هذا ما علمتنا إياه تجربة سنوات الثورة الماضية، وعلى هذا الأساس يجب التعامل مع بيان الإخوان الأخير حول القصف الإسرائيلي الذي استهدف ميناء اللاذقية.
مخطأ من كان يعتقد أن الجماعة لم تتوقع مسبقاً ردود الفعل الغاضبة تجاه البيان، ومخطأ أكثر من ظن أن البيان كان ناتج رد فعل، بل هو موقف واع ومخطط له من قيادة الإخوان، وكانت صياغته الأولية قد أعدت منذ وقت غير قصير بانتظار اللحظة التي تكون مناسبة أكثر لاعتماده وإعلانه.
لقد مثلت عمليات القصف الإسرائيلية داخل الأراضي السورية هاجساً قوياً لطالما كان يضغط على الإخوان، على الأقل في السنوات الخمس الماضية، وتحديداً منذ إقرارهم الضمني بعدم إمكانية الانتصار على النظام، وتبنيهم (غير الرسمي كذلك) لمسار أستانا الذي ترعاه روسيا، بالشراكة مع كل من تركيا وإيران.
أولاً، يجب الاتفاق أنه ليس هناك من يشك بأن هذا المسار يهدف إلى الوصول لتقاسم السلطة مع النظام والشراكة معه في حكومة (وحدة وطنية) بدل إسقاطه كما تريد الثورة، وبدل القضاء على المعارضة كما يريد النظام.
ثانياً، وبناء على الأول، فإن ما يصبح بديهياً أن إقناع النظام (المنتصر) حتى الآن بفضل التدخل الخارجي إلى جانبه بالقبول بتقاسم الحكم مع من (هزمهم) يتطلب بالضرورة مواقف تؤكد جدارة هذا الشريك المحتمل بهذه الشراكة، وهل هناك ما هو (وطني) أكثر من إدانة القصف الإسرائيلي على (الوطن)؟
قد يبدو هذا الثمن غير مكلف أبداً، بل وسيعتبر في الحالات الطبيعية واجباً لا يقبل النقاش بالأصل، لكن في الحالة السورية لم يعد الأمر كذلك منذ وقت طويل، تحول فيه الوطن إلى مزرعة عائلية خاصة، وأصبح فيه الجيش عدواً قاتلاً للشعب، وباتت منشآت الدولة معتقلات للتعذيب حتى الموت، ومنصات لإطلاق الصواريخ ومرابض مدفعية تقصف منازل السكان، ومدارج طائرات تلاحقهم في الأسواق والطرق والمخيمات..
وعليه لم يعد استهداف المطارات والقواعد العسكرية والمنشآت التي يوظفها النظام وحليفته إيران في قتل الشعب وتدمير مقدراته يعني لهذا الشعب أمراً سيئاً، بل غدا حدثاً يُفرح الكثيرين، كيف لا وهو يسهم في إضعاف إمكانيات هذين العدوين ويقلص من قدراتهما على استخدام هذه القواعد والمنشآت في قتلهم؟!
لذلك كان معقداً جداً على الإخوان السوريين، طيلة السنوات الماضية، إصدار أي موقف في إدانة هذا القصف طالما أنه ظل يستهدف مواقع ومنشآت عسكرية، إلى أن جاءت الفرصة المنتظرة مع استهداف إسرائيل أخيراً لميناء اللاذقية، فكان لا بد من اقتناصها من قبل الجماعة لإخراج موقفهم هذا إلى العلن.
لقد رأى الإخوان أنهم بقدر ما سيكونون محرجين أمام جمهور المعارضة الشعبي، بقدر ما سيكون خصومهم ومنافسوهم من قوى المعارضة محرجين حيال أي موقف مضاد قد يعبرون عنه تجاه هذا البيان.. فمن الذي يمكن أن يقف ضد إدانة القصف الإسرائيلي على منشأة مدنية وطنية، ومن الذي يجرؤ من بين المعارضة السياسية على الإعلان صراحة أنه يؤيد العدو الصهيوني؟!
لا تكتفي الجماعة هنا بالأسلحة التقليدية التي لطالما شكلت سنداً قوياً لها في معارك العواطف وحشد التأييد والمناصرة، حيث تنافس التيار الإسلامي على الدوام مع الأنظمة التي ترفع شعارات القومية على كسب قلوب الجماهير، من خلال مزاودة كل منهما على الآخر في إظهار العداء للغرب وإسرائيل، بل وبالإضافة إلى ذلك، وتحت هذا الغطاء أيضاً، كانت تقدم أوراق الاعتماد إلى إيران من جديد، لوصل حبل الود القديم الذي إن لم يكن قد انقطع، فقد نَحُل وانكمش على مدار السنوات الماضية بالتأكيد.
لقد وضع إخوان سوريا كل بيضهم كما هو معروف في السلة التركية، التي بدت في وقت من الأوقات قريبة من أن تتسع لما هو أبعد من سوريا حتى، لكن بعد التدخل الروسي القوي إلى جانب النظام وإعادة تشكيل حدود النفوذ بين القوى والدول المتداخلة، كان على الجماعة أن تقرر في أي صف يجب أن يكون الوقوف عندما يتعلق الأمر بالتنافس بين موسكو وطهران.
بالطبع لا يحتاج هذا القرار إلى عناء كبير، فإيران هي الأقرب للإخوان كما هو معروف أيضاً، هذا سياسياً، أما فكرياً وإيديولوجياً فإن أي مفاضلة بين روسيا العلمانية-الأرثوذكسية، وبين إيران الإسلامية، حتى وإن كانت شيعية، ستكون لصالح إيران بالطبع، فكيف إذن وإيران شريك استراتيجي وحليف لتركيا التي لا يمكن أن تجمعها بالروس إلا علاقات التوجس والتنافس والعداء مهما تزينت هذه العلاقات أو خضعت لواقع لا يمكن أن يخضع للثبات؟!
كان الإخوان السوريون يتوقعون هذا المستوى من الغضب الشعبي والنقد الكبير الذي سيواجه به بيانهم الأخير الذي سعوا إلى أن يكون ذكياً بعباراته، حمّال أوجه في مضمونه، لكنهم كانوا يعرفون أن هذا الهجوم لن يطول به الوقت أكثر من أيام، بينما سيستقر حجرهم، أو هكذا يعتقدون، في العمق الذي يستهدفون أن يستقر به سياسياً ليكون لبنة أولى على طريق العودة إلى سوريا.
التعليقات (9)