سورية تودع مطربها:صباح فخري أسرار الصوت الغنائي الأطول عمرا وعطاء

سورية تودع مطربها:صباح فخري أسرار الصوت الغنائي الأطول عمرا وعطاء
برحيل صباح فخري تفقد سورية آخر مطربيها الكبار؛ فلا قمة تعلو ما بلغه صباح فخري من شهرة وانتشار ومكانة بين مطربي سورية، بقدرات فنية استثنائية لا تتوفر عادة بين فئة مطربي الدرجة الأولى بسهولة، وبتنوع مذهل في غناء كافة ألوان الغناء العربي – بخلاف الكثير من مُجايليه - بنفس التمكن والاقتدار. 

كان صباح أبو قوس المولود في مدينة حلب في الثاني من أيار عام 1933، استمراراً طبيعياً لجيل الأستاذة الكبار من صناع الموسيقى والغناء في مدينة حلب، التي عشقت فن الموشحات والقدود وأضافت عليه من روح المدينة وثقافتها، ما جعل لهذا الفن الذي وُلد في الأندلس، نمطاً أكثر عمقاً وتعقيداً في بنيته الموسيقية والطربية حين انتقل وتطور.  وعاش في حلب على يد موسيقييها الكبار كالشيخ أحمد العقيل وعمر البطش وعلي الدرويش والمطرب صبري المدلل.. وكان صباح أبو قوس، أو صباح فخري كما سيُعرف فيما بعد، ابناً لعائلة حلبية عريقة متعمِّقة في علوم الدين، فأبوه الشيخ محمد أبو قوس كان صوفياً وصاحب طريقة وكان يعلّم قراءة القرآن وتجويده، ولا بد أن نشير في هذا السياق إلى دور أتباع الطرق الصوفية في حلب في حفظ تراث الموسيقى الشرقية وتطويره، فحضراتهم الدينية كانت تقوم على إيقاع موسيقي متصاعد.. وكانوا يميلون إلى استخدام آلات النقر كالطبول والدفوف وسواها. 

أولى أغنيات صباح فخري وأشهر مكتشفيه

حين أتمّ صباح أبو قوس العاشرة، كان قد تمكن من حفظ القرآن الكريم كاملاً على يد والده، كما تعلم الإنشاد الديني في حلقات الأذكار الصوفية التي كانت تُقام في بيت العائلة، أو في بعض الزوايا والجوامع.. وحفظ مختلف ضروب الإيقاع المرافق لهذا الإنشاد، واكتسب من أصدقاء أبيه مثل عمر البطش ومصطفى الطراب وصبحي الحريري وبكري الكردي، كل علوم النغمات والأوزان ولم يكن قد تجاوز المرحلة الابتدائية حين أتم دراسة أصول التجويد، وحين بلغ الثانية عشرة من العمر، أتقن العزف على العود على يد نديم الدرويش ابن الشيخ علي الدرويش.

  

أول لحن خاص به غناه صباح فخري  كان عام 1945 وهو في الثانية عشرة من العمر، حين لحّن له محمد رجب موشح (مال عنّي واحتجب) ثم أخذ بعض ألحان الشيخ علي الدرويش التي لفتت أنظار عازف الكمان الشهير (سامي الشوا) فأُعجب بصوته وأصرّ على أسرته أن يرافقه الغناء في جميع الحفلات التي كان يزمع القيام بها في سورية، ثم في مصر. غير أن الأسرة التي وافقت على أن يغني صباح بمرافقة فرقة سامي الشوا، ترددت طويلاً قبل أن توافق على سفره إلى مصر.

 

لقاء صباح فخري بالزعيم فخري البارودي سيحول مجرى حياته بالتأكيد... فقد انبهر فخري البارودي بصباح حين سمعه بإحدى الحفلات يغني مع سامي الشوا، فطلب أن يلتحق بالمعهد الموسيقي الشرقي الذي أسسه وترأس مجلس إدارته ثم أتبعه – مستخدماً صِلاته ونفوذه السياسي - بوزارة المعارف.. وقد وقف الزعيم البارودي معارضاً سفر صباح إلى مصر مع سامي الشوا.. وهو القرار الذي كانت تؤيده الأسرة بطبيعة الحال.  

انتسب صباح فخري إلى المعهد الشرقي بدمشق فدرس على يد عمر البطش الإيقاعات والموشحات ورقص السماح وفن غناء القصائد والأدوار. وتعلم من مجدي العقيلي النظريات الموسيقية والإلقاء الغنائي بوساطة التدوين الموسيقي أو ما يعرف بالـ (صولفيج) وأخذ عن عزيز غنام كل شيء عن المقامات بما فيها أساليب الانتقال فيما بينها. ونظراً لإلمامه بمبادئ هذه العلوم منذ الصغر فقد استطاع أن يختزل سنوات الدراسة في المعهد ليتخرج منه عام ١٩٤٨ .

كان فخري البارودي يتباهى بغناء صباح في مجالس الطرب التي كان يقيمها في داره الواسعة في حي القنوات، والتي كان يدعو إليها ضيوف سورية الكبار من السياسيين والمطربين والشعراء والأدباء، وتقديراً من صباح فخري الذي لم يكن قد اتخذ له اسماً فنياً يُعرف به -رغم أن سامي الشوا أطلق عليه لبعض الوقت اسم (محمد صباح)- سمّى نفسه "صباح فخري" بدلاً من صباح أبي قوس، تيمّناً باسم فخري البارودي الذي حظي بمتابعته ورعايته.

من المعهد الشرقي إلى الإذاعة فالتلفزيون

 بعد تخرجه في المعهد الشرقي بدمشق، وبموازاة تقديمه عدداً من الوصلات الغنائية في إذاعة دمشق، قرّر صباح فجأة العودة إلى حلب لمتابعة دراسته، فالتحق بالمعهد العربي الإسلامي عام ١٩٤٩ لينهي فيه دراسته لشهادتي المرحلتين الإعدادية والثانوية. وفي تلك المرحلة من حياته، فكّر باعتزال الموسيقى والغناء، كما عُيّن في مديرية أوقاف حلب وعمل مؤذناً في جامع الروضة  ولكنه لم يستمر طويلاً.. وخصوصاً بعد افتتاح التلفزيون السوري عام 1960..  حيث أقنعه صديقه المخرج التلفزيوني الرائد عاشق الموسيقى الحلبي جميل ولاية بالمشاركة في "الموسيقى العربية" الذي كان يعده ويخرجه فأدى دور "أصل الغرام نظرة " لمحمد عثمان، ثم قصيدة "قل للمليحة في الخمار الأسود " التي لاقت نجاحاً كبيراً لم تزل أصداؤه تتردد حتى اليوم لتغدو واحدة من روائع ما غنى صباح فخري.. ولا يمكن اختزال المكانة التي بلغها صباح فخري منذ ذلك التاريخ بأفضل مما كتبه عنه الناقد والمؤرخ الموسيقي صميم الشريف في كتابه (الموسيقى في سورية أعلام وتاريخ): حين قال: 

"لم يعرف تاريخ الغناء العربي المعاصر، مطرباً تربّع على عرش الغناء العربي التراثي غير صباح فخري، ولم يعرف التراث الغنائي بالذات، من حافظ عليه وأولاه من عنايته واهتمامه وسار به بين الناس من نصر إلى آخر سوى صباح فخري".

 

على مدار سبعين عاماً بين أولى أعماله عام 1945 وآخر حفلاته عام 2015، قدّم صباح فخري وصلات غنائية من عيون التراث السوري كـ "يا مال الشام" و"يا طيرة طيري" و"يا غصن نقا" لأبي خليل القباني.. وغنى موشحات علي الدرويش وأمين الجندي وعمر البطش وزكريا أحمد.. وتألق وهو يتنقل بين الألوان الغنائية والمقامات والطبقات بشكل قوي وقادر.. فغدا عنواناً من عناوين التراث الغنائي السوري وحاملاً له. 

 مساهمات درامية في السينما والتلفزيون

استطاع صباح فخري أن يغدو نجماً عربياً في زمن العمالقة الكبار. كان حضوره المسرحي وقدرته على الاستمرار، وعطاؤه الفني الغزير يتوهج في الحفلات وبرامج التلفزيونات والإذاعات وفي الأسطوانات التي كانت تسجَّل له وتباع.. وكان طبيعياً في ظل هذا الانتشار أن يدخل عالم الدراما التلفزيونية والسينمائية ففي عام 1968 شارك للمرة الأولى تمثيلاً وغناء في فيلم (الصعاليك) مع دريد لحام ونهاد قلعي ومريم فخر الدين، وفي عام 1974 وقف أمام كاميرا المخرج اللبناني إيلي سعادة ليؤدي دور البطولة في المسلسل التلفزيوني (الوادي الكبير) الذي كتبه السوري نزار مؤيد العظم، ولعبت بطولته المطربة وردة ولحّن معظم أغنياته بليغ حمدي. وقد حلّق صباح فخري في هذا المسلسل الذي يمكن مشاهدة حلقاته على موقع الفيديو الشهير (يوتيوب) بألحان الملحّنين السوريين: محمد محسن وأمين الخياط وإبراهيم جودت وعدنان أبو الشامات وعزيز غنام. وفي عام 1978 شارك في البرنامج التلفزيوني (نغم الأمس) الذي قدّمه رفيق السبيعي وصباح الجزائري فقدم من خلاله ما يقرب من 160 لحناً ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشّح وموّال، حفاظاً على التراث الموسيقي العربي.

أما آخر مشاركاته التلفزيونية فكانت برنامجاً رمضانياً تراثياً، بعنوان (أسماء الله الحسنى) أعدّته وأخرجته السيدة رويدا الجراح،  ووضع ألحانه عدنان أبو الشامات وإبراهيم جودت وعبد السلام سفر وأنتجه التلفزيون السوري في ثمانينات القرن العشرين وشارك فيه كبار نجوم سورية أمثال منى واصف وعبد الرحمن آل رشي وثناء دبسي وسواهم. 

أوسمة الحضور وهوس الأرقام القياسية!

قائمة التكريمات في مشوار صباح الفني الطويل والممتد.. تطول رغم تبدل الحقب والعهود السياسية التي عاصرها.. ففي عام 1975 قلده الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة وسام تونس الثقافي، كما حصل على المفتاح الذهبي لمدينة ميامي الأمريكية وعلى شهادة دكتوراه فخرية في الموسيقى من جامعة لوس انجلوس الأمريكية، ونال الميدالية الذهبية في مهرجان الأغنية العربية في دمشق عام 1978، وفي عام 2000 قدّم له سلطان عُمان قابوس بن سعيد وسام التكريم تقديراً لعطاءاته وإسهاماته الفنية خلال نصف قرن من الزمن وجهوده في المحافظة على التراث الغنائي العربي. كما كُرّم في مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية العاشر في دار الأوبرا المصرية، وتسلم درع المنظمة العربية للثقافة والعلوم مع شهادة تقدير عام 2004 خلال ندوة الحفاظ على التراث الموسيقي العربي التي أقيمت في دمشق، اعترافاً بدوره البارز في الحفاظ على التراث الموسيقي العربي ومساهمته في ترسيخ تقاليد الغناء الأصيل.. وحمل وسام الاستحقاق السوري عام 2007

وإذا كان هناك من يهتمّ بدخول صباح فخري موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتباره المطرب العربي الوحيد الذي دخل هذه الموسوعة الشهيرة عام 1968، حين استمر يغني من العاشرة ليلاً حتى الثامنة صباحاً دون توقف أو انقطاع،  في حفل فني أقيم له في العاصمة الفنزولية كراكاس، فثمة من يذكر أنه سبق وغنى في حفل مشابه في مدينة حلب لمدة 14 ساعة، من العاشرة ليلاً وحتى الثانية عشرة ظهراً دون توقف، لكن هذه القدرة الطويلة لا تقاس بالساعات والأرقام القياسية، بل بما جسده صباح فخري من حالة نوعية ومن إضافات تطويرية في حفظ التراث ونقله للأجيال التي كانت تستمتع إليه وهي بعمر أحفاده.

  

بعيداً عن أنواء السياسة ولعنة البعث!

 لقد نجا صباح فخري من لعنة السياسة وتقلب العهود على الفن والفنان السوري.. والتي كانت ترفع أصواتاً غنائية ثم تُقصيها.. أو لعل الجمهور يُقصيها بعد أن تصبح جزءاً من حالة هتاف ونفاق لحاكم يأتي وآخر يروح.. اختبأ صباح فخري وراء أسوار التراث الغنائي المَنيع، فلم ينافس لودي شامية على لحن: (البعث قام بثورته) ولا دلال الشمالي على (من قاسيون أطلّ يا وطني) أو مُجايله موفق بهجت على أغنية (رعاك الله)، بقي صباح مخلصاً للموشحات والقدود والقصائد ولعيون الشعر العربي من أشعار أبي فراس الحمداني والمتنبي وابن الفارض وابن زيدون ولسان الدين بن الخطيب.. فاستمر بفنه، يُطرب ويشجي ويحمل رسالة الفن الرفيع.. وعندما شغل منصب نقيب الفنانين في سورية في تسعينات القرن العشرين خلفاً لنقيب مزمن هو (سهيل كنعان) كما دخل نائباً إلى مجلس الشعب عام 1998، وكان مديراً لمهرجان الأغنية السورية في دورته الأولى عام 1992 التي أذكر أنني حضرتها موفداً لمجلة (الكفاح العربي) ورأيت كيف اتسمت بالارتجالية الشديدة.. قبل أن يستلم إدارة المهرجان دريد لحام ليعيد تنظيمه على أسس مختلفة.. في كل هذه المناصب والمواقع لم يقدم صباح فخري ما يضيف.. كانت الشخصية البسيطة الودودة التي تثق بالآخرين تطغى على الحاج أبي محمد كما كان زملاؤه ينادونه، في وسط يعج بالكاذبين والمنافقين والمتملقين والانتهازيين.. وكان المكسب الوحيد لصباح فخري في كل هذه المواقع أنه خرج بلا فضائح ودون أن يدفع شيئاً من رصيده الفني. 

الصمت في حضرة الثورة

أدرك صباح فخري الثورة السورية وقد تجاوز الخامسة والسبعين من العمر وبلغ من العمر عتياً. من المؤكد أنه لم يكن من مؤيديها، كما فعل المطرب نور مهنا حين عبّر عن موقفه النبيل بكل جرأة ووضوح.. فصباح فخري ينتمي إلى ثقافة اجتماعية تقليدية مفادها أنه لا يمكن معاندة الدولة.. ولا فرق بين الوطن ومن يقود هذا الوطن لأنه يبقى الرئيس طالما هو باقٍ في القصر الجمهوري. إنها ثقافة ولاء لا تستند إلى حالة نفاق بالضرورة، لكنها تعبر عن تصور اجتماعي بسيط للعلاقة مع أنظمة الحكم وسلطة الدولة. 

 لكن هذا لا يعني أن صباح فخري وعلى مدار عشر سنوات لم يدرك سقوط الدولة التي تقتل شعبها، فالجرائم كانت أكبر من أي اختلاف في وجهات النظر ولهذا لم يشارك في أي فعالية تدعم نظام بشار الكيماوي ولم يُدلِ بأي تصريح يغسل يديه من جرائمه. ظل الحاج أبو محمد بعيداً. وحتى عندما رأى مدينته الأثيرة تدمَّر بفعل قصف طائرات النظام وروسيا، ويغني لها المنافق هاني شاكر (رمضان كريم يا حلب) مبرّئاً الأسد من جرائمه وبراميله التي دمرت المدينة.. التزم صباح فخري الصمت. 

في النهاية جسّد صباح فخري صورة مطرب عاش من أجل فنه الذي دخل إليه منذ سنوات اليفاعة الأولى متسلحاً بالصوت الجميل والمعارف الموسيقية والالتزام الاجتماعي والإحساس العميق بأهمية الكلمة في الارتقاء بالفن، وبعظمة التراث الذي ظل أميناً على حفظه ونقله للأجيال القادمة عبر صوت قوي قادر لم يهرم أو يشِخ إلا في آخر سني عمره. 

صباح فخري عنوان لسورية التي كانت.. ولسورية التي يشعر الكثير من السوريين أنهم لن يتمكنوا من استعادتها في المدى المنظور إلا عبر ذكريات سماع صوت صباح فخري أو أشعار نزار قباني وعمر أبي ريشة وأصداء أغنيات ترافق ما عاشوه في مدن حولها الإجرام والاستبداد إلى ركام وحطام: 

إن تجودي فصليني أسوة بالعاشقين.. أو تضني فاندبيني في ظلال الياسمين.. 

رحم الله صباح فخري وظلال الياسمين أيضاً.    

التعليقات (4)

    انسان جبان بلا موقف انساني

    ·منذ سنتين 5 أشهر
    غنى للاهبل بسبب خوفه وعدم اكتراثه بالشعب، مع حافظ الضراط .

    أحمد اسكيف

    ·منذ سنتين 5 أشهر
    رحم الله الفنان الأصيل صباح فخري وأسكنه الجنة

    Asyrian

    ·منذ سنتين 5 أشهر
    لروحك السلام صباح فخري.. لم يكن مطلوبا منه أن يؤيد الثورة طالما أنه لم يطلبل ولم ينافق لذيل الكلب بشار ومن قبله النافق الصهيوني حافظ... صباح فخري أسطورة لن تتكرر..

    انسان قذر وقف مع الاهبل

    ·منذ سنتين 5 أشهر
    ان وقوفه ضد الحضارة الانسانية ودعمه لحيوان مجرم مريض عقليا يلعن كل تاريخه ، جبان خويف قذر
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات