تركيا والثورة السورية: هل أباحت الضرورات المحظورات؟

تركيا والثورة السورية: هل أباحت الضرورات المحظورات؟
 في عالم محكوم بوسائل الإعلام والتجاذبات السياسية التقليدية، تصبح مسألة الحكم على سياسات الأنظمة مسألة رفاهية ثقافية ونظرية أحياناً كثيرة..  فبنظر القانون كما بنظر الشعوب البسيطة العدالة عمياء، ولكن لا يجب أن يكون القاضي أعمى على الإطلاق، ومن شؤم التاريخ أن تترافق نهضة تركيا مع بزوغ شمس الثورات العربية وخاصة المجاورة لتركيا، كالثورة السورية، فماذا كسب الأتراك من التحامهم بمشاريع الثورات؟ -أو بالأحرى- لمَ يفضل الأتراك التنازل عن مقدراتهم القومية لصالح الشعوب البسيطة إلى حد ما؟!

 

ورقة التوت التي عرّت التوحش الأقلوي المدعوم عالمياً!

 لم يكن بحسبان السوريين يوم ثاروا أن أحداً سيسعى لاستئصالهم تماماً من بيوتهم وقراهم ومدنهم التاريخية، وطردهم من بلادهم وتشرديهم في أقاصي الدنيا والتنكيل بهم أمام مرأى العالم أجمع.

 كانوا يحلمون بشيء من كرامة الإنسان التي اصطدمت بالتكفير وروايات الثأر الشيعي من قتلة الحسين، والإلحاد الماركسي المتلون ببراغماتية قومية ساذجة والقادم من جبال قنديل، والأحقاد المعتقة بمظلومية العزلة في جبال النصيرية، والهوى المسيحي الذي يمنّي النفس بظهور إمارات وحملات صليبية جديدة لدى قسم من  المسيحيين الذي يفضلون نار الأسد ومخابراته وقمعه وجلاديه ولا جنة الحكم السني كما تصوره خيالاتهم الدينية التي لا تمت لرسالة السيد المسيح بصلة. 

لم يكن بحسبان السوريين يوم ثاروا أن أحداً سيسعى لاستئصالهم تماماً من بيوتهم وقراهم ومدنهم التاريخية، وطردهم من بلادهم وتشرديهم والتنكيل بهم أمام مرأى العالم أجمع. كانوا يحلمون بشيء من الكرامة التي اصطدمت بالتكفير وروايات الثأر الشيعي من قتلة الحسين، والإلحاد الماركسي المتلون ببراغماتية قومية ساذجة

كانت كل  المصدات والصدمات تفعل الأفاعيل بالشعب السوري البسيط عقائدياً والمكبوت حضارياً منذ عقود. وعدا عن مواقف الأقليات.. لم يكن بمخيلة السوريين أن الدول العربية والإسلامية ستشاهد المذابح بحقهم والقصف الجوي يحرث مدنهم وقراهم، والكيماوي يقتلهم وهم نيام اختناقا، ثم تقف متفرجة، بمعنى من المعاني: لم يكن السوريون يدرون بحجمهم الديمغرافي والاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، حتى وقع ما وقع من ويلات على كاهلهم، كل هذا بشهادة جميع الدول والشعوب حلفاء كانوا أم خصوما! 

ولعل إغراق سوريا بالجيوش الأجنبية والميليشيات والعصابات القادمة من خارج الحدود، لم يكن إلا إذعانا ببدء مواجهة مصيرية، لم ولن تحسم عبر التاريخ لصالح قوى أجنبية، فسياسات الأرض المحروقة وموجات التهجير المليونية والتنكيل بسبب وبلا سبب في السجون والمعتقلات الغنية عن الوصف والتعريف، واحدة من فصول المواجهة الدموية، التي لا حول ولا قوة للسوريين العزّل بمواجهتها، بكل صراحة: 

لم تكن تكفي دعوات الوزراء والقادة العرب لإسقاط النظام لسد رمق السوريين الذين يواجهون حمم الطائرات الروسية والأمريكية وعشرات الدول الأخرى، ومئات الميليشيات المتنوعة دينياً وعرقياً، وسندان التجويع، ومطرقة المعتقلات. علينا أن نعطي الواقع حقه، فالسوريون لم يبخلوا بأجسادهم وأموالهم وأرواحهم في محاولتهم التغلب على قوى الاحتلال، لكن هذا لا يعني أنهم انتصروا في معاركهم بالمفهوم العسكري، ولا يعني بالضرورة أنهم هزموا المعركة قد حسمت لأعدائهم! 

السوريون لم يبخلوا بأجسادهم وأموالهم وأرواحهم في محاولتهم التغلب على قوى الاحتلال، لكن هذا لا يعني أنهم انتصروا في معاركهم بالمفهوم العسكري، ولا يعني بالضرورة أنهم هزموا المعركة قد حسمت لأعدائهم! 

السلطات التركية وشركاؤها، عندما أبرموا اتفاقيات نقل عشرات ألوف السوريين إلى مناطق الشمال، ليس لأنهم شركاء بوتين أو خامنئي أو أوباما وترامب، بل لأنهم يدركون مصير المحاصرين، ويدركون حجمهم الرمزي إلى حد ما في مواجهة قوى عالمية، ولأنهم لا يستطيعون الفرار من التزاماتهم الأخلاقية والإنسانية تجاه أبناء دينهم، كما فعلت قوى عربية وإسلامية في مسبار تعاطيها مع القضية السورية! 

والحق أن حلب لم تكن قادرة على متابعة صمودها، وليس الأتراك مَن سلمها لبوتين وخامنئي، وهذه من أبسط المسلمات في العلوم العسكرية والسياسية المعاصرة. ونفسهم الأتراك لم يتدخلوا لوأد الدويلة الماركسية الكردية في شمال سوريا، بل كانت فكرة إسقاط الدويلة ذريعة لتخليص ما يمكن تخليصه من ملايين الأبرياء، وصد موجات النزوح التي تكلف اقتصاد تركيا كثيراً، وكل هذا لا يلغي حساسية الأمن القومي التركي من وجود هكذا دويلة على حدودها الجنوبية، ما فعلته تركيا أنها اقتطعت لنفسها مساحة في شمال سوريا لتأمين وتجميع السوريين على أعتاب الدويلتين المزعومتين الكردية في الشرق والعلوية في الغرب، وبدأت بتمكين السوريين من الأقوى (قسد) وباتجاه الأضعف (العلوية) التي أصبحت من التراث بفعل اندماج الأقلية النصيرية كاملة في المواجهة التي استنزفتهم وتكاد تنهتهم ديمغرافياً.

ما فعلته تركيا أنها اقتطعت لنفسها مساحة في شمال سوريا لتأمين وتجميع السوريين على أعتاب الدويلتين المزعومتين الكردية في الشرق والعلوية في الغرب، وبدأت بتمكين السوريين من الأقوى (قسد) وباتجاه الأضعف (العلوية) التي أصبحت من التراث بفعل اندماج الأقلية النصيرية كاملة في المواجهة

هذه السياسات كلفت مشروع النهضة التركي خسائر كبيرة لا ترد على الإطلاق من الناحية الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، فأدت إلى عزل تركيا عن محيطها العربي والغربي الذي يفضل وأد ملايين السوريين وطحنهم على أساس انتمائهم الديني، فتركيا لها مكاسب في أذربيجان وليبيا وبلا أدنى شك ليس لها شيء في سوريا، والواقع يشير إلى ذلك بوضوح ودون مواربة، ليدخل الأتراك في امتحان كبير تمثلَ بإنشاء الجيش الوطني السوري، وإن بمعايير الولاء المطلق والفوضى. وهذا يؤخذ على الأتراك حين يكون الحديث عن مؤسسة عسكرية عمادها الانضباط والمعرفة العسكرية. 

 

الجيش السوري الوطني.. ميليشيا أم جيش وطني؟

 تحتضن مناطق الشمال والشمال الغربي من سوريا ملايين السوريين من أبناء المنطقة والمهجرين إليها، في ظل أسوأ ظروف الحياة والتضييق والحصار الممنهج، وهم هدف رسمي لعملية منظمة ومدبرة تسمى "الحسم الديمغرافي"، يستأصلون تماماً بعمليات إبادة وحشية ضد العرب السنة، فيفر كثيرون إلى تركيا، فتكون الحالة السورية قد استقرت أمام تسوية يرعاها حلف الأقليات وينظم على أساسها المرحلة الدستورية المقبلة التي تجعل من السنة أكثرية غير نوعية في سوريا على المدى البعيد، وهذا يفرض وجوداً بالواقع لدويلة الميليشيات الكردية في شمال شرق سوريا على غرار إقليم كردستان الذي أصبح ملجأ للعرب السنة العراقيين!

يستطيع الأتراك ترويض هذا التوحش من خلال مناطق خفض التصعيد والاتفاقيات المشتركة مع الجانب الروسي والأمريكي، ولكنهم لا يستطيعون الدفاع عن المنطقة منفردين، وخاصة مع تشعبات المصالح القومية التركية في شمال أفريقيا وأذربيجان وآسيا الوسطى وشرق المتوسط، بالتالي تطغى ضرورات البقاء التركي على أي مصلحة ثانوية في الانخراط بمواجهة كبرى في سوريا، في ظل انسحاب تكتيكي عربي من الملف السوري، بعد انكشاف الأنظمة العربية بشكل مطلق أمام المصالح الدولية، وظهور فجوات للأنظمة يمكن التحكم بها من قبل أطراف إقليمية ودولية لتهديد أمن واستقرار تلك الدول، بينما تراهن السلطات التركية على إيجاد مساحة للتسوية من خلال أستانة وسوتشي تقضي باندماج الوحدات الكردية وبقايا جيش النظام بالجيش الوطني السوري، ما يعني ذوبانا خفيا لكل تلك الميليشيات في عداد مؤسسات الجيش الوطني الكبير، وبالتالي يتجنب الجيش الوطني معارك غاية في الصعوبة في مواجهة تحالفات لا يستطيع الأتراك المضي فيها، وتنشط بذلك تجارب أخرى كتجربة المقاومة في درعا وخروج أسلحة الطيران من دائرة التأثير المباشر!

 تطغى ضرورات البقاء التركي على أي مصلحة ثانوية في الانخراط بمواجهة كبرى في سوريا، في ظل انسحاب تكتيكي عربي من الملف السوري، بعد انكشاف الأنظمة العربية بشكل مطلق أمام المصالح الدولية، وظهور فجوات للأنظمة يمكن التحكم بها من قبل أطراف إقليمية ودولية لتهديد أمن واستقرار تلك الدول

سياسة الترويض التي تنتهجها تركيا، ثمة من يرى أنها تهدف إلى تنظيم جيش وطني عالي الكفاءة قادر على مسايرة تحديات وتقدمات الميليشيات الأخرى، لحين الاتفاق على تسوية مباشرة، لكن هذه السياسة تصطدم في كل مرة بالفصائلية والعصبيات القبلية والعشائرية المتفشية بطبيعة الحال في مجتمعات شمال شرق وغرب سوريا، وتصطدم بتضخم هيكلية النفوذ الميليشياوي داخل هذه الفصائل، ومعالجة هذه الثغرات تحتاج إلى وقت ليس باليسير.. وبالمقابل تتسارع وتيرة التصعيد ما ينذر بمعركة غير متكافئة إلى الآن!

 يعاني قادة تلك الفصائل والكيانات من انعدام تام للرؤية الإدارية والأخلاقية والاستراتيجية، ووجود الكفاءات بينهم لا يعني على الإطلاق أن الواقع السياسي والاستراتيجي مفهوم لديهم بشكل صحيح نسبيا، فهم في أحسن الأحوال ضباط غير شباب وقادة غير سياسيين ومديرون غير إداريين، وكلما اشتد الضغط عليهم يتحولون ميكانيكيا إلى عصابات لا يمكنها مواجهة جيوش ضخمة ومنظمة في ظل معارك غير تقليدية!

وهو ما أدركه الروس والإيرانيون منذ عام 2011 من خلال سيطرة ضباطهم ومبتعثيهم على كل مفاصل القرار في بنية النظام السياسية والعسكرية والأمنية، والأمريكيون بالتوازي في شرق الفرات، لضبط وترويض انتصارات الثوار البدائية المفعمة بالحس الشعبي والثوري. 

يعاني قادة تلك الفصائل والكيانات من انعدام تام للرؤية الإدارية والأخلاقية والاستراتيجية، ووجود الكفاءات بينهم لا يعني على الإطلاق أن الواقع السياسي والاستراتيجي مفهوم لديهم بشكل صحيح نسبيا، فهم في أحسن الأحوال ضباط غير شباب وقادة غير سياسيين ومديرون غير إداريين

يعيش اليوم شمال سوريا اختبارا ضخما يتمثل بترتيب أبجدية الجيش الوطني وفق الأصول الحديثة لبنية المؤسسات العسكرية والأمنية الناشئة، ما يشجع الأتراك أكثر على الثقة بقدرات هذه المؤسسة وبالتالي الانخراط أكثر في عمليات غير محدودة لتأمين المنطقة، ويعيد احتمالات التأثير العربي المباشر لصالح الشعب السوري، فالدول القوية لا تساعد الضعفاء بقدر ما تتصالح مع الأقوياء القادرين المستقلين.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات