القلمون الحاضر الغائب.. بين الضريبة الإنسانية والإجرام الطائفي

القلمون الحاضر الغائب.. بين الضريبة الإنسانية والإجرام الطائفي
تشكل منطقة القلمون بشقيها الغربي والشرقي المنطقة الإستراتيجية الأولى في سوريا، فيمتد القلمون الشرقي من حدود مدينة عدرا جنوبا وحتى القريتين في جنوب حمص، ويمتد الشق الغربي من منطقة الزبداني ووادي بردى حتى مدينة القصير بريف حمص، ويفصل بينهما الطريق الدولي دمشق – حلب، هذه الأطراف العصية على سلطان النظام مما قبل الثورة السورية عام 2011، والتي تمثل قيمة جيوبولتيكية وديمغرافية وازنة على الصعيد السوري.

القيمة الجيوبولتيكية لمنطقة القلمون

 يبلغ تعداد سكان منطقة القلمون ما يقارب 700 ألف شخص، بغالبية ساحقة عربية مسلمة، يتوزعون على عدد من المدن والبلدات في النطاق بين دمشق وحمص مجاورة للبادية الشامية ولبنان، ويكتسب القلمون أهميته السياسية من كونه يشرف على أكثر من 45 كيلو مترا من الطريق الدولية التي تربط العاصمة دمشق بمدينة حلب في الشمال، ويشرف على أكثر من نصف طول الحدود السورية مع لبنان في سلسلة الجرود الفاصلة، ويطل ويتحكم بأوتوستراد دمشق – بغداد الدولي، ويعد حزاما متقدما للعاصمة دمشق، إضافة لاحتوائه على كثير من مخازن ومستودعات وقطع الجيش السوري سابقا بدءا بالحرس الجمهوري والفرقة الثالثة وبطاريات الصواريخ البالستية والدفاع الجوي، نظرا لطبيعته الجبلية المناسبة وعمقه الاستراتيجي، فهو عقدة الوصل بين العاصمة والمنطقة الوسطى والمنطقة الشرقية، وبالتالي أكثر من ثلثي سوريا، وهو ذاته المنطقة التي يوجد فيها مراكز صناعية كمدينة يبرود، وسياحية كالزبداني ووادي بردى، واقتصادية كدير عطية وقارة التي يوجد فيهما آبار غاز مهمة ومشغلة، إلى جانب طبيعة سكان بلداته وقراه وعملهم بالتهريب وصعود نجمهم المتمرد على سلطان النظام ما قبل الثورة، هذه القيمة التي سيدفع ثمنها سكان القلمون غاليا أثناء الثورة، وتشعب قوى النفوذ على الساحة السورية.

الثورة في حمص ودمشق تبدأ من القلمون وتنتهي فيه

 التحقت مدن وبلدات القلمون بركب الثورة السورية باكرا في أغلبها، الأمر الذي لم يكن بحسبان النظام آنذاك، فكثير من أبناء المنطقة ينعمون بسلطات ومراتب ومكانة عالية في أجهزة الدولة على اختلافها، وخاصة الأجهزة الأمنية والجيش، وبأعلى الرتب والاستثناءات، ونفوذ جبلي وولاءات أسرية حامية، ظن النظام أنها لن تشارك بزخم في ركب الثورة، إلا أن النظام أوتي من حيث ظن نفسه بمأمن، لتشهد منطقة القلمون غليانا ثوريا أدى لطرد قوات النظام باكرا من كثير من المناطق والبلدات بحدود نهايات عام 2012، في الوقت الذي بدأ النظام يتحسس خطورة بالغة من غوطتي دمشق ومدينة حمص وأريافها، بالتوازي مع فراغ حقيقي للنظام في منطقة القلمون التي تحتوي على خزان بشري معارض وممرات إمداد من خارج سوريا، وثكنات ومستودعات كبرى وأولى للجيش السوري سابقا، فشكلت المنطقة مساحة آمنة لإمداد حزام دمشق وحمص، بالعتاد والعدة والثوار والإمداد الإغاثي والطبي، ومناطق آمنة لعشرات آلاف النازحين من محيط دمشق وحمص وأريافها، مع عجز النظام عن إيجاد حلول في دمشق وحمص بسبب الشهية الثورية الكبيرة ضده، فكان لا بد من إحكام التوجه الاستراتيجي للتخفيف من حدة عملياته في دمشق وحمص وريفهما، والتوجه نحو القلمون لضرب القلب الذي سيسهل ويقضي على جناحي دمشق وحمص، وبالفعل بدأ النظام والميليشيات الشيعية العراقية واللبنانية والميليشيات القومية والمرتزقة المحليون بمدينة القصير مرورا بيبرود والنبك وانتهاء بالزبداني والرحيبة، السياسة التي تهدف إلى اقتلاع المنطقة والقيام بتطهير طائفي وعرقي لإضعاف دمشق وحمص.

الضريبة الإنسانية والإجرام الطائفي

 عانت المنطقة قصفا متواصلا على مدنها وقراها لسنوات قبل أن يشن النظام والميليشيات الطائفية الشيعية هجومها عام 2014، الجرائم التي كللت بأكبر موجات الهجرة نحو لبنان، ومذابح جماعية في مدينة النبك أبرزها حرق النساء والأطفال في ملاجئ الأبنية فور دخول ميليشيات شيعية عراقية ولبنانية إلى المدينة، وقطع رؤوس مدنيين واستباحة أعراضهم ودمائهم، فضلا عن تدمير ممنهج للبنى التحتية في كل من يبرود والزبداني، والبيوت في الصرخة والمشرفة وريما قصفا وبالجرافات وتجريف البساتين والمناطق الزراعية الممتدة على مساحات واسعة، ما دفع أكثر من 30% من سكان المناطق إلى أن يكونوا في عداد اللاجئين والمهجرين في دول الجوار، إضافة لكثير من النازحين نحو دمشق والشمال السوري، وما زالوا على هذه الحال إلى الآن في مخيمات حدودية وبيئات تفتقر إلى أدنى المقومات الإنسانية والإغاثية، والاستهداف الطائفي لهم لأنهم يدينون بالإسلام (السنة والجماعة)، ولا يمكن تجاهل الحصار الممنهج لمضايا والزبداني ومخيمات عرسال، واعتقال وتعذيب وقتل العائدين إلى قراهم على أساس انتمائهم المذهبي على يد ميليشيات إرهابية طائفية أقلوية.

مكاسب الاحتلال الإيراني الشيعي.. "من الجمل أذنه"!

 تعدّ معركة القلمون بسنواتها الثلاث أكثر المعارك في سوريا التي استنزفت الطاقة البشرية والسياسية للميليشيات الطائفية الشيعية التي يساندها النظام، والتي كلفت الميليشيات كثيرا في الفراغ وقلة المكاسب الإستراتيجية، ليتبين أن بعد سنوات من الاحتلال أن المنطقة عصية على التغيير الديمغرافي بفعل ديمغرافيا السكان الجبلية الشديدة، إلى جانب أنها منطقة مترامية الأطراف تحتاج إلى أكثر من جيش منظم للسيطرة عليها، مع حالة تذمر طائفي ضد الميليشيات الطائفية التي فضحت في المنطقة ذاتها على العموم، الأمور التي دفعت حزب الله إلى انتهاج سياسة استثمار الممكن والمعقول والذي يعدّ مكاسب بسيطة غير دائمة، تلخصت بإطلاق حزب الله يد شيعته في البقاع في الاستحواذ على الممتلكات والأراضي والمحاصيل الزراعية، والتأسيس لمزارع الحشيشة ومعامل الكبتاغون بعيدا عن أنظار الحكومة اللبنانية، وإنعاش خط التهريب المتبادل وخاصة تهريب الأشخاص المطلوبين وغيره لقاء أموال مجزية، كل ذلك في سبيل استمالة حاضنته الشيعية الفقيرة في البقاع، والتي دفعت فاتورة كبيرة في تأييدها له لسنوات، السياسة التي لن تدوم طويلا، سواء بسيطرته أو سيطرة النظام المشتركة على المنطقة، فالمنطقة -على العموم- تغلي من الحضور الإيراني الشيعي فيها.

خلفيات التحركات الأخيرة والتناغم الشيعي الإسرائيلي!

في الشق الأول: تطرقت بعض مراكز الأبحاث الإسرائيلية إلى قيام ميليشيات حزب الله بنشر أنظمة صاروخية دفاعية في بلدة "جبعدين" بالقرب من بلدة معلولا، وأكدت أن الجيش الإسرائيلي يتابع عن كثب هذه التحركات للتعامل معها. في الحقيقة توجد كتيبة دفاع جوي للجيش السوري سابقا في بلدة جبعدين تطل بشكل مباشر على البلدة والبلدات المجاورة كمعلولا وحوش عرب والسلسلة الشرقية والأوتوستراد الدولي، وسيطر عليها النظام بعد سنوات من تحريرها على يد كتائب الجيش السوري الحر، إن إعادة ملء هذه الكتيبة عسكريا وإستراتيجيا وتعرضها للقصف بعد ذلك، يعني تعرض آلاف المواطنين في البلدة إلى هجوم مباشر، فالكتيبة تقع عمليا داخل البلدة، ولا غرابة في ذلك فالقاصي والداني يعلم أن معظم قطعات الجيش السوري سابقا أُسست بين بيوت المدنيين ومصالحهم! هذه الرسائل الإسرائيلية المتعمدة تتحكم بمصالح أصدقائها الخراف الضالة والمنهكة كنظام أسد وميليشيا الحزب.

أما في الشق الثاني: قد تختلف الحقائق، فالحزب ومجموعاته الموالية ما زالت إلى اليوم تتعرض لعمليات مضادة تسفر عن خسائر، ناهيك من الخلاف الكبير بين تلك المجاميع اللبنانية والموالية لها من جانب، وأهالي بعض القرى والأمن العسكري من جانب آخر، الخلافات التي تشتعل سريعا وتتطور بشكل أسرع، ما دفع الميليشيات المحلية الموالية للنظام إلى اعتراض مصالح الحزب وأنصاره اللبنانيين في المنطقة، اعتراضا من تقاسم النفوذ والمكاسب ومن باب العداء المتجذر للوجود الحزبي، ولا يمكن الرهان على قدرة الحزب على محاربة الأهالي وميليشيات النظام في المنطقة، فالنظام قادر على استئصال وجود حزب الله بشكل خيالي وسريع، وهذا لم يقع في السنوات الماضية، فالنظام يتعمد إضعاف الأهالي بمقابل حزب الله، وأحداث عسال الورد – طفيل، خير دليل على ذلك.

إذن تقاس التحركات الأخيرة بهذه الجوانب الدقيقة التي ينتهجها نظام أسد والأهالي وحزب الله، بين ما يتلاقى من مصالح وما يتعارض منها، وهذا يعني أن الشهور القادمة تحمل نكبة أخرى للوجود الإيراني وطرق إمداد ميليشيا الحزب في لبنان، وتحمل أيضا ضعف مصالح النظام في المنطقة لصالح من تبقى من سكان المنطقة والمهجرين على حد سواء، فلا النظام يتورع عن السماح بتشغيل قاعدة جبعدين وتهديد حياة المدنيين، ولا الحزب يكفّ عن طموحه في تأمين خطوط إمداده الوحيدة إلى لبنان، ولا الأهالي سيتسامحون مع ذلك، فغداً يتحول حليف الحزب (النظام السوري) إلى عدو للحزب. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات