عثمان العائدي: اعتقل بزمن البعث وصودرت أمواله وسيرته أمثولة نهوض

عثمان العائدي: اعتقل بزمن البعث وصودرت أمواله وسيرته أمثولة نهوض
بتاريخ الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، رحل رجل الاقتصاد والمعرفة وأحد أعلام التاريخ الدمشقي، رجل الأعمال عثمان العائدي، صاحب سلسلة فنادق الشام التي كانت ملتقى الأدباء والشعراء ومقرا لانعقاد مهرجانَي دمشق المسرحي والسينمائي عن عمر يناهز التسعين عاماً. (مواليد دمشق 1931) وقد اختارت أورينت نت في سلسلتها (مقالات سورية مختارة) هذا النص للكاتبة سعاد جروس الذي يحمل الكثير من المعلومات الهامة عن مساهمته في الصحافة والثقافة وحماية وإنقاذ الآثار، وهي نتاج سلسلة حوارات طويلة معه يتضمنها كتاب وافٍ أعدته عن حياته. (أورينت نت) 

منجز وطني

عندما التقيت الدكتور عثمان العائدي في صيف عام 2018  لأعرض عليه فكرة إجراء حوار مطول معه حول مسيرة حياته حملت إليه كتابي (من الانتداب إلى الانقلاب سورية زمان نجيب الريس) و(صحافي المسافات الطويلة حوار مع رياض نجيب الريس) كي يكّون فكرة عن طريقتي المهنية في السيرة الذاتية، وحرصت أن أخبره أن سرّ فضولي للتعرف على ما خفي من شخصيته الغامضة هو تمويله لترجمة  كتاب فيليب خوري (سورية والانتداب الفرنسي/ سياسة القومية العربية 1920 ـ 1945) الكتاب الذي غيرني، كأهم مرجع صوّب قراءاتي لتاريخ سوريا المعاصر، والذي كلما عدت إليه شعرت بعميق الامتنان لكل من ساهم بنقله إلى العربية.

 قلت له إن هذا العمل منجز وطني لا تقل أهميته عن بناء المشاريع التنموية والسياحية، ورويت له قصة طريفة عن فيليب خوري سمعتها من أستاذي رياض نجيب الريس، أنه عندما كان يوسف الأيبش وفيليب خوري يدرسان في الجامعة بأمريكا، كان يوسف كسولاً ينام حتى وقت متأخر من النهار، بينما فيليب نشيطا يصحو مبكرا ليمارس رياضته الصباحية قبل الذهاب إلى الجامعة، إحدى المرات تأخر يوسف بالصحو إلى درجة أغضبت فيليب خوري، فهب يوقظه بعصبية قائلا ً:"انهض تنشط .. افعل شيئاً إسكندر المقدوني عندما كان في سنك فتح العالم، فأجابه يوسف الإيبش ببرود: إسكندر المقدوني كان معلمه أرسطو أما أنا فمعلمي نقولا زيادة". ضحك الدكتور العائدي معلقا: حلوة. قبل أن يروي قصته مع فيليب خوري، الذي عرفه عن طريق صديقه الدكتور هاني الهندي أحد مؤسسي حركة القوميين العرب إلى جانب جورج حبش ووديع حداد. والده محمود الهندي أحد ضباط الملك فيصل أثناء وجوده في دمشق. قال: "عندما جاء فيليب إلى دمشق أخبرني الدكتور الهندي، أنه يريد مقابلتي للحديث عن دمشق فترة الانتداب، التقينا في جلسة امتد فيها الحديث عدة ساعات، ثم استأذن بنشر المعلومات التي وردت في حديثنا فاشترطت عليه نشرها دون ذكر اسمي. واتفقنا على عقد جلسة أخرى للحديث مطولا عن دمشق الثلاثينيات. لكن تلك الجلسة لم تحصل. ثم سألني كم جلسة سنحتاج؟ . وخشية رفضه لمعرفتي بضيق وقته أجبته: حوالي ست جلسات على مدى شهرين. وانتهى اللقاء بدون وعد أو حتى إشارة للتفكير بالأمر.

اعتقل في زمن البعث وملأ سد الفرات

بعد شهر كانت المفاجأة باتصاله بي هاتفياً ومبادرتي بالترنم: "يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلام" قائلا: كنا نردد هذا النشيد في المظاهرات ضد الانتداب الفرنسي، وحدثني عن جريدة (القبس) واصفاً صاحبها بالوطني الغيور، "لقد أيقظ كتابك ذكريات الشباب حين كانت سوريا تنتفض في وجه الانتداب"، وكرر أكثر من مرة جملة لا أنساها: "أنت بتخوفي" التي التقطتها كإشارة للموافقة على حوار مطول.  سيبدأ في أيلول 2018، لينتهي في 26 أيلول 2019 والذي صادف يوم وفاة صديقه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك. في ذلك اليوم كانت آخر جلسة من خمسين جلسة بعدد ساعات تجاوز التسعين ساعة، انصرفت بعدها لإنجاز صياغة كتاب يكشف بعضا مما خفي من قامة دمشقية سامقة لعبت أدواراً مؤثرة في التاريخ السوري المعاصر بدءاً من حياة والده الدكتور منيف العائدي صاحب الأيادي البيضاء في التعليم والطب ومن ثم دراسة عثمان العائدي في فرنسا لهندسة السدود والعلوم المائية والعلاقات الهامة التي شبكها في أوروبا والعالم ، ومرورا بمساهمته في مشروع تجفيف سهل الغاب وبناء السدود والإنشاءات أيام الوحدة السورية المصرية ومد شبكة الربط الكهربائي ومشروع المياه الجوفية المجهض وقصة اعتقاله عام 1966، ودوره المثير في ملء سد الفرات عام 1973 وليس انتهاء بإنشائه (الشركة السورية للمنشآت السياحية) وتحويل مبنى تجاري أصم إلى قلعة سياحية في قلب دمشق وإحياء آثار آفاميا وإنقاذ آثار الجرف الأحمر وغيره الكثير الكثير، مع التعريج على عمله في الصحافة اللبنانية وقصته مع فندق السان جورج والحرب اللبنانية وغيرها من ذكريات مما جادت به ذاكرة رجل أدمن الصمت و تمرس بإحكام إغلاق ذاكرته. فلا ينتشي باستعراض إنجازاته ولا يعبأ بما يثار حوله من أقاويل لأن قافلته التي انطلقت في الخمسينيات ظلت تسير رغم الفخاخ الكثيرة والمطبات الوعرة.

ثري زاهد بالمال

خرجت من معرفتي به خلال عام من الحوارات بانطباعات ألخصها بالقول إنه الثري الزاهد بالمال، المنهمك بالعمل إلى حد التقشف بالذات، المال ليس للإنفاق بغير وجه حق، إنما المال يصرف لمن يحتاجه بحق، لا سفاهة ولا تبذير لثروة تجنى كي توظف في استثمارات تنمي البلاد وترتقي بالعباد. كتطبيق عملي لمقولة المتصوفة (الغنى عن الشيء لا به). وأقول بكل ثقة أن الدكتور عثمان العائدي نموذج العقل الاقتصادي الدمشقي المدعوم بالعلم والمعرفة وسعة الاطلاع على التجارب العالمية، فهو طوق الذهب العتيق المتوارث على صدر الشام، زينة أيام عزها، وذخيرة أيامها العجاف. 

فالعائدي ظل على وفائه للشام لم يهرب منها يوم التأميم حين فرّت رؤوس الأموال، ولا يوم اعتقل وذاق أشد أنواع التعذيب، ولا يوم صودرت أمواله المنقولة وغير المنقولة، ولا يوم جاءت الحرب على منشآت بناها بكدّ السنين، وظلت كلمته: "أنا لم أفعل شيء غلط لأهرب.. البلد بلدي وسأبقى فيها.. المال اللي ما ببلدك ما إلك ولا لولدك.. أريد أن يبقى اسم الشام عاليا"

المصدر: صفحة الكاتبة سعاد جروّس الشخصية على (فيسبوك).


لقراءة مقالات أخرى في هذه السلسلة اضغط على الرابط التالي:

مقالات سورية مختارة

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات