قصة العميان.. في مرآة سورية وبلاد العربان

قصة العميان.. في مرآة سورية وبلاد العربان
كانت قصّة "بلد العميان" من أهمّ القصص التي تعاملَت مع مسألة أو مشكلة "العمى" من وجهة نظر ذكية وعميقة باستخدام خيال رفيع. 

كتب القصّة الروائي والقاصّ الإنكليزي "هربرت جورج ويلز" سنة 1904، "ويلز" (1866-1946)، وكان واحداً من أهمّ مؤسِّسي "أدب الخيال"، وهو من ألّف روايات شهيرة في هذا المجال، مثل "آلة الزمن" و"أوائل الرجال على القمر". 

تحكي القصّة (أي بلد العميان) عن مجموعة من مواطني "البيرو" في أمريكا الجنوبية الذين هربوا من ظلم واستبداد المحتلّين "الإسبان" نحو جبال "الأنديز" المجاورة، وبعد وصولهم إلى سفوحها تعرّضوا لانهيارات جبلية عنيفة أسفرت عن احتجازهم في وادٍ سحيق، ورُدمَ كلُّ درب أو فجوة يمكن أن تصلهم بالعالم الخارجي، فانقطعوا عنه تماماً. 

بعد وقت ليس طويلاً انتشر بينهم مرض غريب مثل رَمَد أو التهاب العيون ولم يَذَرْ منهم أحداً، لكنّ ردّ فعلهم تجاه تفشّي ما حدث لهم كان غريباً، فلقد اعتقدوا أنّ هذا البلاء الذي حلّ بهم كان نتيجة طبيعية وحتمية لسوء أخلاقهم وسلوكهم، وأنّهم يستحقّون العقاب فعلاً، مع أنّهم كانوا الهاربين من أصحاب الأخلاق السيّئة، ومن الظلم والبطش والجريمة. 

بعد أجيال.. ورث الأحفاد وأحفاد الأحفاد هذا المرض، فأصبح مجتمع الوادي برُمّته مجتمعاً من "العميان"، ويوماً ما -هكذا حدث ويحدث أحياناً- زلّت قدم أحد المغامرين أو مستكشفي ومتسلّقي الجبال في "الأنديز"، فهوى إلى الوادي السحيق "وادي العميان"، واعتقد كلّ من كانوا يرافقونه أنّه قد مات لا ريب، لكنّه -وفق القصّة- وقع على الثلوج الهشّة فظلّ حيّاً. 

استيقظ المغامر المستكشِف واسمه في القصّة "نيونز" بعد الصدمة ليجد نفسه في عالم آخر، في وادٍ مليء بالبيوت الملوّنة، كانت بيوتاً ملوّنةً بألوان كثيرة وفاقعة وبلا نوافذ، فخمّن أنّه وقع في المنطقة التي يتحدّث عنها الناس دون أن يستكشفها أحد أو يبرهَن على وجودها "وادي العميان"، وخلال دقائق تأكّد من ذلك تماماً، فلقد اجتمع عليه الناس وأخذوا يتلمّسون وجهه ويغرسون أصابعهم في عينيه، فوجدوا أنّه ليس على ما يُرام مثلهم، فهو يتعثّر في المشي ويقول أشياء غريبة عن البصر والألوان والأنوار والطبيعة!، ولقد كان من الصعب عليهم بعد خمسة عشر جيلاً من العمى أن يصدّقوا أشياء مجنونة كهذه. 

وبعد الكثير من الوقت والجهد والمعاناة قرّر صاحبنا "نيونز" الرضوخ للعيش مع العميان وصار يسايرهم ويتقبّل أفكارهم ويؤيّدها، قال لنفسه: على الأقلّ أنا لديّ نعمة البصر.. المهمّ ألّا أفقدها، ثمّ أسفرت الأحداث عن وقوعه في حُبّ ابنة من بنات القوم، والتي كان يراها الأجمل، فما زال لها أهداب ووجه طبيعي، وهو ما يخالف فكرتهم عن الجمال!، ومع ذلك لم يتمكّن من الزواج بها لأنّ "القوم" اعتبروه مجنوناً أو كاذباً، لذلك فهو في طبقة أدنى من طبقة الفتاة، ثمّ رغبوا أخيراً في حلّ المشكلة، فقرّروا أنّ وجود هذين "العضوين" على وجهه هو سبب المشكلة، لذلك ينبغي اقتلاعهما، ليعود له عقله ويتزوّج من المحبوبة!. 

ومع أنّ الفتاة أحبّته جدّاً ورجته أن يقبل، لكنّه لم يقبل مجرّد التفكير في ذلك، ونجح أخيراً بالهروب، وهو يقول لنفسه: أخسر حبّ العالم وثروات العالم ولا أخسر عينيّ!. 

العِبَرُ كثيرةٌ في هذه القصّة (التي أنصح بقراءتها، فلقد اختصرتُها كثيراً)، ولا يمكن أبداً أن يستخلص اثنان نفس العبرة من الحدث نفسه، أو من ذات الحوار أو ردّ الفعل، وهذا من صفات الأدب الممتاز، خاصّةً حين تكونُ المادّة برمّتها خيالاً في خيال، لكنّك تتساءل: طيّب إذا بالفعل حدث مثل ذلك الخيال المجنون، يعني مثلاً: ماذا لو كان البشر بلا عيون، كيف كانت ستسير الأمور؟، هل ستسير أصلاً؟، أو مثلما تتحدّث القصّة عن "خمسة عشر جيلاً" من العميان.. ما النتائج؟. 

يمكن التفكير بخطاب مباشر قدّمته القصّة في كثير من الأحيان، وبأفكار ذكيّة أو مواربة أو بإيحاءات، وستتغيّر استنتاجات القرّاء أيضاً مع تغيّر الوقت، فالقصّة المكتوبة سنة 1904 وقد تكون إشاراتها مختلفةً عن الإشارات التي نتلقّاها الآن، لكن ما دمنا نجد في الأعمال الأدبية القديمة هذه القدرة على تقديم نفسها دائماً، فهذا بحدّ ذاته إشارة واضحة لقيمة العمل وعمق محتواه. 

خلال القراءة، يمكن استنتاج أشياء مثل: (لا أسوأ من الهروب سوى الهروب إلى الأسوأ)، و (ليس أبشع من الظلم والاستبداد، سوى الظنّ بأنّ الثورة عليه هي سبب المأساة وليس الظلم نفسه والاستبداد)، و (ما أجمل أن يُكتَبَ لك عمرٌ جديد، لكن.. من يعلم، هل سيكون ذلك جيّداً حقّاً؟)، أو مسائل حول الشعور بالاختلاف الذي يؤدّي إلى وحدة موحشة، أو الوقوع الاجتماعي الجماعي الذي يجعلك تتقبّل وقوعك، أو عن "الحرّية" التي لا تقدّر بثمن.

في الحقيقة ما استوقفني في القصّة ليس التفكير بالحِكم والقِيم والعِبَر والصور الزاخرة، وليس التفكير في أجوبة عن أسئلة الخيال العجيب الذي طرحته، فالجواب هو "لا أعرف"، وليس لديّ تصوّر كافٍ بمنطق العلم والتطوّر البيولوجي، أو في سلوك الطفرات والجينات، لكنّ ما استوقفني مباشرةً التفكير في هذا السؤال: ما نوع العمى الذي أصاب أولئك الناس في "وادي العميان"؟، هل هو عمى العيون أو عمى القلوب؟، الأبصار أو البصائر؟. 

فمع أنّه كان عمى عيون بمفهومنا، لكنّه بالنسبة لهم لم يكن كذلك، فهم أصلاً لا يعرفون ما هي العيون، مثلما تقول لسمكة أين جناحاكِ؟، ونسبياً هم كانوا يرون فعلاً بآذانهم وأيديهم وأحاسيسهم، فلقد كانوا يعرفون بالضبط أين هو "نيونز" في كلّ مكان يكون فيه، وكانوا يعملون في البرد وينامون في الدفء، إذ لم يكن ثمّة ليل أو نهار، وكانوا قادرين تماماً على إدراك المحيط بكلّ تفاصيله، فقط مسألة الضوء واللون (الصورة) كانت غائبةً عنهم، فهل هذا يعني أنّهم كانوا على بصيرة من أمرهم؟، فبالفعل كانوا يعيشون ويتدبّرون شؤونهم بكلّ إدراك وخبرة وهذي هي نصف البصيرة، أمّا نصفها الآخر فهو "العلم"، وهو ما لم يكونوا يتمتّعون به، فقد كانوا يعرفون فقط كيف يأكلون ويشربون وينامون ويعملون ويُنجبون، يتدبّرون معيشتهم فقط، لكنّهم لا يعرفون العلم ولا العالم، ولا يفهمون أبداً ما معنى أن تكون حرّاً أو أن تعبّر عن نفسك أو رأيك أو تقدّم للناس أفكاراً جديدة، لم يسمح عميان الوادي لنيونز بذلك قطّ، واعتبروه كاذباً مجنوناً. 

في الحقيقة، العيون وسيلة لتقوية القدرة على الحياة، لكنّ كلّ الحواس مهما فاقت وتفوقّت لن تُفيد في جعل الحياة جيّدة ومفيدة إن لم يكن في الرأس دماغ يفكّر وفي الصدر قلب يحسّ. 

عمى الأبصار هو عدم "قدرتنا" على امتلاك وسائل التطوّر والبناء، وعمى البصائر عدم "رغبتنا" في تطبيق القوانين والعلوم، لا القدرة تكفي بلا عزيمة، ولا الرغبة تتحقّق بلا إرادة، وهذي الشعوب التي عاشت وتعيش كلّ هذا العمى بسبب اجتثاث عيونها وتخريب عقولها، صار ينبغي لها أن ترى وتفكّر كيف تنقذ أجيالها الأخرى من الوقوع مثلها في "عربستان العميان". 

التعليقات (2)

    مصطفي المصطفي

    ·منذ سنتين 3 أشهر
    مقال رائع..

    مصعب أبو الخير

    ·منذ سنتين 3 أشهر
    جميل جداً هذا الإسقاط..
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات