إشكالية الحقوق والحريات: ضياع بين استثمارات السياسة ومسؤولياتها

إشكالية الحقوق والحريات: ضياع بين استثمارات السياسة ومسؤولياتها
يصعب في وقت حساس كهذا يعصف بالمنطقة، توضيح الاختلافات الجوهرية في بنية مسائل القانون الدولي، وخصوصا تلك التي تعارفت طبقات المجتمع كافة على فهمها بأسلوب بدائي غير موافق لبنية وطبيعة القوانين دوليا في الجوهر.  

ومع توسع حالة التضارب بين القوانين الداخلية للدول والقانون الدولي بكل فروعه، فإن الكثير من مسائل الخلاف في بنية المجتمعات العربية وخاصة في بلدان الثورات حول قضايا حقوق الإنسان والتوجهات السياسية المتضاربة، تؤدي دورها في هدر الحق الإنساني، وتلعب لعبتها في إشاعة أجواء  سلبية تنقل هذه القضايا من أوساط النقاش والحوار إلى القضاء المحلي للدول التي تستضيف المجتمعات العربية اللاجئة، إلى القانون الدولي العام وما يكتنفه من إشكاليات غير موضحة جيداً.

حرية الرأي وحق التعبير

هي حق إنساني ورد مادة أصيلة في العهود والمواثيق الدولية، كما يرد حقا أصيلا في القوانين الداخلية للدول، ولكن جرى عرف العامة على فهم الرأي والتعبير على أنهما متلازمتان لغويتان واصطلاحيتان، بالتالي انعدم أي فارق قانوني وإجرائي في كيفية تعرض المجتمعات اللاجئة للقوانين الداخلية للدول المضيفة، والقوانين الدولية التي تمارس دورا رقابيا على سلطات الداخل المضيف.

لا بد من توضيح أن الحق في الرأي يختلف تماما عن الحق في التعبير، فالتوجه العقائدي والفكري والسياسي واعتناق النظريات والأفكار على اختلافها، يعد حقا في الرأي بصورة أقل، بينما يعد التدخل في صناعة هذا الآراء وإلزامها المجتمع والناس انتهاكا صارخا للحق في الرأي بصورة أدق وأعم، فالحق في الرأي: حق الإنسان أن يتلقى آراء طبيعية نقية من التوجهات والصناعات المختلفة، ليبني على أساس حيادية الحق، حقه في تبني الآراء والإيمان بها، فتمام الحق في الرأي وسلامته من الشوائب، يوصل بصورة حقيقية إلى تمكن الفرد من حقه في التعبير عن رأيه، فيكون تمام الحق في التعبير صورة عن الحق في الرأي، والعكس صحيح، فلا حق في التعبير ما لم تتوفر شروط الحق في الرأي، لذلك يعد الحق في التعبير عن الآراء غير المتبناة، سيفاً ذا حدين: حق التعبير عن آراء الغير ومناقشتها، واللبس الذي ينشأ من استغلال جزئية الحق هذا في قولبة الآراء والتدخل في صناعتها بصورة تمثل انتهاكا صارخا غير واضح، يمارس عن قصد وغير قصد من قبل مؤسسات وكيانات يفترض فيها حيادها الإيجابي، كمؤسسات الإعلام التي تتعلق بها وبحق الرأي والتعبير جملة من الحقوق أبرزها حرية الصحافة والعمل الإعلامي.

حرية الصحافة: ضمنية مُغفلة!

في الحقيقة لا يوجد ما ينص صراحة، لفظة مباشرة على وجود حق حرية الصحافة في العهود والمواثيق الدولية، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ تتعلق كل التشريعات الدولية والمحلية فيما يتعلق بالصحافة بمبدأ “حماية الصحفيين وضوابط العمل الصحفي وغيره" لكن الإعلان نفسه في المادة 19 والمواثيق والمعاهدات المختلفة التي تمثل بنية القانون الدولي العام، أشارت بشكل ضمني مباشر إلى هذا الحق، بوصفه إما وسيلة لصنع الرأي العام والآراء الجديدة، أو للتعبير عن الرأي المتبنى.

استقاء الخبر وتلقيه ونشره، يتركز بشكل رئيس من خلال الصحافة وأنواعها المعتبرة، ولا شك أن الإشكالية الأم تنبع من الصحافة وآليات ممارستها، وليس من الرأي أو التعبير بوصفه حالة إنسانية، وخاصة مع التحول الرقمي والسياسي الهائل في العالم المعاصر الذي أوجد جماعات الضغط التي تشكل الصحافة فيها ركنا رئيسا بعيدا كل البعد عن شروط وضوابط العمل الصحفي، ووسائل التواصل الاجتماعي فيما باتت تشكله من ظاهرة خطرة على الصحافة وبالتالي حرية الرأي والتعبير، وهو ما يعرف بنظرية "انهيار السياق" التي تبدأ برأي وتعبير لفرد على وسائل التواصل، وتنتهي بتلقي آلاف بل ملايين الناس لهذا الرأي الفردي، بتفسير غير التفسير الذي طرح من أجله الفرد هذا الرأي.. فيشكل الملايين من الناس توجهاتهم ونظرتهم للقضية وفق معطى ذهنهم الجمعي، بعيداً عن أي حقيقة أو رأي مخالف يمثل لقائله حقا إنسانيا مكفولا، أو بالأحرى، بعيداً عن القصد والتوجه الذي عبّر صاحب الرأي عن رأيه لأجله!

وهذا في الغالب، ما يجعل الإعلام حراً أو أداة، مساحة آمنة أو سبيلا للضغط وتكوين الآراء (العبث بها)، ولعل القيمة الليبرالية توجه الفرد الصحفي ليكون محور النشاط الموضوعي، بعيداً عن الجماعة التي يمثلها أو ينتمي إليها، وذلك في جانب التمييز بين حق الفرد والحق في عدم اتهام المكون.

هاتان المشكلتان اللتان تعصفان بالمجتمع العربي الصحفي (الحياد السلبي لتمرير استراتيجيات غير أخلاقية، وحق الدفاع الذي تمارسه المؤسسات الإعلامية بعيداً ضوابط الحياد الإيجابي)، يجعل الصحافة محل اتهام، والصحفيين محل تجاذبات سياسية وأحكام قضائية متأثرة بفاعلية الحدث -الذي يصدر عن صحفي- في نظر المجتمعات العامة.

قضية الصحفي ماجد شمعة.. دروس وعبر!

بدأت قضية الصحفي في مؤسسة أورينت "ماجد شمعة"، باستغلال ثغرة قانونية من قبل فئات تركية سياسية، على خلفية تحامل غير أخلاقي من شبكات إعلامية ولوبيات ثقافية سورية موجودة في تركيا، متعلقة بسياسة مؤسسة أورينت التي تلتزم حيادا إيجابيا في استراتيجيتها الموجهة لنقل معالم الحدث السوري (تسليط الضوء على تحالف الأقليات – وترويض التوحش العلماني السوري المعارض)، لتكتمل أركان الحادثة باتهام المعارضة التركية ومن خلفها شبكة من العلاقات المتضاربة مع الأمن القومي التركي، للصحفي ماجد شمعة على إثر حادثة الموز التي تخلو تماما من أي جرم مادي، ليعتقل إداريا ومن ثم يعرض على القضاء الذي قضى بإبطال التهم الموجهة إلى الصحفي ماجد شمعة.

لكن رحلة التجاذبات التي توضح الثغرة المحتملة في القضايا القادمة المشابهة، تبدأ ها هنا، وهي أن النظام الإداري المحلي التركي يتمتع ببنية عميقة غير مركزية تساعده على اتخاذ إجراءات مخالفة للدستور أو القانون الدولي – ولو إلى حين -  ومبررة بمنطق الموالاة والمعارضة ولو على أبواب معركة انتخابية قادمة.. فسيادة النظام الرئاسي الجديد في تركيا ليست شمولية ولا مطلقة ولن تكون مركزية في القادم القريب، لأسباب كثيرة، منها أن السمو السياسي الذي يتمتع به الأفراد والجماعات اللاجئة في تركيا، وليد رغبات النظام السياسي القائم وصراعه مع المعارضة، وليس وليد التشريعات الداخلية العميقة، بالتالي أي إخلال بالنظام القائم سيولد مهالك قانونية للمجتمعات اللاجئة في تركيا، لتظهر للعيان مسألة الضعف البنيوي للكيانات السورية في تركيا، إذا لا تستطيع هذه الكيانات التوجه بسياسة قانونية لإنقاذ الأفراد المحتمل وقوعهم في قضايا إشكالية، كهذا، حتى لو جاء هذا بالتوازي مع تضامن العديد من المنظمات الدولية وأبرزها منظمة العفو الدولية.

المفارقة أن المنظمة ذاتها ستتضامن مع الدكتور "محمد أيمن الجمال" -(إذ يقع في استراتيجية وشروح العفو الدولية الدفاع عن الأفراد في حقهم في تبني الرأي والتعبير عنه.. حتى وإن كان هذا الرأي مسيئا إلى آخرين.. فالمنظمة الدولية غير الناشئة عن مؤسسات الأمم المتحدة، والتي جرى العرف الدولي على كونها منظمة فاعلة لنشاطها وكثافة أنشطتها، تفسر ضابط الحق نفسه بخلاف الرأي الآخر الذي يتبنى ضوابط أقل ما تكون أخلاقية.. وهي مسألة خلافية دولية في القانون العام)- في حقه في إبداء رأيه والتعبير عنه ومواجهة الضغوط التي مورست عليه بدافع غير أخلاقي من فئات داخل المجلس الإسلامي معروفة التوجه، أو مسيّرة التوجه بضغط من جماعات ثقافية علمانية سورية بعيدا عن مسلمات الدين الإسلامي والتوجه السياسي التي ربما ينطلق منها. للفرد حق التوجه الذي يريد، ولأن مسؤوليات الفرد مرتبطة بالجماعة، كان يجب على الدكتور "الجمال" ممارسة حقه "امتناعا"، بالتريث في إبداء الرأي في ظل ظرف قانوني قد يرتد سلبا على قضية الصحفي ماجد شمعة، من خلال الاستثمارات المختلفة المعروفة الغايات.

هذه التفاصيل تتراكم بشكل خطر وتعود سلبا على الصحفيين وحقهم بالمحاكمة العادلة وعدم الترحيل القسري واختيار الوجهة حال ثبات القضاء على قرار ترحيله، فكما نعلم أن السلطات التركية تعاني منذ سنوات من تضارب مصالح مع القوى الكبرى التي تستثمر في المنظمات الدولية لتحقيق مصالحها والضغط على سلطات معينة على خلفيات قضايا حقوقية.

لذا أقول: كان خطأ كبيرا الاستثمار السلبي والإيجابي في قضية الصحفي ماجد شمعة على صعيد:

• الصمت المروع الذي انتهجته جميع المؤسسات السورية الإعلامية الموجودة في تركيا (تفاعل إيجابي) التي لا تسرها استراتيجية مؤسسة أورينت، فسخرت القضية لممارسة كيد مدبر، متجاهلة أثر ذلك على سلامة الصحفي ماجد شمعة، إذ لو مررت بدعة ترحيل الصحفيين السوريين في تركيا، فسيكونون أول من يكتوي بنار القرارات تلك.

• التفاعل السلبي: والذي مارسته بعض المؤسسات، والأفراد بكثرة، في التحامل على السلطات السياسية أولا، والقضائية التركية ثانيا، وهو ما يشكل حلقة ضغط من قبل المعارضة التركية على السلطات الحاكمة، وتأليب الرأي العام.

• الإفراط في التذكير بالعهود والمواثيق الدولية التي تجرم المساس بحقوق الصحفي ماجد شمعة، لما في ذلك من وصول الملف إلى أدراج الأمن القومي كما هو معهود، وبالتالي ما يعرض الزميل ماجد شمعة إلى خطر ترحيله قسريا إلى أي مكان لا يفضله، فسيادة الدولة فوق كل الاعتبارات، وهنا لا بد من الإشارة إلى إشكالية عميقة يعتمدها الأطراف الدولية بناء على معطيات التفصيل والنفوذ الدولي، وهي ترحيل اللاجئين السوريين من البلدان الأوروبية إلى مناطق تحت سيطرة النظام، إذ إن سيادة الأراضي السورية كافة وحتى الآن ووفق القانون الدولي تعود للنظام السوري بما فيها المناطق المحررة، والمناطق المحررة في الشمال وغير الخاضعة في الشمال الشرقي، تعد مناطق نزاع وثورات ولم تحسم بعد واقعيتها الميدانية والمسؤوليات الدولية المترتبة، بالتالي لا ترحيل منظما إليها، ولا تعد سوريا بحكم القانون الدولي ذات سيادة ناقصة أو تابعة، بفعل تسويس الشرعية الدولية لتتوافق مع مصلحة القوى الكبرى، في حين أن السلطات التركية الحالية تعكس الآية تماما وتوجه عمليات الترحيل باتجاه مناطق شمال سوريا، وتتحدث عن إمكانية نقل اللاجئين في لبنان إلى تركيا فالشمال السوري، لتأمينهم والحيلولة من تكاتف دولي معاكس.

• وإيمانا بحق جميع الأفراد في حقوقهم الثابتة في الرأي والتعبير والصحافة، وتحقيقا للصالح العام السوري في تركيا بما يسد الطريق على ما يضر بالسوريين والمجتمع التركي المضيف، كان لا بد من استراتيجية موحدة من الكيانات السورية لمساندة أورينت الشجاعة، التي قدمت أداءً فريدا في دفاعها عن أحد صحافييها بما يليق بسمعة السوريين وقضيتهم العادلة.  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات