زيادة لأجل مقارعة طواحين الهواء
الترويج لزيادة الأجور الذي تناقله الموالون المبتهجون بغير عقل، ولفّقه إعلام النظام المبتور عن سياق الواقع كان أكثر أهميةً من الزيادة الفعلية نفسها، والتي تراوحت بين 25 بالمئة إلى 30 بالمئة من قيمة رواتب وأجور العاملين في الدولة والمتقاعدين، أي أنها تراوحت بين 5 إلى 10 دولارات في أحسن تقدير. والتي جاءت بعد استرخاء طويل للنظام فوق قراراته المتلاحقة لرفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية، والمواد الغذائية الأساسية المدعومة سابقاً.
هذه الزيادة التي فاقت التوقعات بقيمتها، وتلك القرارات العبقرية التي تبرّأت من مشتملات الدعم الحكومي تعجّلان من انقراض الجنس السوري، باعتباره جنساً متفرداً على وجه الأرض لجهة حياده السياسي المُذّل، ومقدرته الفائقة على تبرير إصابته بجائحة الحياد تلك. إذ ليس مهماً ما خلُص إليه "معهد الشرق الأوسط للدراسات" مؤخراً بأن مجاعةً حقيقية تتربّص بسوريا، وأن ملايين السوريين سيرحلون مرغمين إلى حدود خط الفقر الأدنى بسبب الجفاف الشديد وانعدام الأمن الغذائي وانخفاض الدعم الإنساني الدولي المقدّم إلى سوريا حسب ما ذكرت الدراسة.
ولا يبدو النظام أحمقاً في مغالاته اتباع سياسة رفع الدعم الكلّي، فهو يعلم أن تبعات تلك السياسة على استفزاز سلوك اجتماعي مناهض له ستكون محصلتها صفراً، بعدما خدمته الثورة السورية في سنواتها الأولى، وفرزت له السوريين الثائرين من السوريين الخانعين، وحالياً هو يسيطر على بلاد خانعة، أغلب سكانها مستكينون عاجزون عن المبادرة بأي فعل سياسي حقيقي، عدا عن التقاطه إشارات واضحة بأن بقاءه مضمون، أي إنه مفوّضٌ من مراكز القوى الدولية باتباع ما شاء من سياسات داخلية شرط ألا تصل إلى حدود المجازر أو الأفعال المشينة إنسانياً والتي قد تحرج الإرادة الدولية الراعية لمكوثه خلافاً لأبسط اشتراطات المنطق السياسي وقواعده.
سياسة الارتباط العضوي باقتدار
تزامن تدشين التماثيل الأثرية لحافظ الأسد مع تخلّصه من صديقه ورفيق دربه صلاح جديد آخر مصادر القلق لديه، وذلك بإيوائه سجن المزّة مطلع السبعينيات، ولعل تلك التماثيل كانت تعبيراً سياسياً عن التفرّد النهائي بالحكم بلا منافسين محتملين، ثم وبانقضاء عقد الثمانينيات اطمأن النظام أكثر إلى تقويضه النهائي للحراك المجتمعي، والوصول إلى المجتمع الخامل سياسياً، فلا أحزاب حيّة، ولا نقابات، ولا منظمات قادرة على صياغة أي تحركات مطلبية تنكّد على نظام الحكم راحته.
وبعد تصفية الثورة بما مثلته من حراك وتحولات اجتماعية هامة الدلالة، استطاع النظام العودة الآمنة إلى المجتمع الخامل سياسياً حيث يستطيع أن يغفوَ باطمئنان جنينيّ، ومع ازدياد العزلة والقطيعة الدولية والعربية له، ولاحقاً إصابته بداء العقوبات الغربية وأهمها قانون قيصر، ارتأى النظام أن يُغرق معه مجتمعه الموالي، تلك الصورة المدججة بمفردات ربط المصائر بين الناس ونظام الحكم تجلّت على نحو سوريالي فاق إبداعات "سلفادور دالي" نفسه. أي إن النظام السياسي السوري اختطف المجتمع، وجعله رهينةً قابلة للتفاوض الدولي عليه، سواء من خلال ملف النازحين، أو من خلال الملف الاقتصادي المعيشي للناس المدفونين لديه، وهم أحياء، وكأن لسان حاله يقول: إما النجاة معاً (النظام ومجتمعه الموالي) أو الفناء معاً، وعلى العالم أن يقرر؟!
لم يسبق أن اختطف نظام سياسي شعبه كرهائن للتفاوض كما فعل النظام السوري، وهذا مكرٌ سياسي يحسب له، أما الأشد مكراً من ذاك، فهو التواطؤ الدولي على قبول معادلة الأمر الواقع في سوريا بصورتها المعلولة تلك، إذ يعلم القابضون في مراكز النفوذ الدولي على مصير النظام السوري حجمَ الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي يربيها السوريون بينهم، ويحرصون على تسمينها بصورة يومية، سواء كانوا في الشتات نازحين أم كانوا في الداخل مواطنين فقدوا أحساسهم بالانتماء، واكتفوا بإحصاء أوجاعهم في دهاليز جوعهم وبردهم الدائمين، ومع ذلك نجد أن المجتمع الدولي المعني بالملف السوري لا يتردد في إطالة أمد الكارثة السورية، ومعها يُطيل زمن بقاء هذا النظام، وكأنه أيضاً يقبل معادلة الاختطاف من كل زواياها، أو ربما يكون قد شجع النظام على اعتمادها، وهذا ليس غريباً، فالضمير الدولي مُحتضر، وضمير النظام السوري دائماً مستتر.
التعليقات (4)