صراع الحكومة المؤقتة والمجالس المحلية بوابة لأزمة التعليم في الشمال السوري

صراع الحكومة المؤقتة والمجالس المحلية بوابة لأزمة التعليم في الشمال السوري
في ربيع عام 2017، وبعد انتهاء عملية "درع الفرات" التي سيطر  فيها "الجيش الوطني" والقوات التركية على مناطق واسعة في ريف حلب الشرقي، كانت خاضعة لتنظيم "داعش" ووحدات الحماية الشعبية YPJ ، تم تشكيل مجالس محلية (بلدية) في المدن والبلدات والقرى التي خرجت عن سيطرة التنظيمين.

شملت منطقة عمليات "درع الفرات" مدينتين من كبرى مدن ريف حلب، هما الباب وجرابلس.

ومع بسط قوات المعارضة سيطرتها على هاتين المدينتين، اللتين انضمّتا لـ"إعزاز" أصبح لدى المعارضة هناك ثلاث مدن، لتتضاعف المساحة التي كانت تخضع إدارياً وخدمياً للحكومة السورية المؤقتة ومجلس محافظة حلب، لكن سلطة هاتين المؤسستين ظلت رمزية بعد ذلك في أغلب المنطقة، التي شملت كذلك ست بلدات كبيرة و 26 قرية وبلدية، تمتد من أقصى ريف جرابلس والباب الشرقيين حتى ريف حلب الغربي، الذي خرج لاحقاً عن سيطرة "الوطني" و"المؤقتة" لصالح هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ.

علاقة رمزية

يروي مسؤول سابق في مجلس محافظة حلب الحرة لـ"أورينت نت" أنه عندما تم تحرير مدينة عفرين في إطار عملية "غصن الزيتون" عام 2018، طُلب من مجلس المحافظة الإشراف على انتخابات مجلس المدينة "لكن عندما توجهنا إلى هناك وجدنا أن كل شيء كان مجهزاً، وأن المطلوب منا عملية إخراج قانونية لهذا التشكيل، وهو ما حصل".

ويضيف: "في الواقع هذا ما سارت عليه الأمور منذ عملية درع الفرات، حيث أخذ الجانب التركي على عاتقه وبشكل كامل تقريباً، وإن كان تدريجياً، عملية الإشراف على تشكيل أو انتخاب المجالس المحلية بريف حلب المحرر، بينما ظلت سلطة مجلس المحافظة رمزية، باستثناء مجلسين أو ثلاثة حافظت على رابط العلاقة بشكل أقوى معه، ولكن بمبادرة وليس بإلزام.

ويتابع المسؤول السابق الذي طلب عدم الكشف عن اسمه: "هذا هو الواقع الذي يعلمه الجميع، والأمر ليس مخفياً حتى على المواطن العادي، لكن إعلامياً كان هناك تَماهٍ بين الطرفين، المجالس المحلية من جهة، والحكومة المؤقتة ومجلس المحافظة من جهة أخرى، على أن تكون الصورة في العلن مختلفة، وأن تظهر العلاقة بين الجهتين طبيعية، إلى أن بات هذا الأمر غير ممكن في النهاية، وذلك مع جنوح معظم هذه المجالس إلى ممارسة استقلالية تامة عنهما.

العلاقة بين المجالس والولايات التركية

الأمر ذاته ينطبق على التجربة مع مجلسي مدينة تل أبيض ورأس العين، اللتين تمت السيطرة عليهما في عملية "نبع السلام" التي جرت عام 2019.

يقول مسؤول في الحكومة المؤقتة، طلب أيضاً عدم التصريح باسمه: "إن السبب الرئيسي في ما جرى هو تجربة الجانب التركي مع الحكومات السابقة، بالإضافة لأسباب موضوعية أخرى".

ويضيف في حديث لـ"أورينت": "تتصرف المجالس المحلية بشكل مستقل عن الحكومة المؤقتة ووزاراتها في مختلف القطاعات .. ليس هذا فقط، بل بات كل مجلس مستقل أيضاً في المنطقة الإدارية التي تتبع له، وليس هناك أي رابط رسمي عملياً بينه وبين المجالس الأخرى..بمعنى أن كل مجلس بات دولة بحد ذاته تقريباً.

ويكشف المصدر أن كل مكتب في أي مجلس محلي مسؤول عن ملف من الملفات الخدمية، وهذا المكتب بات بمثابة وزارة. فمكتب التعليم يعتبر عملياً وزارة تعليم، ومكتب الخدمات هو وزارة للخدمات، وهذا ما ينطبق على المكتب الصحي ومكتب القضاء والمكتب الأمني..الخ.

وعليه، فقد أصبح المواطن السوري الحاصل على رخصة مزاولة أي مهنة من قبل مجلس محلي ما، يواجه عدم القدرة على الاستفادة من هذه الرخصة في منطقة أخرى يديرها مجلس محلي آخر، وباتت أسئلة الامتحانات المعتمدة من قبل هذا المجلس ليست نفسها المعتمدة من قبل الآخر، وأمسى الحكم القضائي الصادر في مدينةٍ ما، غير سارٍ بالضرورة في مدينة ثانية .. وهكذا دواليك، إلا إذا جرت المراسلة بين هذه المجالس وأقر كل منهما بما هو صادر عن الآخر، ولكن على أساس كل حالة بحالتها، وليس بشكل آلي أو ملزم من حيث المبدأ.

وكأننا أمام دول مستقلة تتعامل كل منها مع الأخرى على قاعدة "المعاملة بالمثل!!" اللهم باستثناء إذا ما كان المجلسان يقعان في منطقة إشراف ولاية تركية واحدة، فإن الوضع يكون أكثر سلاسة والتنسيق بينهما يكون متقدماً، حيث تتقاسم أربع ولايات تركية الإشراف على المجالس المحلية في مناطق الجيش الوطني.

وحسب القرب الجغرافي تم إلحاق عمل هذه المجالس بالولاية التركية الأقرب، فأصبحت ولاية كيليس مشرفة على مجلس إعزاز وأخترين ومارع وصوران وعدد آخر من بلدات المنطقة كاحتيملات وكفرة وغيرها، وولاية عنتاب على مجالس الباب وجرابلس وما بينهما من مجالس فرعية مثل بزاعة والغندورة، وولاية أورفا تشرف على مجلسي تل أبيض ورأس العين، بينما تتبع عفرين ومجالس ريفها، كجنديرس وكفر جنة وشيخ حديد لولاية هاتاي.

إلا أن رئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى يعترض على هذا التوصيف، و يقول: "إنّ المجالس المحلية تتبع للحكومة السورية المؤقتة وتستمد الشرعية منها، وهي تنفّذ السياسة العامة لهذه الحكومة المشرفة على عمل تلك المجالس وفق النظام الداخلي للمجالس المحلية، إلا أنّنا نتبع نظام اللامركزية الإدارية نظراً لطبيعة وظروف كل منطقة وكل مجلس".

ويضيف في حديثه لـ"أورينت" حول هذا الملف: "مع ذلك لا يمكن القول إننا وصلنا إلى حد الكمال أو المستوى المأمول في أن تكون الإدارة المدنية في هذه المناطق على أعلى مستوى من النموذجية، لكن لدينا نموذج مشرّف رغم أنّنا نواجه تحدّيات أمنية تتمثل بتهديدات وعمليات نظام الأسد وميليشيا قسد الإرهابية على حدود مناطقنا المحررة".

الأسباب الموضوعية

لكن التهديد الأمني ليس العامل الوحيد الذي يمكن رد هذا الواقع إليه، فهناك العديد من الأسباب التي اتفق معظم من تواصلت معهم "أورينت" من الخبراء والعاملين في المجالس أو الحكومة المؤقتة، سواء حالياً أو في السابق، على أنها أدت إلى هذا الواقع، وأهمها:

أولاً- افتقاد الحكومة المؤقتة لعوامل القوة: لم يعد للحكومة أي أدوات أو وسائل ضغط قوية يمكن أن تجعل المجالس المحلية، أو غيرها من المؤسسات الرسمية، في مناطق سيطرة الجيش الوطني، تضطر إلى الخضوع لها أو الاعتراف بسلطتها.

فالمصدر الرئيسي لميزانية هذه المناطق هو من عائدات المعابر التجارية، حيث تُخصّص نسبة خمسة بالمئة من هذه العائدات للمجالس، وتصرف تحت إشراف الجانب التركي لصالح حسابات المجالس المحلية بشكل مباشر دون المرور بالحكومة المؤقتة، بالإضافة إلى مصدر تمويل آخر محلي هو الرسوم والضرائب التي يفرضها ويحصّلها كل مجلس، ومصدر آخر خارجي هو أموال المشاريع التنموية الممولة من المنظمات والدول الغربية ومن الأمم المتحدة.

ثانياً- تقلّص الحاجة إلى الغطاء الشرعي الذي توفّره الحكومة ومجلس المحافظة: بعد خسارة سلاح "المال" الذي يعتبر أهم العوامل التي تحافظ على مكانة المؤسسة وقيمتها الاعتبارية والمادية، ومع إلحاق كل مجلس من المجالس المحلية بولاية تركية تشرف على عمله، تقلّصت وربما انتفت الحاجة إلى الغطاء الشرعي والقانوني الذي كان يمثل آخر وأهم قلاع الحكومة ومجلس المحافظة.

ربما آخر مرة لجأ فيها أحد المجالس المحلية إلى الحكومة ومجلس المحافظة من أجل هذه الشرعية كانت عام 2019، عندما حصل خلاف بين الفعاليات الأهلية في مدينة إعزاز حول انتهاء ولاية المجلس في ذلك الوقت، ومن بعدها لم تعد تجري أي انتخابات لاختيار أعضاء المجالس إلا في ثلاث بلديات تتمسك بالمحددات الثورية، فتُجري انتخابات تحت إشراف الحكومة والمجلس دون أن يكون ذلك ملزماً لها، وهذه البلديات هي مارع بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى بلدة الغندورة التي ينتمي إليها رئيس الحكومة المؤقتة ويريد القائمون على إدارتها تعزيز موقف ابن بلدتهم، وأخترين التي اقيمت فيها انتخابات المجلس المحلي يوم الجمعة الماضي.

ثالثاً-غياب سلطة المحاسبة: مع خسارة سلاح التمويل وتراجع الحاجة إليهما كغطاء قانوني وسياسي، لم يعد لدى الحكومة المؤقتة أو مجلس المحافظة أي قدرة على المحاسبة أو على مساءلة هذه المجالس، التي بدورها لم تعد تحتاج هاتين المؤسستين بشيء، وبالتالي لم يعد هناك ما يجبرها على مواصلة الخضوع لهما.

وعليه، يتفق المصدران في الحكومة المؤقتة ومجلس المحافظة، على أن المجالس المحلية في مناطق (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام) لم يعد لديها أي حافز أو سبب منطقي يجعلها تتمسك بالعلاقة مع الحكومة والمجلس، اللهم إلا الحافز الثوري الذي ما زال معتبراً عند القائمين على عدد محدود من هذه المجالس.

رابعاً- العجز وافتقاد المبادرة: رغم المواجهة الشرسة التي خاضها رئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى مع الائتلاف الوطني، خلال فترة رئاسة نصر الحريري للائتلاف، من أجل احترام مكانة الحكومة وإعادة الاعتبار لها كسلطة تنفيذية، إلا أن هذه الإرادة فيما يتعلق باستعادة الصلاحيات المفقودة بمواجهة تغول المجالس المحلية لم تكن ظاهرة. 

ورغم تفهُّم الجميع أن المواجهة مختلفة بسبب وجود طرف يستقوي بالجانب التركي، الذي يبدو من جانبه أنه مرتاح له ولهذا الواقع بالفعل، إلا أن الكثيرين يرون أن القائمين على الحكومة المؤقتة ومجلس المحافظة لا يمتلكون الجرأة والمبادرة اللازمة لاستعادة مكانة المؤسستين بسبب وجود الطرف التركي في هذه المعادلة.

ليس مبرراً

لكن هل هذا يعتبر مبرراً كافياً من أجل أن تعمل أي جهة على إلغاء دور الحكومة المؤقتة على النحو الذي يحصل في مناطق سيطرة الجيش الوطني؟

سؤال يجيب عنه محمد حاج حمدان رئيس المجلس المحلي لمدينة إعزاز، بالتأكيد على عدم تبرير ذلك، ويقول: "يوجد رغبة كبيرة بإنجاح عمل الحكومة المؤقتة، وهذه رغبة كل الثوار، ونحن نعتقد أن وجود الحكومة يعتبر صمام أمان حتى ولو كانت ضعيفة، ونحن نسدد ونقارب ونتعاون مع الإخوة الأتراك بما يعود بالخير على أهلنا، لأننا نحتاج إلى تعاون الجميع".

ويضيف في تصريحات لـ"أورينت": "نحاول أن تأخذ الحكومة المؤقتة دورها، ولكن المانع الذي يحول دون ذلك سياسي-دولي .. أقصد أنه لا يوجد إرادة لدى المجتمع الدولي بتفعيل دور الحكومة المؤقتة، وهذا يظهر جلياً من خلال السعي الحثيث لإعادة تعويم النظام".

الاعتقاد بأن ما يحول دون تمكين الحكومة المؤقتة في المناطق المحررة هو "عدم توفر إرادة سياسية دولية" لا يقتصر على رئيس مجلس إعزاز المحلي، بل إن عدداً غير قليل من المختصّين في هذا النوع من المؤسسات يعتقدون أن المجتمع الدولي منقسم، بين رافض تماماً لوجود سلطات أخرى غير سلطة النظام على الأراضي السورية من حيث المبدأ، وقسم يعتقد أن وجود مثل هذه السلطات يهدد وحدة سوريا.

ولذلك، يرى أصحاب هذه النظرية، أن داعمي المعارضة يفضّلون مساندة المناطق الخاضعة لها من خلال المجالس المحلية التي لا تعتبر في النهاية مشروع انفصال أو تقسيم، وهو ما فهمته جيداً قيادات هذه المجالس ، وبدأت تتصرف على أساس ذلك، إلى الحد الذي دفعها غالبيتها للذهاب في استقلاليتها عن الحكومة ومجلس المحافظة حد إجراء امتحانات الشهادة المتوسطة والثانوية بأسئلة مستقلة، ومنح شهادات صادرة عنها وليس عن وزارة التربية في الحكومة المؤقتة، الأمر الذي وضع ملف التعليم في هذه المناطق على رأس ضحايا هذه العلاقة غير الطبيعية بين هذه المؤسسات، وهو ما سيكون محور نقاش الجزء الثاني من هذا التحقيق.

يتبع...

التعليقات (1)

    أبو أحمد

    ·منذ سنتين 4 أشهر
    ما سبب الكتابة باللغة التركية على لوحة المجلس المحلي مثلاً, طالما أن هذا المجلس ضمن الأراضي السورية المحررة ومراجعيه حصراً من السوريين في هذه المنطقة؟
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات