(الرجل الذي باع ظهره): التغريبة السورية في وثائقي مؤلم

(الرجل الذي باع ظهره): التغريبة السورية في وثائقي مؤلم
لعل ما تقدمه كاميرا المخرجة التونسية -الفرنسية (كوثر بن هنية)، وخصوصا في فيلمها الأخير(الرجل الذي باع ظهره) يبدو ببساطة مقاومة لنزع الروح عن إنسانيتنا، فالفيلم شاشة سوداء عميقة عن التغريبة السورية، فيلم يحاكي الخيال فيه الواقع، انغمس الجمهور معه في الوعي واللاوعي.

صفقة الظهر

يروي الفيلم قصة سام علي، الشاب السوري الذي يضطر بعد اعتقاله اعتباطياً إلى الهرب من بلده سوريا الغارقة في وحشية آلة حرب نظام الأسد ودماره، تاركاً الفتاة التي يحبها ليلجأ إلى لبنان. وبسبب عدم امتلاكه الوثائق الرسمية للحاق بحبيبته إلى بلجيكا، يعقد سام علي صفقة مع فنان أمريكي واسع الشهرة، تقضي بمساعدته بالحصول على فيزا شنغل تمكنه من الدخول إلى أوروبا، مقابل السماح للفنان باستخدام ظهر الشاب، للرسم عليه وعرضه أمام الجمهور.

الحلم والواقع

في عالم فيلم (الرجل الذي باع ظهره)، سينما يتمازج الواقع فيها مع الحلم، الواقع التغريبة السورية، سينما تقدم واقعا عن الموت والوجع والقهر السوري، تفصيلات يتساند فيها كل من الواقع والحلم، والحلم في الفيلم الهروب، ولكنه هروب من واقع خاص، وتستلهم المخرجة الواقع من ينبوع الآلام، حيث بطل العمل، شاب سوري يصبح فيها حياته كحياة باقي الشباب السوري، يغتال فيها النظام الحلم، فترسم المخرجة الواقع بنسيج من أحلامها، وبهذا تنتج فيلماً، يحمل آلامه وأحلامه وآماله بين طياته، وتجعل التغريبة السورية"مرثية للعالم".

السينما في فيلم (الرجل الذي باع ظهره)، لغز عميق تغوص فيه كل الفنون، واختارت المخرجة كوثر بن هنية، الشراكة بين حركة الكاميرا وأنامل فنان تشكيلي، لتُخرج لنا عملاً يقارب كاملاً صنعةً وتقانةً، والكاميرا تتجول بين إخراج يمكن القول عنه"إبداع"، وفنان يبدع تشكيلياً، وموسيقى يمكن القول عنها أنها"باهرة".

السينما في فيلم (الرجل الذي باع ظهره) تتمتع برأي ورؤية؛ إنها الرؤية الفلسفية والشعرية التي تصوغ المأساة، فالقصة الكبرى "بسيطة"، وذات لمسة إنسانية درامية مفعمة بالشاعرية والتأملية، والغموض"المرتكب"يخدم الوهلة القصدية المركزية لحركة الكاميرا، الفيلم كالحلم الفيلم كما الموسيقى، له قدرة فنية على النفاذ إلى ما وراء الإدراك العادي. اللقطة السينمائية هنا الآن؛ ملامسة العواطف في أعماق الروح"وجع التغريبة السورية"، الوجع الذي يلامس ضفاف الروح، والهروب موت بشكل شاق روحياً ينفذ للموت السوري الجمعي.

جمالية السينما هنا؛ أنها تحرك الكثافة العاطفية الكبيرة في قلوبنا، الثورة السورية في"السيناريو المفقود"؛ حافلة بالمشاعر والانسجام والتناغم الروحي، الذي يستمد ذلك من التغيير الذي أصاب الفرد السوري الثائر، وعلاقته بالزمان والمكان، وموسيقى الثورة"حرية"، والصورة البديعةو"الصمت الخالد"للعالم. الثورة هي الاشتغال الفني الذي يؤسس لعلاقة لطيفة بين المشاهد والفيلم، وجوهر الثورة في الفيلم، هي جوهر الفن، والغموض المربك للمشاهد ينتقل بين الفن والواقع.

وهنا يطرح فيلم(الرجل الذي باع ظهره)السينما كواقع حي يعارض السلطة والمؤسسات السلطوية، نتيجة ذلك يمكن القول:أصبح للثورة على الاستبداد، سينما.

الحرية بين عالمين متناقضين

الهجرة الناجمة عن الثورة، سر نجاح المخرجة االشابة كوثر بن هنية، عالم الهجرة الحاضر في رزنامة وسائل الإعلام ومتابعاتها الآنية واليومية، والتركيز على ما هو إنساني، والتركيز على تفاصيل خصوصياته، التركيز الذي لم يتفق مع رؤى نقاد آخرين؛ أرى هذا التركيز الذي استبعد التجريد، الذي يراه آخرون إدانة، ونقل عالم الخبر اليومي وعالم المعاناة والألم، إلى عالم على تماسٍ مباشر معه، عالم الفن والجمال والمجتمع المخملي وزرعه في عقل اللاجئ السوري الذي باع ظهره ليصبح لوحة فنية ترسم على ظهره فيزا الشنغل"الحلم الأوروبي".

هناك عالمان متناقضان نجد كاميرا المخرجة تلاحقها وهي ذاتها كتابة السيناريو في آن معاً، عالمان لكل منهما تفصيلاته:العالم الأول عالم المهاجرين من القمع والحالمين بالحرية، والثاني عالم الفن المعاصر وعماده الحرية، أيضاً.

ولكننا نجد أنها حرية"مزيفة"في العالمين؛ الأول:يتبدى فيه حلم اللاجئ من خلال واقع اللجوء والهجرة، حيث يبقى أمام هذا اللاجئ دخول معركة الاندماج لمقاربة تجسيدية، يظهر بطل الفيلم مستعملاً لغته الإنكليزية الركيكة في بلد لا يتقن قاطنوه الإنكليزية ويتكلمون الفرنسية، التي لا يتقن منها بطل الفيلم شيئاً ، هذا من جهة. من جهة أخرى تسليع الإنسان، بمقاربة أخرى، تجسيدية البضائع تعبر إلى الحلم الأوروبي، ولكن الناس الهاربين من ويلات الحرب التي يشنها النظام في دمشق على شعبه غير قادرين على الدخول.

فتتحول معالجة كوثر بن هنية إلى صرخة عالم الاستهلاك والفرجة، حسب تعبيرات المفكر الفرنسي غي ديبور، وعالم الاغتراب والاستلاب الإنساني، حيث يتم تسليع كل شيء؛ مقاربة تجسيدية، حيث يختلط الحقيقي والوهمي والزائف، ويستحيل فيه الوجود إلى مجرد مظهر، الرجل في المتحف في بلجيكا يمنعه الأمن من الرد على سخرية تلاميذ المدارس الزائرين للمتحف. هذا هو تسليع كل شيء، هنا الآن.

نجحت المخرجة التونسية كوثر بن هنية بمعالجة ما تحمله الثورة السورية من قصص إنسانية تراجيدية بكل تعقيداتها وملابساتها، واعتبارها جزءاً من مأزومية المجتمع المعاصر، الذي باتت الحروب والمآسي مثيرة للفرجة؛ تنعكس هذه الأشياء في طوفان الصور والتمثيلات التي تُدوّرها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وشركاتها العملاقة التي تجني ربحاً طائلاً بل خيالياً.

شكك البعض عندما أعلنت المخرجة التونسية-الفرنسية (كوثر بن هنية)، عن عزمها مقاربة الموضوع السوري، وعبّر النقاد عن خشيتهم من غرق المخرجة في تفصيلات وملابسات وتعقيدات الوضع السوري؛ ولكن وصول الفيلم للعرض في أهم المهرجانات والتصفيق الحار والجوائز الهامة التي حصدها، ووصوله للقائمة القصيرة لأوسكار، يدل على أن المخرجة الشابة ربحت وفيلمها للتحديات التي وضعتها في نصب عينيها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات