النظام السوري: مسيرة ثاني أوكسيد الكربون

النظام السوري: مسيرة ثاني أوكسيد الكربون
بدا "غير بيدرسون"  مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا أكثر سذاجةً مما ينبغي، وهو يصف انتهاء الجولة السادسة لاجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف، بأنها حملت "خيبةَ أمل كبرى" إذ إنها أشهرت إفلاسها بوجه التوصّل إلى تفاهمات مشتركة بين الأطراف السورية. "بيدرسون" الطيّب على ما يبدو تقاعس -ربما بفعل ارتدائه بزّةَ الدبلوماسيّة المقيتة- عن لوم وفد النظام السوري بما يستحق أن يُلام به، واكتفى بالإشارة إلى أنه لم يقدّم أوراق عمل للتوافق على مبادئ دستورية في اليوم الأخير لنزهة اجتماعات جنيف الدوريّة، فمن ذا الذي قال للسيد بيدرسون إن وفد النظام السوري قصد جنيف حقاً للتباحث بشأن دستور البلاد موضوع عمل تلك اللجنة؟! مبعوث الأمم المتحدة لم يتسنَّ له الوقت الكافي بعد للاطلاع على كل المواهب الفطريّة للنظام السوري، والمتمثل بعضها في مقدرته على إنهاك الحياة العامة للسوريين، وتحويلها إلى عوادمَ غازية سامة، ولعل ثاني أوكسيد الكربون هو المجاز الذي واظب على إنتاجه طيلة الحقبة البعثية بتلويناتها المضجرة ما بين دكتاتوريتي الأب وابنه.

تربية جديدة في رحم الخوف

الفترة التي شهدت رواج عطرَي "لابيدوس" و"أماريج" هي الفترة نفسها التي ارتفعت فيها أسهم الأحذية الصينية الرياضية البيضاء والسوداء في أرجل السوريين، وهي فترة ازدهار محصول الخوف في مواسم قطافه الطويلة حين كانت تلفّق لنا تهمة حيازة الحياة أو ترويجها على الأقل. كان النظام يعيد ببراعةٍ صياغة البشر على هواه في مؤسساته ومنظماته التي تبطش بأرواحهم، المدرسة بالزي العسكريّ باسمه الأحمق "بدلة الفتوّة" التي لم تُزِل الفوارق الطبقية بين الطلاب، بل كرّستها عبر اقتناء "البدلات الكوريّة" حينها، أو البدلات الغالية التي تخرجها مقصّات الخياطين كل صيف، بمكتبات المدارس الخالية من الكتب ومن القرّاء، بدروس التربية العسكرية في الباحات وقت الظهيرة حين تتكدس الشمس فوق الرؤوس بقصّات شعرها القصيرة، بالسُّخرة داخل منظمة الشبيبة ومتعهديها في معسكراتها الإنتاجية لرصف الطرقات في الأرياف البعيدة، أو دهن أرصفة شوارع المدن وتنظيف مجاري أنهارها، بالاجتماعات الحزبية الأسبوعية التي يخاف المرء أن يتغيّب عنها أو يتكلّم داخلها.

في السويداء كنّا نستمع إلى إذاعة "صوت الجنوب" التابعة لأنطوان لحد بصوت منخفض، وإلى إذاعة "مونت كارلو" بصوت أعلى قليلاً، وكنا ننتظر أن يشتري أمين الفرقة الحزبية تلفاز 12 بوصة بتوليف UHF لكي نطلب من آبائنا أن يشتروا لنا واحداً مماثلاً لاستقبال بث القنوات اللبنانية الأرضية، والقناة الثانية من التلفزيون الإسرائيلي التي واظبت على إتحافنا بفيلمي يومي الإثنين والأربعاء من كل أسبوع. كان السلوك الامتثالي الأول هو تدجين الأرواح، وكانت الشخصية الصامتة، عديمة الشكوى والانتقاد هي الشخصية المثلى التي أرادنا النظام أن نكونها، فهو الذي يقبض على سوق العمل عبر الوظائف الحكومية ومراقبة وظائف القطاع الخاص، والوظيفة لديه أُعطيةٌ تُجزل لكل من اجتاز امتحان التحول إلى ثاني أوكسيد الكربون بنجاح، هي المكافأة الأولى للشخصية الامتثالية الخائفة والمهزوزة في أولى مراحل تشوّهها، قبل أن يتمَّ ريّها بالمحاباة والتزلّف والنفاق وهي ترتقي سلّم التقهقر الروحي، ومعه تنعم بارتقاء سلّم التطور الوظيفي، وبهذا عوّم النظام فضائل القذارة ومَسْخ روح المجتمع، وحارب الاختلاف، والشخصية المتمايزة، ورأى بهما خللاً وجوديّاً ينبغي الإجهاز عليه، وفاق في محاربته لهما أقرانه من الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفيتي السابق، والنظام الكوري بنسخته الشمالية الحالية العفنة. 

           

كان النظام أيام ديكتاتورية الأب ينهر التغيير ويبعده قدر المستطاع، ويبارك استدامة الجمود باعتباره يتفق وظيفيّاً في المعنى مع ثبات ديباجات الشعارات الكبرى المكررة صباحَ مساء، وبهذا عمّرت حكومة عبد الرؤوف الكسم سبع سنوات و296 يوماً، ثم حكومة محمود الزعبي اثنتي عشرة سنة و133 يوماً، ودخل عز الدين ناصر موسوعة غينيس حين التصقت مؤخرته بكرسي رئاسة الاتحاد العام لنقابات العمال ستّاً وعشرين سنة. بينما لم يستمر ربيع دمشق سوى سبعة أشهر بالتمام والكمال من 17 تموز/ يوليو عام 2000، إلى 17 شباط/ فبراير من العام 2001، حين سطت الأجهزة القمعية على المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية ووأدت أصواتها.   

 

ديمومة الرداءة، الصعود الثاني 

لم تتغيّر ملامح وجه النظام خلال ديكتاتورية الابن، بل تغيّر شكل هندامه بعض الشيء، فمثلما تبدلت ألوان الثياب المدرسيّة من الكاكي إلى الأزرق والزهريّ الفاتح، تبدل معها توصيف الاقتصاد من التأشيري أيام الأب إلى اقتصاد السوق أيام الابن، لكن منطق حكم البلد كما لو أنه مزرعةٌ بقي كما هو، قوًى جديدة صعدت إلى الواجهة، وأخرى قديمة من تركة الأب أُقصيت أو تم تصفيتها.

إذاً لن يتمكن السيّد "غير بيدرسون" من فك طلاسم هذا النظام إن جازف وقرأ كتاب "تاريخ سوريا الحديث" لمؤلفه هشام عثمان قطعاً، عليه أن يحزر قبل كل شيء لماذا بقي هذا النظام حتى الآن؟! بالرغم من فظاعاته الاستثنائية المسكوت عنها دولياً؟!

  

بالأمس رفع النظام السوري سعر مبيع أسطوانة الغاز المنزلي بغير مخصصات بطاقته الذكية إلى نحو 30 ألف ليرة(8،9 دولار)، ورفع كذلك سعر مبيع ليتر المازوت الصناعي من 650 إلى 1700 ليرة، لعله لن يملّ من سدّ فم عجزه بمزيد من اقتراف النهب الممنهج تحت ذرائعَ يستهويه ذكرها على الدوام، ونملُّ سماعها على الدوام، فالناس لديه هم ثاني أوكسيد الكربون الذي لفظته مطاحن مؤسساته العقائدية طيلة العقود السابقة، لا يأبه بهم  ولا بمصائرهم، ولا بمآلات اقتصاده المتداعي، بدليل موجة فرار الكثير من الصناعيين السوريين من مناطقه خلال الشهر الماضي، ولحاقهم بمن سبقوهم إلى دول الجوار، الأردن وتركيا والعراق ومصر على وجه الخصوص.

لم يخدعنا "هيجل" إذاً حين قال: "السياسة هي علم الأحياء التطبيقي" لقد كان صادقاً بهذا القول أكثر مما ينبغي.

التعليقات (1)

    HOPE مقال معبر جدا شكرا لك

    ·منذ 3 سنوات شهر
    بيدرسون مثل غيره من ساسة العالم يعرفون الواقع. المجرم والضحيه وادوات القتل والمتستر والمساعد والراعي. التعبير السخيف مؤامره كونيه الذي يتردد باستمرار حقيقة هو ضد الشعب السوري لانه اراد استبدال نظام ثاني اوكسيد الكربون ب الاوكسجين الذي اعتاد اسلافه على العيش فيه. ولكن احدى ادوات العالم لدعم قاتل وجود اشكال بيدرسون. العالم يعلم كل شيء ويتم القتل برعايه عالميه عفوا برعاية UN.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات