الترحيل بوصفه عقوبة على لا جريمة !!!

الترحيل بوصفه عقوبة على لا جريمة !!!
 كشفت قضية الإعلامي ماجد شمعة الموقوف الآن – كما هو معروف – في أحد مراكز الترحيل بغازي عنتاب التركية عن جملة من القضايا التي صار من المهم الوقوف عندها والإضاءة عليها لما تمثله من خطورة على أوضاع اللاجئين السوريين في تركيا عموما والنشطاء السياسيين والإعلاميين المعارضين لنظام العصابة في دمشق على وجه الخصوص، والتي سأجملها في ثلاث قضايا .

أولى هذه القضايا هي هشاشة الوضع القانوني لعموم اللاجئين السوريين في تركيا  – ونقول لاجئين اصطلاحا للدلالة على تدفق السوريين نحو تركيا التماسا للأمان ولا نقصد به بطبيعة الحال المعنى والمدلول القانوني للمصطلح الذي هو شرف لايناله السوريون في تركيا -والذي يعني أنهم مكشوفو الظهر وبلا حماية قانونية حقيقية، ذلك أن القانون ليس فقط حالة تنظيمية لأوضاع الناس والحريات بل هو أيضا حالة حماية لحقوق مفترضة لهؤلاء الناس وحماية أيضا لسبل وصولهم إليها وممارستها، ومن الطبيعي القول في هذا السياق إن الناس يجب أن يكونوا سواسية أمام القانون،وأن لاجريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني وهي من البديهيات والمسلمات القانونية والدستورية في كل الدول على الإطلاق . 

وتتبدى تلك الهشاشة أكثر ماتتبدى في سيف ديموقليس المسلط فوق رؤوس السوريين إن هم وقعوا في نزاع بسيط مع أحد، أو حتى ارتكبوا أدنى مخالفة للقوانين وهو سيف الترحيل (!) الذي يمكن أن يحصل بكل بساطة بمعزل عن رقابة القضاء أو قراره (!) وهو ( حق ) مطلق لدائرة الهجرة تتخذه في أي وقت ضد أي شخص ولأي سبب تراه أو تعتقده أو توصّفه أنه تهديد للنظام العام  !!! . 

تكشف قضية الإعلامي ماجد شمعة مرة أخرى أن لاقيمة لقرار النيابة العامة بترك المتهم - الذي جلب إليها مخفورا (!) - دون أن تقوم بتوجيه أي تهمة له ، ولا تأثير ولا ارتباط لهذا القرار القضائي بقرار دائرة الهجرة بترحيل الشخص والذي يبدو أنها تتخذه حتى قبل أن تحيل الشخص للقضاء ثم تقوم بمجرد خروجه سواء تركاً ( لعدم وجود جريمة أصلا ) ، أو إخلاءً للسبيل ( بانتظار المحاكمة على فعل مجرّم ) وتقوم بإعادة توقيفه في مركز الترحيل وتمارس الإكراه عليه لإجباره على التوقيع على وثيقة العودة ( الطوعية ) والتي غالبا يوقع عليها مكرها عندما يعرف هذا الشخص أنه من الممكن أن يبقى محتجزا في المعتقل لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد مرة أخرى لتصبح سنة كاملة (!) ودون أي  سند قانوني لهذا التوقيف !! وحتى لو تقدم بطعن على قرار الترحيل فيبقى موقوفا في مركز الترحيل لحين الفصل بهذا الطعن، وطبعا ليس كل لاجئ لديه الإمكانية لفعل ذلك، عندها يفاضل بين الأمرين .. حرية مع الترحيل ومخاطره أو اعتقال مديد لعام كامل !!! . 

إذاً ماهي القيمة القانونية للإجراءات القضائية وقرارات القضاء بالترك – لعدم وجود جريمة أصلا – أو بإخلاء السبيل بانتظار محاكمة قد يخرج منها الشخص بريئا تماما .. ماقيمة كل ذلك إذا كان الترحيل هو المصير ؟؟؟  . 

 وماهي القيمة القانونية لكل المواثيق الحقوقية الدولية التي تتبناها وتلزم الدولة نفسها بها كاتفاقية حقوق اللاجئين والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فضلا عن كل المواثيق والعهود الدولية الأخرى وكلها على الإطلاق تقول "بعدم جواز إعادة اللاجىء قسرا إلى بلده مالم تتغير الأوضاع فيها بشكل جوهري ودائم على نحو يضمن حماية الأفراد المضطهدين في السابق "

وكذلك ماتنص عليه اتفاقية حقوق اللاجئين لعام 1951 في مادتها رقم 32 على أنه : 

1- لا تطرد الدولة المتعاقدة لاجئا موجودا في إقليمها بصورة نظامية، إلا لأسباب تتعلق بالأمن الوطني أو النظام العام.

2- لا ينفذ طرد مثل هذا اللاجئ إلا تطبيقا لقرار متخذ وفقا للأصول الإجرائية التي ينص عليها القانون ويجب أن يسمح للاجئ ما لم تتطلب خلاف ذلك أسباب قاهرة تتصل بالأمن الوطني ، بأن يقــــــــــــــدم بينات لإثبات براءته، وأن يمارس حق الاستئناف ويكون له وكيل يمثله لهذا الغرض أمام سلـــــــــطة مختصة أو أمام شخص أو أكثر معينين خصيصا من قبل السلطة المختصة    .

3- تمنح الدولة المتعاقدة مثل هذا اللاجئ مهلة معقولة ليلتمس خلالها قبوله بصورة قانونية في بلـــــــد آخر،وتحتفظ الدولة المتعاقدة بحقها في أن تطبق خلال هذه المهلة، ما تراه ضروريا من التدابير الداخلية.

   كل ما تقدم يقودنا للقول إن للسلطة القانونية الممنوحة لدائرة الهجرة أن تقرر ترحيل الأشخاص بمعزل عن القضاء وخلاصات ما يصدر عنه من قرارات أو أحكام سواء بالترك لعدم وجود جريمة أصلا أو بإخلاء السبيل لحين المحاكمة في حال وجود جريمة، لكن لا تستحق إبقاء المتهم بها موقوفا ، فهذا يعدّ  شكلا من أشكال التغول من السلطة التنفيذية على القضاء .. ذلك أن اتخاذ القرار بترحيل الشخص يجب منطقيا وقانونيا أن يكون مرتبطا بالضرورة بوجود جريمة تهدد النظام العام وثبوت ارتكابه لها والحكم عليه بها واستنفاذه سبل الطعن بالحكم الصادر بشأنها ، وخلاف ذلك يكون قرار الترحيل شكلا من أشكال التعسف وانتهاك واضح وصارخ للموجبات والالتزامات القانونية المترتبة على الدولة تجاه اللاجئين فيها .. وكثيرة هي الحالات التي تم ترحيل أشخاص أخلي سبيلهم قضائيا ثم يصدر بعد فترة حكم ببراءتهم لكن بعد أن يكونوا رحلوا فعلا (!!!).

وثاني هذه القضايا هي مسألة رضوخ الحكومة للابتزاز واستجابتها للحالة الشعبوية ضد اللاجئين السوريين والتي خلقتها وعمقتها حالة الاستقطاب والاستثمار السياسي لملف اللاجئين ، ولسنا نحتاج هنا لإعادة استعراض كافة الخطب والتصريحات الحكومية والمعارضة على السواء والتي حفزت - من حيث ترغب أو لا ترغب - النوازع العنصرية لدى العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية التركية المعارضة ،حتى صار خطاب الكراهية والنبذ جزءا من التعاطي اليومي مع اللاجئين السوريين من قبل شريحة واسعة - وتزداد توسعا  في المجتمع التركي، وهو مؤشر خطير ولا يبشر بالخير ليس فقط على اللاجئين أنفسهم وإنما على المجتمع التركي نفسه الذي طرأ عليه بفعل هذه العنصرية تحولات خطيرة تتعزز لدى كم كبير نسبيا منه ثقافة نبذ وكراهية الآخر ورفض إدماجه ، بعد أن كان عبر تاريخه مجتمعا ملجأ وملاذا آمنا للمضطهدين والمظلومين وكانت تلك المسألة تمثل قيمة مجتمعية راسخة في الوجدان الجمعي للمجتمع التركي . 

 إن خطورة العبث بملف اللاجئين السوريين والاستثمار السياسي والانتخابي فيه تتبدى اليوم في خطاب عدواني كاره للآخر بدأ يتحول إلى فعل وسلوك عدواني واعتداءات متكررة ومنكرة على الممتلكات والأشخاص وصل بعضها حد القتل وإزهاق الأرواح  ، ولذلك تبدو اليوم الحاجة ملحة أكثر لإبقاء ملف اللاجئين ضمن سياقه الحقوقي والإنساني وإخراجه من بازارات السياسة واستثماراتها  ، وإلا فنحن – وبكل أسف – على عتبة خطر أكبر نخشى أن يقود إلى ما لا يحمد عقباه لا قدّر الله .. ما يوجب على الحكومة تحديدا العمل بجدية لوأد العنصرية في مهدها بكل الأدوات القانونية المتاحة لها .. والكف عن التعاطي مع مسألة اللاجئين السوريين – سواء من قبل السلطة أو المعارضة – كحالة طارئة وعرضية وإقامة مؤقتة .. فالصراع في سوريا طال واستطال وليس من مخرج حقيقي في الأفق يسمح لأحد بترف التفكير والتعاطي مع الأمر وكأن اللاجئين سيغادرون غدا  . 

   وأما ثالث هذه القضايا وربما أخطرها .. هو ما كشفته المراسلات والتواصل بين واحدة من رموز المعارضة مع شخص  – يمكننا افتراض أنه من أمنيي النظام السوري – عمّا يشبه تنسيقا وتناغما في المواقف والرؤية والتعاطي مع قضية الإعلامي ماجد شمعة تحديدا  ، وهو ما يؤكد خطورة ترحيل الإعلامي المذكور حتى إلى مناطق شمال سوريا الخارجة عن سيطرة النظام، فهي ليست بمنأى عن الاختراقات الأمنية للنظام فيها فضلا عن كونها بذاتها وبقوى الأمر الواقع الحاكمة فيها ليست ملاذا آمنا لأي شخص بالنظر لحجم الجرائم والانتهاكات التي ترتكب فيها وخاصة ضد النشطاء والإعلاميين الذين يفضحون تلك الانتهاكات . 

 كما يؤكد ذلك أيضا أن بعض تلك الرموز المعارضة لاتتوانى عن استخدام مختلف السبل لتأليب الرأي العام ضد اللاجئين بما فيها التواصل مع جهات أو أشخاص داخل بنية النظام الذي استهدف الجيش التركي نفسه في هجوم ارتكبه العام الفائت أسفر عن أكثر من ثلاثين قتيلا ، وارتكب مجزرة في مدينة الريحانية التركية بعملية إرهابية ثبت للسلطات ضلوع المخابرات السورية بارتكابها وتوفير سبل تنفيذها ، فضلا عن كونه تسبب بوجود هؤلاء اللاجئين في تركيا ودول أخرى ، مايوجب فتح تحقيق قضائي جدي بهذا الأمر، فلم يعد الأمر مقتصرا لدى تلك السياسية على التحرض على اللاجئين وتعزيز خطاب الكراهية ضدهم وإنما انتقل لطور التواصل والتنسيق مع شخص مشكوك في كونه جزءا من المنظومة الأمنية للنظام السوري،مايشكل تهديدا جوهريا للأمن القومي التركي أولاً ولأمن وسلامة اللاجئين المعارضين للنظام السوري في تركيا ثانياً. 

 قضية الإعلامي ماجد شمعه لم تعد تقتصر على وجوب الإفراج عنه وعدم ترحيله امتثالا لموجبات القانون الوطني ومقتضيات العدالة في تركيا وانسجاما مع كافة التزاماتها القانونية على المستوى الدولي بهذا الشأن فحسب، بل هي فرصة لمراجعة ملف اللاجئين السوريين في تركيا وطريقة التعاطي مع وجودهم فيها على مختلف المستويات القانونية والسياسية والإنسانية والأمنية، وهي مسألة بلا شك من مسؤوليات الحكومة التركية التي نأمل أن تنهض بها وتستجيب للحاجة الملحة لمعالجة هذا التصاعد في المواقف العنصرية بمختلف الوسائل والأدوات القانونية،وفي ذلك مصلحة للشعبين السوري والتركي معا على المديَيْن الحالي والمستقبلي .

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات