حين لا نجد صلاح عطية بين لصوص "سيريتيل"

حين لا نجد صلاح عطية بين لصوص "سيريتيل"
واحدة من التحولات الدراميّة التي استلقت داخل مخيلة رامي مخلوف كانت تقمّصه شخصية الزاهد الواعظ، بل والمتنبئ بما ستؤول إليه العروض المسرحية التي يقدمها نظامه لإذلال من تبقى من السوريين العالقين داخل سياجه، وذلك بعدما حرمه رأس النظام من إدارة الشركة الأكثر نهباً وربحية في البلاد "سيريتيل" والتي تسيل أرباحها بلا انقطاع إلى جيوب الأسرة الحاكمة، وقد بلغت خلال خمسة الأشهر الأولى من العام الحالي حوالي 145 مليار ليرة، إثر زيادة أجور الاتصالات الخلوية وباقات الإنترنت إلى حوالي الضعف، في وقت يطمئننا فيه "مارتن غريفيث" وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بأن نسبة السوريين الذين باتوا يتخبطون تحت خط الفقر صارت تفوق 90 بالمئة من إجمالي عدد سكان البلاد، ومع هذا فالنظام لا يأبه لكونه سفك دم تلك النسبة، ولا حتى بزيادتها الرقميّة عن ذاك الحدّ الكارثي، إذ يعلم من خلال أدوات قياسه المجتمعيّة بأنه أنجز خلال السنوات الماضية فرزاً نهائياً بين من ثار عليه، وجُلّهم من الأكثرية السنّية، وبين الأقليات الأثنيّة التي ارتضت الخنوع لسلطته، وأنه من الصعب خلخلة مآلات ذاك الفرز، الأمر الذي يجعل النظام مختالاً، متمسّكاً بسياسة الإذلال، والاستمرار باحتلال المجتمع وحصاره.  

 

البحث عن صلاح عطية

صنّع النظام بمكر بعد العام 2011 فئةً طفيلية، وجعلها تمسك ببعض السلطة بحسب أهميتها، ودرجة قربها من أعلى هرم السلطة، لتكون هذه الفئة شريكاً قائماً ما دامت هذه السلطة قائمة، وما دامت حياة الذل للسوريين قائمةً هي الأخرى، فثمّة سمات مشتركة تبضّعتها الفئة الطفيلية من صانعيها مباشرة، كاللصوصية، والفساد، والاستهتار بالشأن العام، والاستعلاء على المجتمع باعتباره سوقاً سلعياً مباحاً للبيع والشراء في كل وقت، ونجدها وقد توزّعت مكوّناتها في المناصب العامة، وعلى الحواجز بين المدن والمحافظات، وكتشكيلات مسلحة رديفة لعمل الأجهزة الأمنية. ومع مصادقة المجتمع بصمته على تنامي نفوذ هذه الفئة، تمَّ ركل الشأن العام من حسابات السلطة إلى الدرك الأسفل لاهتماماتها، فازدهرت الأسواق السوداء، وأصبح اقتصاد الظل هو الاقتصاد السائد، لا اقتصادَ الدولة، وازدهرت معه تجارة المخدِّرات وتعاطيها، وتوسّمت الجرائم ومرتكبوها الخير بذلك، فازدهرت أيضاً بصنوفها المختلفة خاصةً في أماكن سكن الأقليات، وصارت الأخلاق بمفهومها الاجتماعي الإيجابي عملةً قليلة التداول، وصار البحث عن نموذج سوري يشابه نموذج صلاح عطية شأناً بالغ الصعوبة، ذاك المهندس الزراعي المصري الذي صار حالةً اجتماعية متقدمة في فعل الخير والتكافل المجتمعي، وهو ابن الأسرة الفقيرة الذي حصد محبةً واسعة، وكانت جنازته عام 2016 واحدةً من أكبر الجنازات في مصر، تلك الشخصية الشعبية الفذّة البعيدة عن الإعلام والعمل السياسي استطاعت أن تبدّل سمات الوجه الفقير لمنطقتها بلا أي معونة من الدولة المصرية، بتمكين العمل الإنتاجي والخيري والتعليمي على السواء. وكم يحتاج السوريون مثل هذا المنهج الإيثاري لصلاح عطية، وهم المحاصرون بتسلّط من يحكم، وبمنظومته السلوكية الهادفة إلى تسويق قانون الغاب، واعتباره القانون السائد الناظم للحياة في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري.

"سيريتيل" الشركة الناهبة لجيوب السوريين، وأحد أهم مصادر كسب الأسرة الحاكمة، تستفيض بأرقام ربحها عاماً بعد عام وفق معطيات رسمية تبرّع بتقديمها "سوق دمشق للأوراق المالية" وأظهر أن صافي أرباح الشركة خلال الأشهر التسعة من العام الماضي ازداد أكثر من 39 مليار ليرة سورية مقارنةً بالفترة ذاتها من العام 2019، أي بزيادة تقدر بنحو 80 بالمئة. كما بلغ صافي إيرادات الشركة منذ مطلع عام 2020، وحتى نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، أكثر من 200 مليار ليرة، مقارنةً بنحو 164 مليار ليرة خلال الفترة ذاتها من العام 2019.

إضاءة شحيحة تُفسد مذاق العتمة

كلُّ الشخصيات السياسية التي أنجبها انقلاب البعث وما تلاه مقيتةٌ ودمويّة، تكادُ لا تذكر مهما توسّلت ذاكرةَ الناس، خلافاً لأخلاق الطبقة السياسية التي عرفتها سوريا قبل الاستقلال وبعده، ولعلّ من المناسب هنا تذكّر معمل الكونسيروة الذي أسسه الرئيس الراحل شكري القوتلي عام 1932 بهدف تمويل نشاط الكتلة الوطنية آنذاك، ودفع رواتب شهرية لعائلات المعتقلين والجرحى.    

 

كما يمكن التوقّف مليّاً عند الذي كتبه الباحث جوزيف زيتون عن البطريرك غريغوريوس حداد، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، المولود في دمشق عام 1869 بأنه كان مرجعاً للفقراء والمعوزين والمنكوبين، ودائم الطواف مع عدد من رجال الكنيسة في الأزقة والحارات ليقف بنفسه على حاجات الفقراء، وكان في كثير من الأحيان يحضرهم إلى دار البطريركية والمدرسة التي تقابلها، ويعتني بإعالتهم، وكثيراً ما كان يُطعمهم بيده غير ناظر إلى مِلَلهم، مستديناً المال في سبيل ذلك. كما ذكر المؤرِّخ محمد كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي الأول كيف رهن البطريرك غريغوريوس حداد أيام  مجاعة "السفر برلك" بين عامي 1914 و1918  أوقاف البطريركية والأديرة كلها، وباع مقتنيات الكنائس، وأوانيها الذهبية والفضية التي تحكي تراث البطريركية الروحي. حتى إنه رهن صليبه الماسي الذي كان يضعه على قلنسوته مقابل ألف ليرة عثمانية، والذي كان قيصر روسيا نقولا الثاني قد أهداه له عام 1913، وعندما لاحظ أحد أغنياء المسلمين ذلك قام بفك رهنه، وأعاده إلى البطريرك الذي عاد وباعه من جديد، واقتنى بديلاً زجاجياً عنه، وعند وفاته عن عمر قارب التسعين عاماً، شارك خمسون ألف مسلم في جنازته، وكانوا يسمّونه: "محمد غريغوريوس" و"أبا الفقراء والمسلمين".    

مؤخراً، وقبل أربعة أعوام وصل الطبيب السوري إحسان عز الدين الذي تعود أصوله إلى الطائفة الدرزية، والمقيم في مدينة جرمانا بدمشق إلى القائمة القصيرة لجائزة "نانسن للاجئ" والتي تقدمها مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين وتضم خمسة مرشحين. الجائزة حينها ذهبت إلى المحامي النيجيري "زانا مصطفى" لجهوده في الإفراج عن طالبات "تشيبوك" اللواتي اختطفهن تنظيم "بوكو حرام" عام 2014. يُعرف عز الدين بطبيب الفقراء والنازحين، إذ لا يزال يتقاضى أجور معاينة رمزية، وأحياناً يزوّد مرضاه بأدوية مجانيّة، وكان قد أسس عام 2003 "جمعية جرمانا الخيرية" بهدف الوقوف على احتياجات الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، ثم تطور مشروعه، فأهّل عام 2016 حوالي 150 سيدةً في مجال خياطة وإنتاج ملابس الأطفال، بحيث يتم توزيع ثُلث الملابس المنتجة على الفقراء، والباقي يباع في السوق المحلية.

لكن، وبالمقابل ما زال بمقدور الشيخ رامي مخلوف إدهاشنا بالحديث عن "خطة شيطانية" يتم من خلالها سحب أرصدة المشتركين من خلال باقات مسبقة الدفع، ويصفها بأنها "طريقة لسرقة أموال الشعب؟؟!! ولا أحد يستطيع الحديث عنها، أو كشفها إلا الخبراء؟!" ومن الخبير غيره بفنون سرقة أموال الشعب السوري؟!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات