العشائر وإعصار الثورة السورية: ثقافة تحت الهودج!

العشائر وإعصار الثورة السورية: ثقافة تحت الهودج!
 إنّ إشكالية شخصيّة "شيخ العشيرة" على مرّ التاريخ منذ أن أخذت المجتمعات القبلية شكلها، وتبلورت صورتها ككيانٍ متماسكٍ موحّد، هي إشكاليّةٌ مرتبطة بضرورةِ تحديد تشكّل مجموعة من البشر يرتبطون بعلاقات قربى ذات درجات متفاوتة، حيثُ أنّ موريس غوديليه يرى أنّ القرابة بحدّ ذاتها لاتشكّل مجتمعاً محلّياً، وإنّما يرتبط ذلك بالعلاقات السياسيّة والعرفيّة والدينيّة والجغرافيّة بين هؤلاء البشر.

 لذلك فإنّ تطوّر القبيلة السوريّة التاريخي قد تمرحل تاريخيّاً من كونها مجتمعاً عضويّاً مستقلّاً في انتماء مجموعة من الأفراد إليه، يطلب من أفراده ولاءات عرفيّة معيّنة، إلى كيان ثقافي يشكّل جماعة داخل المجتمع السوري، لا يستطيع فرض آراء ومواقف سياسيّة على أفراده.

وعلى هذا، لم تكن القبيلة السوريّة كياناً واحداً، من العثمانيين إلى الفرنسيين، المملكة السورية، العهد الوطني، حتّى عهد البعث، وصولاً إلى الثورة السوريّة 2011, والباحث في تلك الحقب سيلاحظ شيئاً واحداً واضحاً وهو: أنّ الانفصال بين رأس وجسد القبيلة كان واضحاً، وأنّ شخصيّة شيخ القبيلة لم يكن ليمثّل قبيلةً ولا حتّى فخذاً فيها، بل كان يمثّل مصالحه مع الكثيرين من المرتزقة الّذين يميلون مع الريح والمال دائماً، وهذا ما يثبت أنّ خللاً ما موجود دائماً في تعاطينا مع أيّ مجتمع عشائري، فالثقافة الّتي يبنى عليها هي ثقافة متوارثة، قائمة كما هو الحال على إقصاء قاعدة الهرم والصعود على تكتّلهم، والتفرّد بالمنفعة والبحث عنها، وإيهام الناظر إلى هذا المجتمع بأنّه جسدٌ واحد ربّما، دون إظهار الخلل الموجود في الرأس.

عمل النظام الأسدي منذ بداية الثورة على الاستعانة بغالبيّة شيوخ العشائر السوريّة، لاسيما أنّ الثورة اندلعت في المناطق الّتي تتّخذ طابعاً عشائريّاً، وقدّم لهم الدعم من مال وسلاح وقدرة على التواصل مع كبار قادته بشكل مسهّل، وقد تبلور هذا التوجّه في مؤتمر العشائر بداية  2012 وتعيين وزير للدفاع ذي خلفيّة عشائريّة.

أمّا في حلب فقد كان الأمر أكثر تأزّماً، تبعاً للتمزّق المجتمعي والتمايز الطبقي والثقافة الحلبيّة المشهورة "الشاوي، الضيعجي، الحلبي" وهذا مااستغلّه النظام في دفع الكثير من شيوخ القبائل لجمع المحكومين للمال والجهل وزجّهم في عمليّات الإجرام الناتجة في حقيقتها عن صراع قديم بينَ الرأسماليّة الحلبيّة والبروليتاريا الريفيّة إن صحّ التوصيف.

 

أمّا الثورة السوريّة فلم يستطع شيوخ القبائل الأسديّون إرغام أفراد القبائل على اعتناق موقفهم، بل كان لهم الذراع الأقوى في النضال الثوري، لاسيما أنّ تكوين القبيلة الاجتماعي والثقافي لم يعد كما كان قبل نصف قرن… وكان نضالهم أكثر صعوبةً تبعاً لما واجهوه من المتحكّمين في مناطقهم من أبناء جلدتهم فضلاً عن النظام. 

 إنّ جميع الدراسات والمقالات الّتي تتحدّث عن أنّ الثورة لم تستقطب المكون العشائري لصالحها هي مغلوطةٌ جدّاً، وقائمة على عدم فهم المكوّن القبلي السوري، وعدم قدرتها على التفريق بين المجتمع وبين ممثّلين وتبعٍ للممثليِن لهذا المجتمع.

كان هذا سبباً في انقسام الكثير من مدّعي المشيخة بين أطرافٍ كثيرةٍ تبعاً لواقع الحال الذي فرض أن تكون بلده تحت سيطرةِ طرف ما لا أكثر، فأُجبر على أن يسير مع التيار السائر، أو الميل للأقوى أو البحث عن داعمٍ لا يهم من هو وأين هو، وقد تمّ عقدُ مؤتمراتٍ كثيرةٍ من طرف النظام أو المجالس المعارضة أو قسد، وحتّى التيّارات الإسلامويّة، ورغمَ أنّ في كل مؤتمر انعقد -وبغض النظر عن الجهة الراعية له- كان يضمُ ذات أسماء القبائل المشاركة في المؤتمرات الأُخرى، وجميعها لم تتّفق على شيء سوى ما أُمليَ عليها، دون أن يكون لها فاعليّةٌ حقيقيّة على أرض الواقع.

فتنظيم "قسد" عقد عدّة مؤتمرات ولكنّه ركّز على فكرة قبائل شرق الفرات والقائمة على الجغرافيا لا العرق، لإضفاء صفة شرعيّة على وجودهم، وانتزاع ورقة تمثيلهم في أيّ مفاوضات، كذلك سعت بعضُ دول الخليج على إعادةِ إحياء الرابط العرقي كي يكون لها ورقة رابحة ظاهرياً فاشلة حقيقةً في الملف السوري، وهناك تمّ تشكيل الكثير من المجالس العسكريّة العشائريّة، والّتي لم تغنِ أو تسمن.

وحتّى بعد اندحار تنظيم داعش من الأراضي السوريّة، عادت العقليّة القبائليّة البالية على السطح لتطفو بعد أن غرقت في دماء السوريين الأحرار، متمثّلة آنذاك في أحمد الجربا رئيس تيار الغد السوري في أيلول 2017 حينما أقام لقاء تشاوريا عشائريا في القاهرة، وقد تزامن مع إعلان ابن عمّه دهام الجربا عن تشكيل "قوّات الصناديد" وهي أيضاً ذات صفةٍ عشائريّة تسير مع السائر وتحطّ رحالها عندما يحلّ الظلام، ومن المفارقة العجيبة أن يقوم شخص كالجربا بتشكيل تيّارين متناقضين آيديولوجيّاً وثقافيّاً حتّى في الاسم، "تيار الغد السوري، مجلس عشائر الجزيرة" وإن كان يدل فإنّه يدل على عدم وجود رؤى سوى رؤى أعمى عيونها الغبار والرمل القادم من الربع الخالي.

أمّا تركيا فقد فشلت تماماً في تعاطيها مع المكونات السوريّة لعدم وجود الخبرة أو الرؤيا الّتي إن وجدت فإنّها تشبه رؤية "رجالات تحت الهودج".

 

إنّ العقليّة الحاكمة لفكرة "الشيخ" ومن يجسّدها هي عقليّة تكاد تغرق بالغبار الخفيف المتكثّف، الناتجة من بدايات نشأة المجتمع البشري على الأرض السوريّة، ومافيه من ثقافة الرعي كونه أوّل ما امتهنه ذلك المجتمع قبل خمسة عشر ألف عام، والقائم على أنّ القطيع يحتاج إلى راعٍ يقوده أينما وكيفما ومتى شاء، دون أن ينظر خلفه، هو فقط يمشي، ولا يعلمُ أنّ هذا التجمّع البشري الّذي كان خلفه قبل آلاف الأعوام تشعّب وأخذت الفردانيّة تحكمه، ولم يبقَ خلفه سوى الحمار والمرياع الخصي.

ورغم تعدد المجالس الممثّلة للعشائر السوريّة، إلا أنّها بقيت مجالس صوريّة، يرتادها المرضى من الهائمين بين الألفاظ البدويّة المصطنعة والطقوس المضحكة والملابس الّتي تعكس فكرة "الهودج" بين الحين والآخر من أجل إشباع إدمانهم الوهمي على تفاصيل غريبةٍ جدّاً، يلتقطون الصور التذكاريّة بوضعيّات سينمائيّة والّتي بذاتها اندثرت بعد دخول الكاميرا إلى سوريا بأعوام قليلةٍ.

 

وحتّى المجلس الوطني ثمّ الائتلاف السوري لقوى المعارضة، لم يستطع أيّ منهما أن يستقطب شخصيّات مؤثّرة حقيقةً في مجتمعهم، بل كان اعتماده على تمثيل فردي يفيد في إعادة رسم اللوحة الفسيفسائية الّتي كان يرسمها النظام سابقاً بتمثيلاته لمكونات المجتمع، وراحوا يطالبون العشائر أن يكون لها موقف موحّد، راجين ممّن لايمثّل إلّا عقليّته وعقليّة المجلس الّذي ينتمي إليه بما لا يستطيعه أبداً ولم يستطعه أيّ مجسّدٍ لفكرة المشيخة الأسطوريّة، وهذا ماترك أبناء المجتمع السوري من العشائر يواجهون قدرهم في مواجهة النظام أوّلاً، وتفاهة نظريّات الشيوخ الخنفشاريّة الّتي أثقلت كاهلهم ثانياً.

تسبّبت الثورة السوريّة بإعصار مزّق هذه النظريّة ومعها الصورة الكلاسيكيّة عن القبيلة، وهي خدمةٌ جليّةٌ لسوريا الوطن، وهي أنّها أقصت الولاء لما سوى الوطن، ولكنّ المصابينَ بمتلازمةِ الموروث والعباءة والهودج مازالوا يحاولون إعادة إحياء الولاء لفكرةٍ بائدة، فمن المخجل أن تنتج ثورةٌ ما بحجم الثورة السوريّة ثقافةً قبليّة وتبعثها من الغبار والرمال.

إنّ هؤلاء الرجالات "رجالات تحت الهودج" الّذين يهيمون في خيالات البدوي المتمثّل بما وصفه الاستشراق عنه، مازالوا يحرثون في الرمال المتحرّكة، مازالوا يعانون من شيزوفرينيا مزمنة، يتلثّمون خوفاً من الرمال وهم في روضةٍ شاميّة، وبينما هم في فنادق هيلتون وفور سيزن وبريستول، مازالوا يغمضون أعينهم ويغنّون على آلام السوريين أغنية:

"تحت هودجها وتعالجنا، صار سحب سيوف ياويل حالي"

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات