينقل الراوي إلى فرانكو رسائلَ داخل الرسالة كجزء من صناعة الحبكة، كتلك التي وجهها "مكاريو" وهو شخص محكوم بالإعدام إلى زوجته "فلورا" وأبنائه، ويتساءل الكاتب في الصفحة 86: "متى ستنتهي إسبانيتك من وضع الغلال على الزهور؟ ما أكثر الحقد، لا أريد ولا نريد أن نعرف شيئاً عن إسبانيا هذه التي أنت وريثها وممثلها…"

ينصت "أرّبال" إلى صوت ذاته العميق، دافئاً ومنساباً كماء رقراق، ينهي رسالته ويوقعها بتاريخ 18/3/1973 من باريس، يقول بلا شماتة: "مات فرانكو، فليحيا الأمل"، ولعل بوسعنا اقتباس هذه الترنيمة في كل البلاد التي رمتنا عن صهوات الجهات فيها، وانتظار لحظة ترديدها كأنها أجراس وطن حقيقي ستقرع ذات يوم داخل ذواتنا. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات