رواية (الخزاف الطائش) لأديب حسن: مبضع طبيب في عمق الجرح السوري

رواية (الخزاف الطائش) لأديب حسن: مبضع طبيب في عمق الجرح السوري
كثيرة هي الأعمال التي حاولت إمساك المأساة السورية من نصالها المتعددة. ففي السنوات العشر الأخيرة، اجتاح مبضع السرد؛ الجرح السوري، محاولاً استئصال جزء - ولو بسيطاً - من أورامه الخبيثة... إلا أن قليلاً من تلك الأعمال، استطاع الدخول إلى أعمق ما يمكن من الجرح ومعالجته بطريقة واقعية فنية بسيطة، تلامس النفس البشرية وتضفي شراكة في الهموم، بين الكاتب وقارئه.

رحلة بحث عن الحقيقة 

دعه يتسع...

هذا الجرح الذي صنعته ملائكة الأحزان في أعماق قلبك

فلا شيء يجعلنا عظاماً مثل ألم عظيم... 

بهذه المقولة التي نسبها الطبيب الشاعر والروائي السوري أديب حسن لــــ " ألفرد دوموسيه" يفتتح روايته (الخزاف الطائش) التي صدرت عن دار موزاييك للدراسات والنشر، ليأخذنا في رحلة بحث عن الحقيقة التي باتت قِبلة السوريين، والتي تجسدت بمفردة واحدة هي "النجاة"، في وقت أضاع فيه السوري الجهات... بمثل هذه اللغة الشعرية العالية واللطيفة في الوقت ذاته، يختزل "أديب حسن" أوجاع أجيال في شخص "سامان" الهارب من المجزرة والباحث عن هويته وأرضه المفقودة، لتكون أرض الميعاد "أوروبا" وجهته. 

"روح ستسلك دربها في المتاهة، روح من النمط سريع الصعود إلى البرازخ المجهولة ما وراء الحياة، هي من ذلك الصنف الذي لا يكترث بها أحد لأنها خُلقت في الشرق، وعُجنت بطينه وهوائه."

هكذا شبّه الكاتب رحلة بطل روايته الذي خرج من حي "قدّور بك" في مدينة القامشلي السورية، محمَّلاً بذكريات الحي "النسوة المتشمسات في عتبات البيوت" "والرجال المتوزعون بين الخمارات والمساجد" والأطفال الذين يحيكون المؤامرات للهجوم على أطفال الأحياء المجاورة... ذاك الحي الجاثم في الذاكرة على الرغم من سلب "سامان" السوري الكردي هويته والمكان. وهذا يطلعنا على تشبث الكاتب الفاقد للمكان بالمكان.. فلا يقف أديب حسن عند حي "قدّور بك" بل اجتازه في رحلة لجوء بطل روايته نحو أماكن ذات عمق تاريخي بالنسبة للسوري الكردي. أماكن وأحداث ذكرها الكاتب كحوامل معرفية تضاف إلى جعبة القارئ، مثل: "مدينة ماردين" "جبل آرارات" "ملاطيا" "جبال طوروس" "جبل سنجار" وغيرها... كما لم يَرْمِ الكاتبُ أدواته الطبية ورحمته بعيداً عن روايته، فها هو يشرّح ويرتق جراحاً أنهكت جسداً طالما عاش فيه. 

سلب هوية السوري الكردي

حملت أجواء الرواية هماً تغاضى عنه كثير من الكتّاب، تفادياً للمآزق، همّ سلب الهوية بالنسبة للسوري الكردي. فعندما طرحت شخوص الرواية هذا الهم من خلال الحوارات والسردية التي اتسمت بالعمق -وهذا يحسب للكاتب وعليه- كون بعض هذه الشخوص خرجت من بيئة ذات طابع غير مثقف، إلا أننا وبمجرد الدخول في عمق الحدث سنلحظ بعداً فلسفياً ميتافيزيقياً، جاء في مواضع كثيرة مثل "الموت"، "المكان"، "العبور"، و"ترسيخ الحقيقة". وقد نستطيع نسب النص إلى الفانتازيا أحياناً كونه ذا عمق شاهق يلامس الخيال ويشاغبه.

استطاع أديب حسن تطويع الحدث ليقول كلماته في السياسة والتاريخ والحب دون مواربة أو التفاف، غير عابئ بإرث الصمت الذي حمله السوري طوال السنوات الماضية. كما صنع مساحة فريدة لعلاقة حب عابرة للمعتقدات، وهذا ما منح العمل طابعاً إنسانياً، قافزاً على الحواجز التي رسخها المجتمع... علاقة "سامان" بالفتاة "سوزي" الأرمنية.. 

بلسان الراوي العليم وبخط سردي يظنه القارئ واحداً، إلا أنه ذو تشعبات ومحكوم بالضجيج الرتيب واليائس، خلق الكاتب خلطة سردية تسحب القارئ نحو اجتياز "سامان" جغرافيا ومشهداً تاريخياً يمتد لحوالي نصف قرن، امتداداً تصاعدياً، يشبه حياة الإنسان وما يمر به من تقلبات، ويظهر هذا أيضاً في تقطيع الكاتب لعمله تقطيعاً مسرحياً، مكّنه من خلق رؤىً خالية من الحشو.  

خطوة فخطوة يتجه "سامان" برفقة المهّرب العجوز "سمو" مجتازاً الحدود السورية التركية، نحو مدينة (أزمير) ليسلك درب النجاة السوري، إلا أنه وفي النهاية يلاقي مصير الغرق في تلك المياه الصالحة للموت فقط، لتتحد قصته مع قصة الطفل "آلان الكردي"، تلك الأيقونة التي جسّدت المأساة على لوحة البحر. 

"تسرب الماء إلى صدر سامان فطفت أغنية الأم... وطفت يدا سوزي الممسكتان بصورة قامشلي، طفت ألغام الحدود والمخافر والصخور والكمنجات... السفوح والمنحدرات المفضية إلى قلق المهاجر... والذي بقي يلفظ الذكريات والأحلام والأسرار الغريقة، غير آبهٍ بألسن الماء التي استباحت سره".

تأريخ لمرحلة حساسة 

من عوالم أخروية ينطق "سامان" بقصته، حاملاً هاجس المتاهة، بعمقها واتساعها، والتي استلهمها من حفرة القبر... وتتضح شخوص الرواية منذ البداية وتتكشف داخلياً. وشيئاً فشيئاً سنتعرف على مكنونات تلك الشخوص قبل أن نعرف أشكالها الخارجية، وهنا يظهر التميز لدى الكاتب، عندما أظهر القلق واليأس والعبثية في شخص بطله منذ القطعة الأولى، دون أن يشرح لنا صفاته وهيئته الخارجية. 

قد لا نكتشف الحقيقة، ولا نستقر إلى نهاية سعيدة أو واضحة، لكن من المؤكد أننا سنتشارك المأساة التي أمامنا الآن، والتي كانت أمامنا في السنوات الأخيرة. 

نستطيع القول إن رواية (الخزاف الطائش) تأريخ لمرحلة مهمة وحساسة من فصول المأساة السورية على وجه العموم، والقضية الكردية خصوصاً.. تأريخ يحمل خصوصية فنية عالية، وينطوي على البحث في أعمق نقطة من النفس البشرية.. وقوف الإنسان أمام حقائق ووقائع جديدة قديمة، محاولاته الالتفاف عليها والمضي قُدماً، فكرة التعايش مع اليأس والقلق والعبور به إلى ضفاف أخرى. 

الرواية والروائي: 

- "الخزاف الطائش" للشاعر والروائي الدكتور أديب حسن جاءت في 175 صفحة من القطع المتوسط. صدرت عن دار موزاييك للدراسات والنشر.

- أديب حسن: شاعر وكاتب سوري من مواليد مدينة القامشلي 1971

- المؤهل الدراسي: حاصل على إجازة في طب الأسنان وجراحتها من جامعة تشرين

- الجوائز: حائز على عدة جوائز عربية في الشعر والنقد. منها: "جائزة سعاد الصباح" و "جائزة البياتي"

- الإصدارات: صدرت له عدة مجموعات شعرية منها: (ملك العراء -  ثامنهم حزنهم -  سبابة تشير إلى العدم - البريّة كما شاءتها يداكِ -  لا أشبهني). 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات