السياسة فن الممكن.. والوسطاء والمراقبون ليسوا شراً مطلقاً!

السياسة فن الممكن.. والوسطاء والمراقبون ليسوا شراً مطلقاً!
السياسة فن الممكن، ولكن الذين يستطيعون تمييز الممكن قليلون جداً.

يُنسب إلى "تيموجين" بعد أن هاجمت إحدى القبائل المغولية قبيلته واختطفت زوجته الجميلة، أنه فرّ هارباً وهو يقول: "المغفل وحده يخوض معركة خاسرة سلفاً". و"تيموجين" هذا هو الذي بات يُعرف باسم "جنكيز خان" صاحب أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ فيما بعد.

وفي تاريخ أقرب عام 1918 تذكر المصادر التاريخية عن سلوك مشابه للزعيم السوفييتي "لينين" خلال التوقيع على معاهدة "برست – ليتوفسك"، وفي التفاصيل التي تعود إلى الحرب العالمية الأولى، بعدما استحوذ البولشفيك على السلطة، كان النظام الجديد يفتقد الرغبة في مواصلة الحرب، ففي الثامن من نوفمبر، وهو اليوم التالي لاستحواذ البولشفيك على السلطة أعلن النظام الجديد عن نواياه فوراً بإنهاء حالة العداء مع الجيش الألماني وفتح المفاوضات لتحقيق سلام عادل وديمقراطي. في تلك الأثناء كان الموقف العسكري الروسي حرجاً، حيث كانت القدرة القتالية للجيش الروسي متدهورة، ومن الناحية الفعلية، تلاشى الجيش الروسي كقوة قتالية بشكل كبير بعد ثورة نوفمبر.

وعلى الرغم من أن التوصل إلى شروط الهدنة قد تم بشكل سهل نسبياً، أصبح واضحاً للوهلة الأولى أن الموقف الألماني من شروط السلام أصعب بكثير مما توقعه الروس. حيث تضمنت الطلبات منح الاستقلال لبولندا الروسية ودول البلطيق، وبتبجّح، وبطلب غير محدد، أن يتم تحويل ممرات أوكرانيا إلى بولندا. فاجأت الطلبات المتشددة الروس حيث انهار وبكى أحد المفاوضين الروس وهو "ميخائيل بوكروفسكي" عند سماعها.

شهد الحزب الشيوعي البلشفي انقساماً عميقاً بخصوص قبول الشروط الألمانية، وتمثل الانقسام بثلاثة مواقف: الموقف الأول بقيادة "نيكولاي بوخارين" وكان ضد فتح مفاوضات سلام مع ألمانيا وطالب بوقف التفاوض مع ألمانيا الإمبريالية وإنشاء جيش ثوري من المتطوعين فوراً.

 والموقف الثاني: هو موقف "تروتسكي" ويمكن تلخيصه بشعار "اللاحرب واللاسلم"، فقد وجد تروتسكي أن الشروط الألمانية لمعاهدة "برست – ليتوفسك" لا يمكن قبولها، واقترح أن يعلن الروس إنهاء حالة الحرب وإنهاء حالة التعبئة في الجيش دون التوقيع على أي سلام، وفي هذه الحالة لن يستطيع الألمان الهجوم على القوات الروسية بعد إعلان انهاء الحرب. 

الموقف الأخير: هو موقف "لينين" الذي جادل بقوة لصالح قبول الشروط الألمانية دون تأخير.

باختصار شديد، فقد تبنّى الروس عرض "تروتسكي" القائل باللاحرب واللاسلم، لكن الرياح لم تأتِ كما تشتهي القيادة الروسية، وفي السابع عشر من فبراير تخلّى الألمان عن الهدنة وأخبروا الروس بأنه سيتم استئناف العمليات العسكرية. ومن ثم، فقد عاود الروس مناقشاتهم الداخلية على الفور، وبعد تهديد لينين بالاستقالة، قرروا التوقيع على معاهدة سلام مع ألمانيا لإنهاء الحرب.

 قدّمت ألمانيا للروس طلباتها الجديدة الأشد قسوة، وبعد مزيد من المناقشات قبل الروس الشروط الألمانية. وفي الصياغة النهائية لمعاهدة "برست – ليتوفسك"، أعطى الروس لألمانيا ثلاثة أرباع الحديد والصلب الخاص بروسيا، و26% من شبكة السكك الحديدية، و26% من سكانها والكثير من الأراضي الخصبة.

قبل الروس هذا السلام المُذلّ لأنهم في حالة من الضعف لم تهيّئ لهم بديلاً آخر. وهذا واضح، لكن السؤال الأهم؛ لماذا لم يستغلَّ الألمان ضعف النظام الروسي، ومطالبة القادة الروس بالاستسلام النهائي وتسليم كل ما لديهم. أي، تسليم روسيا بالكامل؟ وبشكل أعم، لماذا يَعرِض الأقوياء على من هم أضعف منهم بعض المغريات مقابل التنازلات رغم مقدرتهم على الحصول عما يريدون بالقوة؟

يُعتقد أن توفير الموارد البشرية والموارد المادية يعتبر من أهم الأسباب التي تدفع الأقوياء لجعل مطالبهم مقبولة إلى حد ما، ففيما ورد عن معاهدة "برست – ليتوفسك"، يمكن على سبيل المثال تصور أن الألمان طلبوا من القادة الروس الاستسلام الكامل دونما قيد أو شرط؛ في هذه الحالة سيجد القادة الروس أنفسهم مضطرين للرفض، وعلى افتراض أن القوات الألمانية تمكنت من اجتياح روسيا بالكامل؛ فهي في هذه الحالة لابد أن تتكبد بعض الخسائر بالأرواح والعتاد، كما إنها بحاجة إلى الإبقاء على أعداد كبيرة من القوات المسلحة لمسك الأرض التي أخذتها عنوة، وهذا المقصود بتوفير الموارد الذي يدفع القوي لتقديم بعض التنازلات، أو لنسمِّها عدم الوقاحة المفرطة في طلبات التنازل والاستسلام.

يروي التاريخ أن أغلب من أتقنوا "فن الممكن" استطاعوا العودة وبقوة، فالمسلمون فتحوا مكة بعد صُلح الحديبية، و"تيموجين" أصبح "جنكيز خان" صاحب أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، والاتحاد السوفييتي ساهم بشكل فعّال بإسقاط ألمانيا النازية وأصبح من بعدها أحد قطبي القوة في العالم. لذلك، ينصح "روبرت غرين" في كتابه "قواعد السطوة" بسحق العدو سحقاً كلّياً، فإذا تركت جمرة واحدة مشتعلة مهما كان احتراقها داكناً خافتاً، فإن ناراً ستندلع منها آخر الأمر. فالعدو سوف يتعافى وسيبحث عن الانتقام. لذلك يجب سحقه لا جسدياً فحسب، بل في الروح كذلك.

مما سبق، يمكن القول إن الموقف يختلف حسب طبيعة العدو وطبيعة الصراع، فالعدو عندما يكون قريباً ويشكل خطراً داهماً، وهو طرف واحد، فمن الأفضل سحقه والتخلص منه نهائياً مهما احتاج الأمر من موارد، وتحدث هذه الرغبة لدى الطرف الأقوى عندما تكون كمية الحقد مرتفعة بين طرفي الصراع، وتتجلى هذه الحالة بصورة واضحة في الحروب الأهلية حيث تبلغ القسوة والرغبة بسحق الخصم حدوداً غير معقولة. رغم ذلك، يفشل الطرف الأقوى، في أغلب الأحيان، في تحقيق مراده، ويرجع السبب في مثل هذه الحالات إلى وجود الوسطاء والمراقبين.

من هنا يمكن القول: لا يعتبر وجود الوسطاء والمراقبين، أو المنخرطين في النزاع كداعمين لأطرافه شراً مطلقاً بالضرورة، بل غالباً ما يكون هؤلاء أكثر وعياً بالممكن من أطراف النزاع الأصليين، إذ غالباً ما تسيطر على هؤلاء الرغبة الجامحة بالانتقام والتنكيل بالطرف الآخر ومحوه إن أمكن.   

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات