ثرثرة على رصيف المقهى الدستوري

ثرثرة على رصيف المقهى الدستوري
في السابع من أكتوبر – تشرين أول الجاري عقدت " وحدة دعم الاستقرار " في غازي عنتاب ملتقى ضم أكثر من مئة مشارك وضيف بالإضافة لأعضاء في اللجنة الدستورية، استعرضت فيه خلاصة مخرجات عملها على الملف الدستوري وضمّنته في كتيّب يحوي حوالي 110 مواد دستورية مفترضة هي خلاصة نقاشاتها وورشات عملها التي تجاوزت كما جاء في الكتيّب 140 ورشة شارك فيها 2000 من المشاركين وممثلي النقابات والمجتمع المدني والمحلي في بعض مناطق شمال سوريا (!) والمقيمين في مدينة غازي عنتاب التركية حصرا  (!)، وافترضت الوحدة أن هذا الإصدار الذي يحمل عنوان ( مقترح دستور من المجتمعات المحلية السورية ) يعبّر حقاً عن تلك المجتمعات المحلية التي لم تسمع ولم تُدعَ ولم تشارك بأية ورشة أو مناقشات  حتى يصدر المقترح باسمها ، فكل الورشات والملتقيات والنقاشات والمقترحات لم تخرج عن نطاق مدن إعزاز والباب وجرابلس وماحولها وبعض المقيمين في غازي عنتاب (!) أي إن تلك المقترحات الدستورية خرجت من نطاق جغرافي سوري لا تتجاوز مساحته 06 % من عموم المساحة السورية ومن مشاركين لا تتجاوز نسبتهم 001 % من السوريين الموجودين على الأراضي التركية، وبالتالي فتلك المُخرجات تعبر عنهم فحسب (!) . 

 كان لا بد من هذا المدخل لوضع الأمور في نصابها الصحيح ابتداء، بالنظر لأهمية وجوب وضع حد نهائي للاستنسابية والمتاجرة بقضايا السوريين تحت عناوين فضفاضة تزعم تمثيلها لمطالبهم وتمثيلها لهم هذا على مستوى الناحية الشكلية، أما عن المضمون والمُخرجات فبالتأكيد لدينا العديد من التحفظات عليها ولكني سأفرد مساحة هذا المقال لتناول نقطة واحدة محددة على أن يستتبع ذلك إن قُيِّض لنا ذلك مقالات أخرى تتناول نقاطاً أخرى مما تضمنه الكتيّب – المقترح  (!) . 

 ليست مواد الدستور نصاً لغوياً يُكتب على عواهنه،  أو يُدبَّج بعبارات فضفاضة تفضي إلى مضمون يحمل ألف تأويل ودلالة فيصبح أقرب إلى ثرثرة المقاهي ومسامرات مسائية بجانب الشاي والنرجيلة ... لأن كل عبارة فيه لها آثار ومترتّبات على القوانين التي ستشرَّع بعده وعلى عموم الحياة السياسية والمجتمعية التي يُفترض أن تحتكم دوماً إلى النص الدستوري ولا تخرج عنه. 

  في هذا السياق أتوقف عند مقترح نص المادة \ 8 \  الوارد في مخرجات هذا الجهد الدستوري والتي تنص على أن ( الفقه الإسلامي هو مصدر رئيس للتشريع  ) وهي عبارة فضفاضة واسعة الطيف يمكن أن يُدرج تحتها آلاف التأويلات والمرجعيات والآراء المتضاربة بما يُفقدها أي معنى يجعلها صالحة لتكون مصدراً للتشريع. 

 فما هو الفقه الذي عناه أصحاب المقترح ليكون مصدراً رئيسياً للتشريع ؟؟ أهو فقه المذاهب الأربعة؟ أم فقه ابن تيمية؟ أم فقه السلف ( الصالح )؟ ، أم ما ورد في كتب البخاري ومسلم؟  ، أم فتاوى المعاصرين؟ ، أم كل تلك الخلطة الغرائبية التي حرّمت وحللت كيفما اتفق وقالت ونسبت لله وللرسول ما لا يُقبل أو يُعقل؟. 

 داعش نفسها استمدت سلوكها وممارساتها من الفقه الاسلامي، وكذلك تنظيم القاعدة وجبهة النصرة وكل الأدوات والقوى الإرهابية والمتطرفة بنت رؤيتها للحياة وطرائق عيشها وتشريعاتها على هذا الفقه المزعوم،   فهل يصلح ذلك للقول إن الفقه مصدر رئيس للتشريع في مشروع بناء دولة القانون والمواطنة ؟!!!. 

 ولنسأل أنفسنا أولا ما هو الفقه أصلاً  ؟ .. أليس هو نتاجاً بشرياً ؟ أليس هو مجهود بشر أعملوا عقولهم في النصوص وقدموا قراءتهم ضمن معطيات معرفية لعصرهم  ؟ هل يجب أن نستمد قوانيننا وطرائق عيشنا اليوم من تراث هؤلاء المجتهدين؟، أم إننا يجب أن نبحث ونشرّع بما يتناسب مع أدواتنا المعرفية المعاصرة وبما لا يمسّ الأساس العقَدي لمجتمعاتنا ولا يناقضه ، بعدم مقاربة المحرمات المحدودة والمحددة التي قرّرها لنا الله في رسالته ، وبرفض تشريع ما يناقضها ، فلا نحلّ محرّماً ، ولا نحرّم حلالاً .. وكل ما عداها يبقى مُباحاً ، تقيده أو تنظم ممارسته السلطة المنبثقة عن الإرادة الحرة للناس .. أما اللجوء لدهاليز المنتج الفقهي وتناقضاته وفتاويه واعتباره مصدراً رئيساً للتشريع فذلك باعتقادي هو العبث عينه .. فالفقه في بعض أحكامه خالف القرآن نفسه في قضايا كالردة ورجم الزاني ... بل حتى الأمس القريب ما كان يحرّمه الـ  ( فقهاء ) والمُفتون في دولة ما ،  صار بقدرة قادر حلالاً طيباً (!) 

 وكثير من القواعد والآراء الفقهية صارت أقرب للمستحاثات منها للرأي الوازن الذي يركن العقل إليه فقاعدة ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) تدحضها علوم العصر التي تحدد صحيح الأنساب ولم يعد الفراش مصدراً لذلك .. 

 كل مستحدث في بداياته حرّمه الفقهاء لشعورهم بالذعر والعجز عن الفهم والتكيف مع هذا المستحدث، ودفع الذعر بهم لتوصيف المستحدث ( سواء أكان هذا المستحدث شيئاً مادياً محسوساً أو منتجاً فكرياً ) بالبدعة ووصموا البدعة المشتقة من العملية الإبداعية بالضلالة ومصير صاحبها النار (!) ، ثم ما لبث بعضهم أو الكثير منهم أن بدلوا رأيهم واجتهدوا وبحثوا وأمعنوا النظر مرة أخرى وجعلوه حلالاً  (!) فالقهوة كانت محرمة في مصر والحجاز وإسطنبول ومنع بيعها وشربها وعوقب من خالف ذلك، ثم انقلب الأمر وجاء من أفتى بخلاف ذلك (!)  .. التصوير كان محرماً ، والمطبعة والطباعة كذلك حرّمت لثلاثة قرون بزعم الخوف من وقوع أخطاء طباعية إذا ما تم طبع القرآن (!) ، والتلفزيون والموسيقى والنحت كلها محرمات برأي أكثر الفقهاء ثم تبدل الموقف الفقهي منها .. وهذا يدحض فكرة وجوب أن يكون ( الفقه ) مصدراً للتشريع لأنه ليس شيئاً مستقراً يمكن الركون إلى قطعية أحكامه وشموليتها كالقرآن الكريم مثلاً ، ولأنه ينحو فوراً - بسبب الفجوة المعرفية - نحو التحريم الذي هو أصلاً خاصية لله وحده دون غيره مما خلق .

 فالبشر يملكون تقييد الحلال وتنظيم ممارسته ولا يملكون الحق بالتحريم إطلاقاً لكونه تنازعاً مع الله على الولاية والحاكمية والاختصاص .. وبالتالي ما الذي يحيجنا أو يجبرنا على ارتداء ثوب فُصّل على قدّ أناس قبلنا ووفقاً لنماذج وطرز كانت بنت زمانها؟ .. ما الذي يجبرنا أن نرتدي ما قد يكون أضيق من أجسادنا فيتمزق هنا ونقوم بترقيعه وينفتق هناك ونقوم برتقه ، وهو في الأول والآخر مجرد رأي بشر مثلنا ؟!!!  . 

 وبالتالي فالقول بالفقه كأحد مصادر التشريع أو مصدراً رئيساً للتشريع هو أقرب ما يكون لثرثرات جلساء المقاهي منه لتوصية بجعله دستورياً مصدراً للتشريع .. فالإرادة الحرة للناس التي لا تقرب المحرَّمات الإلهية وهي محدودة ومعدودة، ومنظومة القيم الأخلاقية والحياتية المنصوص عليها - والمتماثلة أصلاً - في كل رسائل السماء هي ما نعتقده وما نؤمن به أن يكون مصدراً نستلهم من روحيتها ومقاصدها  التشريع لتنظيم وإدارة شؤون الناس ومصالحهم. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات