لبنان المنكوب بخارجيته: عقود من دبلوماسية"ما خصنا" واستثناء إيران

لبنان المنكوب بخارجيته: عقود من دبلوماسية"ما خصنا" واستثناء إيران
يعيش لبنان منذ ولادته كيانا قانونيا حالة من التضارب الجيوبولتيكي، تعود في أصلها إلى محاولة نزعه بالقوة من قبل الاحتلال الفرنسي آنذاك وفصله عن سوريا الرامي إلى إضعاف سوريا المسلمة، في محاولة لخنق القوة الاقتصادية والسياسية الإسلامية في دمشق وحرمانها من بحرها الأقرب ونقاطها في شرق المتوسط، تلبية لرغبات أقلوية مسيحية متطرفة ومملوءة بالكراهية تجاه المحيط، وحفاظا على مصالح غربية تنظر للقوة الديمغرافية السنية على أنها قنبلة موقوتة يجب إبطال مفعولها بما أمكن، فكان لا بد من إيجاد مظلة شرعية لجبل لبنان من خلال مساحة لبنان الكبير الذي يوجد فيه مكونات طائفية أخرى تستطيع تعديل الكفة بما يفرض لبنان كيانا سياسيا مشابها لسائر دول المنطقة في تلك الفترة.

المارونية السياسية: وهي أولى دعوات العنف الطائفي والرغبات المريضة التي لم تسمح للبنان إلى الآن بالنهوض، -أو بمعنى آخر- لم تشبع من دماء مواطنيه بعد، وكأن العملية أشبه بعملية انتقام منظم ومدبر وأبدية في ظل التمرد على دستور الأربعينيات الذي أفضى إلى إيجاد الميثاق الوطني،  لإنقاذ المارونية من وحل الذوبان حال استمر التعطيل الماروني لاستراتيجية الدولة آنذاك، ومع ذلك لم ولن يبرد الموارنة حتى أشعلوا حربا طائفية مذهبية استمرت لسنوات طويلة غنية عن التعريف، ليولد المولود الثالث (الصيغة/اتفاق الطائف) محجما دور وصلاحيات رئيس الجمهورية، التي ما انفك الموارنة يطالبون بها إلى اليوم، ومع انتهاء الحرب الأهلية كان يلوح في الأفق دور جديد للنظام السوري في هذا البلد المنكوب منذ عقود، دور سيستغله الولي الفقيه المنتصر في إيران استغلالا جيدا، عبر تسخير نفوذ أتباعه في سوريا ووجودهم في قوات الردع واعتبارهم لبنان حديقة خلفية لتمرير قاذورات سياسة النظام السوري، لتكون مرحلة إعادة الإعمار بحاجة إلى زعامات سنية قادرة على إعادة ثقة الدول العربية والإسلامية بلبنان.

الشيعية السياسية على مشارف الانهيار!

 في الفترة الممتدة من اتفاق الطائف وحتى اليوم ولكن بصيغة أكثر توافقية من المارونية، فالشيعية ترافقت أو نشطت على أنقاض المارونية العريضة، وأكتاف القاعدة الإسلامية السنية التي شجعتها مرحلة الإعمار على دخول معترك السياسة بأثواب غير تقليدية، بالتالي أصبحت تتنامى وتدغدغ مشاعر الموارنة بالنظر إلى مكتسبات الإعمار وإبعاد المسلمين عن الحكم وفضائهم المحيط من خلال إيجاد استراتيجية نسبية لتحالف الموارنة مع الشيعة المندفعين بحمل أيديولوجي ثقيل وبغيض في ذات الوقت، وهو ما بات يعرف بحلف الأقليات، والذي صرّح فيه الزعيم الدرزي "وليد جنبلاط" بأنه تلقى في تلك الفترة دعوات من رفعت الأسد وغيره لدمجه ودمج دروز لبنان في تحالف الأقليات هذا، بالتالي ترافق ظهور لبنان بنيات غير بريئة وجغرافيا محاصرة صعبة، وسياسة داخلية تمثل متنفسا لانتقام السياسة الذي انتهجه الموارنة والشيعة على وجه الخصوص، لتصبح أجهزة الدولة أداة الطائفة وسياساتها بدلا من أن تكون ضرورة لدمج الطوائف والحفاظ على موجبات بقاء الكيان.

 ويبدو أنه رغم خلافات طوائف لبنان ومكوناته، إلا أن ما يجمع تلك الزعامات والقيادات -على أقل تقدير- يتمثل بالبعد العربي الإسلامي (السنية السياسية)، وهذا رابط مشترك لكل أزمات لبنان منذ ولادته ومروره بمرحلة الموارنة أو الشيعية التي شارفت على الانهيار، بالمقابل كان العرب ينظرون إلى السنة على أنهم أداة للضغط والتجاذبات وليس مكونا استراتيجيا لا يمكن لبنان بدونه، فتنوعت تيارات السنة في لبنان واختلفت توجهاتها على عكس بقية الطوائف، وخاصة بعد اغتيال الرئيس الحريري وتوحش نظام الولاية في قم بعد التسهيلات الغربية له إبان ثورات الربيع العربي، ليبقى لبنان اليوم رهن تطلعات السنة فيه وليس رهن رغبات الموارنة أو سلاح الشيعة، وهذه من الحقائق المطلقة، فالسنة لم يكونوا طرفا في الحرب الأهلية، وكانوا متنفس لبنان  وجرعته المطلوبة عقب كل الأزمات، ولبنان بانتظار إنتاج زعامات سنية ذات استراتيجية عربية إسلامية، وليس ولاء مصالح وبيروقراطيات.

الخارجية اللبنانية أداة البناء والهدم!

اكتسب المجتمع اللبناني منذ بداية ثورة السابع عشر من تشرين مناعة سياسية كبيرة، تجلت في فقدان الثقة بالسياسة الغربية بعيدا عن تصريحات الأوروبيين المثالية، فأصبحوا يدركون جيدا الكوميديا الماكرونية الفرنسية التي سلمت رقاب المجتمع للفساد في الداخل ولولاية الفقيه في الخارج والداخل، وخاصة مع انفضاح الدور الإيراني عبر ذراعه حزب الله وتوغله في دماء شعوب المنطقة، بالإضافة لذاكرة اللبنانيين الجمعية مع النظام السوري لعقود؛ لتخرج إلى العلن تصريحات لوزير الخارجية اللبناني المعين قبل شهر من تعيينه (عبد الله بوحبيب)، والتي عدها البعض تسريبات ولكنها ليست كذلك على الإطلاق!

 تأتي تصريحات حبيب إثر تصريحات الوزير المفوض عن حزب الله جورج قرداحي العدوانية المنبطحة أمام المشروع الإيراني لتزيد الأمور تعقيدا... وتمثل الأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج منعطفا صعبا اليوم، لكن يخطئ من يظن أنها وليدة هذا التصريح أو ذاك بل هي نتيجة تراكمات طويلة جدا من الفشل والانهيار في الدبلوماسية اللبنانية، لتنتهي بالإحراج للسياسة الخليجية، التي سعى من خلالها قرداحي لاستفزاز السعودية كما سعى من قبله وزير الخارجية الأسبق (شربل وهبة)، هذا الاستفزاز الذي يريد من خلاله تحالف الأقليات في جبهة 8 آذار توسل المساعدات الخليجية المقطوعة منذ زمن، وخاصة في ظل الظروف الاقتصادية الاستثنائية الحالية التي يمر بها لبنان في عهد الرئيس ميشال عون وحلفائه. 

ابتزاز دبلوماسي بسلاح المخدرات

تمثل الأزمة الاقتصادية تهديدا وجوديا للمنظومة الحاكمة التي ينفذ فيها حزب الله سياسات إيران الناجحة ميليشياوياً والتدميرية اقتصاديا وتنمويا ومؤسساتياً، بعد فقدان الرجاء بالمساعدات الدولية التي تشترط شروطا تعجيزية على أحزاب السلطة ومكوناتها، بل إن شدة الحاجة وصلت إلى طرح قضية التفاوض على أقدس موارد مشروع الولي الفقيه وإمداداته في حرب المنطقة وهي (سلاح المخدرات)، إذ أراد بوحبيب إيصال رسالة مفادها، نستطيع التعاون لإيقاف سلاسل توريد المخدرات إلى الخليج، مقابل الدعم المالي للحكومة الحالية وتبييض سياساتها عربيا ودوليا! 

رسالة لا تليق برجل دبلوماسية يفترض أن يؤكد سيادة القوانين لا أن يساوم على تطبيقها من أجل مكاسب ومنافع هي غير مشروعة أصلا... وهي رسالة أراد من خلالها أيضاً أن يستثمر في الرأي العام اللبناني الباحث عن قشة علها تنقذ الغريق، وتضغط على المملكة لمساعدتهم!

إنها بادرة تنبئ بتنازلات أكبر قادمة على سلم أولويات الحزب الممانع الذي يفتش عن مخرج إجباري، لأنه لا يغيب عن الساسة الخليجيين سياسات النظام السوري وحلفائه الأخيرة في استمطار العطف العربي بمقابل سلاح المخدرات الفتاك (سلاح القتل) المشرع ضد المجتمعات الخليجية منذ عقود، والذي وصل إلى فتك قياسي في تلك الدول، وذاته (سلاح التفاوض) والتنازل في الحالات المصيرية الحرجة، فعمليات الأمن الأردني والسعودي كلها تتم بمعلومات استخباراتية مقدمة من النظام السوري للدول الخليجية، وتجلت في الفترة الأخيرة دوافع حسن النية الشكلية التي تخفي خلفها حقدا أسود، فلا يكاد يمر أسبوع إلا وتعلن داخلية النظام عن ضبط شحنات مخدرات ومعامل تصنيع واتخاذ الإجراءات الجنائية بحقها، وكذلك في لبنان باعتقال عدد من  رؤوس تجارة المخدرات وتقديمهم للمحاكمات، وانتهاج أسلوب احترازي متقدم لقوى الأمن اللبنانية في مستهل تعاطيها مع ملفات بقاعية معنية بالمخدرات، وخاصة بعد إعلان الرئاسة الأمريكية قبل أسابيع عن خطط متقدمة لمواجهة ملفات صناعة وتجارة المخدرات في سوريا وغيرها!

هذا الأمر الذي قوى الأمن السورية في الجيش الوطني في الشمال بصورة استراتيجية من خلال كثافة نشاطها ضد مروجي وصانعي المخدرات وشبكاتهم، فهل يعاود الساسة الخليجيون الوقوع في مستنقع المساومة مع الميليشيات الإرهابية الحاكمة بالوكالة في مناطق النزاع؟ لا شك أن الأزمة الدبلوماسية تتطور شيئا فشيئا وتتضخم، ففيما بعد ستأخذ وجها قانونيا معتبرا، يهدد بكل تأكيد الحكومة المفوضة عن إيران، الغير مستعدة لمراعاة مطالب اللبنانيين التي كرستها ثورة تشرين، وهذا بكل تأكيد ينبئ بعودة مسار الحج في الداخل اللبناني إلى الطائفة السنية لتحاول تخليص لبنان، وخاصة مع تعاظم نفوذ السنة الذي يتطور على حساب السقوط المدوي للمارونية والشيعية، ليكون المطلوب أن يتجه السنة فحسب إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدولة الوطنية، وخاصة مع وجود كفاءات سياسية واقتصادية وطنية لها باع طويل في سياسة الدولة اللبنانية، إذ يمثل الوجود السني في سلك الخارجية مساحة وطنية جامعة غير مؤدلجة بثقافة أقلوية على الإطلاق وهذا شأن سنة دول المنطقة، وهذا ما سيفحص خلال الشهور والسنوات القادمة من عمر لبنان، ليكون محل انتظار معقود على طبيعة التحرك السني. 

التعليقات (2)

    HOPE لن تستطيع طائفه اقصاء باقي الطوائف

    ·منذ سنتين 5 أشهر
    تسخير الدين (اسلامي بمختلف طوائفه او مسيحي بمختلف طوائفه) لبناء دوله في العصر الحديث هو مفهوم فاشل ولم ولن ينجح لعدة اسباب اهمها رفض مفهوم التسامح الديني الذي ينادي به رجال الدين والذي يبقى حبر على ورق بعيد عن التطبيق الواقعي. هذه المنطقه كانت وستظل للمسلم والمسيحي ليعيشو فيها بسلام جنبا الى جنب بعيدا عن هرطقات وفتاوى رجال الدين المستحدثين!!

    HOPE

    ·منذ سنتين 5 أشهر
    مشكلتنا في الشرق الاوسط ان عقول الناس تتوقف عن التفكير بمجرد الحديث عن الدين و هو ما يجعل رجال الدين المستحدثين من كل الطوائف اسلاميه و مسيحيه تسعى لتحقيق اجندات حكام تتحكم برقاب الناس وكانها الخالق. دولة القانون(ولا مانع ان يكون مصدره التشريع الاسلامي) التي تضمن المساواه بين الناس امام القانون هي الحل. وليس فتاوي او عظات !! ملاحظه انا لست بملحد.
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات