التغيير الذي لا يأتي في سوريا.. أي بديل في الأفق؟!

التغيير الذي لا يأتي في سوريا.. أي بديل في الأفق؟!
ليس تغيير الأوضاع السياسية في سوريا ترفاً لقوى حالمة به، بل هو ضرورة تاريخية لأزمة، لفتح الآفاق أمام صيرورة تطور تاريخي، تتطلبه البنى الاجتماعية والاقتصادية السورية في راهنها الممتد منذ أن قفز الأسد الأب إلى السلطة عام 1970، هذه القفزة، زادت من تعميق أزمة تطور البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا، بحيث تحولت الدولة عبر هذا المسار من كونها تدير ملف التناقضات والصراعات، إلى كونها طرفاً في هذه الصراعات والتناقضات.

هذه الحالة أتت من السعي لجعل الدولة هي السلطة، والسلطة هي الدولة، وهذا يعني اختفاء وذوبان بنى الدولة المختلفة في بنية السلطة الحاكمة، مما اقتضى من أركانها السيطرة على مفاصل حياة المجتمع السوري برمتها، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً.. إلخ.

سعي السلطة إلى تأبيد نفسها سياسياً، اقتضى منها التحكم بكل سيرورة الحياة الاقتصادية في البلاد، وهذا جعل منها قوة ماصةً للقوة الاقتصادية، وتحويل هذه القوة إلى أداة سيطرة على المجتمع والدولة، إضافة إلى استخدامها للقوة الأمنية والعسكرية لتحقيق ذلك، وترويض الإعلام والحياة السياسية بما يبقيها في ركن التحكم المستمر.

هذا النهج يتناقض موضوعياً مع قوانين تطور البنى الاجتماعية السورية، ونقصد بالبنى فئات الشعب السوري المختلفة، مثل قوى البرجوازية العاملة في حقول الإنتاج السلعي الصناعي المختلف، وقوى الطبقة الوسطى وغالبيتها من فئات التكنوقراط والتجار العاملين في حقل تجارة التجزئة والخدمات، إضافة إلى فئات واسعة تعمل وتعيش على عائدات إنتاجها الزراعي.

السلطة المستبدة ذهبت إلى توظيف كل عناصر الاقتصاد والسياسة والقانون والثقافة في خدمة مشروع تأبيد سلطتها، هذا التأبيد، صار سدّاً منيعاً أمام تطور البنى الاجتماعية المختلفة في سوريا، ما خلق قاعدة للصراع بدأت تراكم من فعاليتها بالتدريج، سيما مع تحوّل الدولة لأذرع نهب وقمع وفساد خطير.

هذه العرقلة السياسية والاقتصادية التي مارستها سلطة الاستبداد، كانت تساهم في توسيع الهوّة بين نظامٍ بات على يقين أن البلاد هي مزرعته الخاصة، وأن المواطنين هم أجراء وعمال في مزرعته (البلاد)، ما جعل الهوة تتسع وتمتلئ بتناقض وجودي بين بنى المجتمع الطبيعية، والبنى التي ولدت وتغذّت من وجود نظام الاستبداد والنهب والقهر. 

هذه المعادلة كانت ستقود بالضرورة إلى صراع بأدوات مختلفة، ولعلّ الصراع السياسي كان أوضحها، والذي تجلّى بحراك ذي طبيعة نخبوية أو شعبوية، كانت غايته استرداد ما سلب من حقوق سياسية واقتصادية، تخصّ الفئات الاجتماعية الواسعة المتضررة من بنية نظام شمولي استبدادي فاسد.

السلطة المستبدة وكي تضمن استمرار وجودها عمدت إلى سحق كل القوى السياسية المعارضة لنهجها، والتي لم تستطع قراءة بنية النظام الاستبدادي، الذي بدأ يراكم لنفسه على صورة هيمنة مطلقة على مفاصل حياة البلاد بأكملها.

في هذا السياق التاريخي الملموس، تفجّرت ثورة السوريين عام 2011، وكانت تريد استرداد حقوق الفئات الاجتماعية الكبرى الأكثر تضرراً، سواء كان الضرر سياسياً أم اقتصادياً أم فئوياً، والتي سلبها نظام الاستبداد، ولكن البنى الحاملة للثورة، لم تستطع تأطير نفسها بإطار سياسي كبير وواسع، يسمح لها بقيادتها وطنياً، والسبب في ذلك هو التكوين البنيوي للقوى الثورية، هذا التكوين ينحدر من نمط إنتاج زراعي، يعتمد على الحيازة المحدودة وذهنيتها.

النظام المستبد دخل عملياً في طور صراع مع أوسع فئات المجتمع، ما جعل مشروعه بالهيمنة والسيطرة الكليتين على البلاد، يدخل في نفق انسداده التاريخي بسرعة أشد، فهو كنظام نهبٍ وقهرٍ لم يعد بمقدوره تغيير بنيته، وبالتالي لن يكون بمقدوره تغيير سيرورة التطور لمصلحة الشعب، لأن ذلك سيقوّض بنيته ووجوده.

وفق هذا التقابل المادي الملموس في الصراع الداخلي السوري، والذي تحوّل طرفاه إلى أذرع لصراع قوى إقليمية ودولية على الأرض السورية، وهذا يكشف ضعف قوى المعارضة بصيغتها البنيوية القائمة حالياً، هذه البنية تنغلق سياسياً على أجندة من أوجدها، دون الالتفات إلى أجندة وطنية تشكّل أساس الصراع مع نظام الاستبداد وحلفه.

الأمر ذاته ينطبق على النظام الاستبدادي، الذي استدعى القوى الخارجية (إيران وروسيا والميليشيات) من أجل إدامة وجوده، ومحاولة استمراره في السيطرة والهيمنة، ما جعله يخسر مواقع كبرى في الاقتصاد والنفوذ الاجتماعي لصالح قوى التدخل الخارجية، التي باتت ذات سيرورة منفعة براغماتية، تضع النظام في موقع الواجهة، لتتحكم من خلفه بالجغرافية السياسية لسوريا وتعمل على جني أرباح استثمارها العسكري والسياسي في الصراع السوري.

إذاً، نحن في حالة عجز بنيوي عن تغيير اتجاهات الصراع، بما يخدم الشعب السوري بكل فئاته، هذا العجز ينبغي قراءته في عمقه البنيوي، وبالتالي البحث في إزاحته عن سدّة قيادة الصراع، وهذا يتطلب من البنى السياسية والاجتماعية خارج هذا النسق العمل على قراءة حركة الواقع بصورة غير نمطية، أو سطحية، أو انفعالية، ما يستوجب عقد ورشات متخصصة بالاقتصاد والسياسة والقانون والإعلام وغيرها.

إن الانتقال من تشخيص سبب العجز بنيوياً، سيفرض علينا البحث عن بدائل أكثر ملموسية في تغيير الواقع واتجاهات الصراع في سوريا، وهذا يتطلب حسابات تتعلق بتغيير موازين القوى والحشد الشعبي والسياسي، وجعل الصراع ضد النظام يشكّل حالة أرق سياسي وأمني جادة بالنسبة للمجتمع الدولي.

وأن أولى الخطوات المطلوبة ثورياً ووطنياً هي إعادة إنتاج قيادات مؤسسات المعارضة على نحو أكثر دينامية وقدرة على الفعل، وأن ذلك لا ينبغي أن يمسّ أطر التمثيل الخاصة بالثورة السورية، وإنما يمسّ وجوهها التي تتكرر على مشهدنا السياسي منذ سنوات دون أن تقدر على إنجاز مهامها لسبب ارتباطها بأجندات إقليمية، وهو ما جعلها تنغلق على بنيتها ومصالحها الذاتية المتعارضة مع مصلحة النضال الأعمق والأشمل لإزاحة نظام الاستبداد.

فهل تذهب القوى الثورية ومنظمات المجتمع المدني المستقلة والشخصيات الوطنية الفاعلة إلى اشتقاق طريق أكثر فعالية بمواجهة نظام الاستبداد وحلفه؟ وهل يتشكل تيار أشمل وأعمّ من بنى أطر المعارضة بصيغتها الحالية، كالدعوة إلى عقد مؤتمر وطني سوري شامل تتمثل فيه مكونات الشعب السوري السياسية والاجتماعية والثقافية دون السقوط في فخّ المحاصصة الفئوية والطائفية والدينية؟

إن الخلاص من حلقة العجز البنيوي لقوى المعارضة تتطلب جهوداً جبارة من الجميع، للانفكاك من أسر جهود دولية لم تثمر حتى الآن في تحقيق اختراق جدي في تنفيذ القرار الدولي 2254.

العجز البنيوي مهيمن، والبديل عنه لا يزال بلا أفق واضح وحقيقي.      

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات