عبقرية الإبداع هل تغفر للمبدع مواقفه؟!

عبقرية الإبداع هل تغفر للمبدع مواقفه؟!
كم من مثقف غادر على عجل هذه البلاد.. وكم من مبدع خيب الظن والآمال فغادر وجدان أهلها.  

لست مختصة بعلم النفس حتى أدرك كم من أثر تتركه التربية الأسرية والمجتمعية بكل مؤسساتها، في نفوس أفراد المجتمع.. ولكن عندما يكون المجتمع مستلباً من البداية حتى النهاية، حتما سيكون الوضع أرسخ أثراً وأشد تعقيداً 

وإذا خرجنا من تبريرات علم النفس ونظرياته وشروحاته، ونظرنا بعين الإنسان الطبيعي لأصابنا العجب من موقف عامة المثقفين والمبدعين السلبي، ولنظرنا إلى المتماهين منهم مع القهر والاستبداد نظرتنا إلى لغز محير يصعب حله وفهمه. 

كثير من المثقفين لم يمارسوا السياسة ولم يكتبوا مبحثاً فيها، إنما الموقف الإبداعي بكل تجلياته هو ممارسة سياسية.  في سوريا عليك أن تدرك مشهداً مختلفاً وغرائبياً إلى حد يبعث على الشك والريبة والتساؤل في جدوى وحقيقة القيم والفضائل التي يفترض أن يدافع عنها المبدع، وأن يؤمن بها قبل ذلك.  

كثير من المثقفين لم يمارسوا السياسة ولم يكتبوا مبحثاً فيها، إنما الموقف الإبداعي بكل تجلياته هو ممارسة سياسية. 

البعض منهم كانوا في حزب البعث أعضاءً، وبعضهم كان سجيناً سياسياً، وآخرون لم يكونوا لا هذا ولا ذاك، لكنهم اجتمعوا جميعهم على مشتركات، أكثر ما يميز ركائزها هو أن الموقف من السلطة موقف مفارق لوظيفة الثقافة والإبداع ومعناها.

لقد أغفل هؤلاء التجربة والشروط التاريخية التي تكوّن الذات، وخضعت تماما رؤاهم لذواتهم لتأثير المصلحة الشخصية والعقد النفسية المتحكمة.. أو أن عطالة غير مفهومة أصابت الإبداع بمقتل وجعلته لا يبحث عن وضع بديل، ولا يحلم بتنظيف الركام أو تعبيد طريق التغيير.  

كل ذلك يحيل إلى سؤال شديد الرعب: هل غادر المبدع والمثقف لب المشروع الإنساني؟ وهل التماهي مع قباحة ورداءة وتفاهة الواقع فرار من التفكير أو فقدان الشجاعة؟ وهل إنكار تلك الانهزامية ومحاولة تبريرها بتبريرات عقائدية خيانة لرسالة الإبداع ودوره ومحاولة للاحتيال عليها؟ 

لم يكن التاريخ إلا صناعة أفراد أنكروا التصنع والارتهان للطقوسية والاستبداد، وكانوا أصلاء في صدقهم وشجاعتهم، التزموا بقضايا شعوبهم، ولم يكن عليهم من دافع أو سلطان سوى شغف بلورة قيم النهضة والإيمان بالتنوير.

لقد انقطع (أدونيس) مثلاً من صلاته بأمته، وبالغ في الإنكار لحد تبني ادعاءات السلطة وروايتها بالكامل. وقد مثل ذلك بحق انهيار بل كارثة حقيقية. فأي عقد عقده هذا المبدع مع نفسه ومجتمعه وتاريخه حين وقف في صف الاستبداد؟ لقد كان رهين (الكوزمو- بولوتيانية) أو الولاء لأي أمة أو أي جماعة، مقابل القطع بوقاحة الأواصر الطبيعية مع أمته وأحلام شعبه بالتغيير.  

 انقطع (أدونيس) مثلاً من صلاته بأمته، وبالغ في الإنكار لحد تبني ادعاءات السلطة وروايتها بالكامل. وقد مثل ذلك بحق انهيار بل كارثة حقيقية. فأي عقد عقده هذا المبدع مع نفسه ومجتمعه وتاريخه حين وقف في صف الاستبداد؟ 

كذا كان النحات فؤاد أبو عساف الذي نعته الأوساط السورية الأسبوع الماضي. كان معتقداً إلى أقصى الحدود أن النظام وحده مؤهل لقيادة هذا الشعب. 

وكثيرا ما كان حوار معه باعتباره شقيقي، ينتهي في أي جولة حوار بتأكيده أن النظام نفسه مشروع حداثي، وهو قوة عادلة تَعلم أن الديقراطية لا يمكن أن تهضم أبداً ضمن بيئة تاريخية أوغلت استبداداً وقتلا.  وكان يرى أيضاً أن سياسة السلطة ماهي إلا نظام يملك الكفاءة ويستطيع أن يفكر نيابة عن كل أبناء الشعب ويدرك كيف يلبي الإمكانات والطموحات... دون الرضوخ لمستلزمات الديقراطية .

نعم أدونيس عبقرية شعرية ومثقف استثنائي لكنه لم يستطع أن يكون إلا متشرداً ولاجئاً بالمعنى الأخلاقي عاقاً وقاطعاً لكل صلة وواضعاً نفسه موضع التباس وتساؤل تاريخي 

وأما النحات العبقري فؤاد أبو عساف فقد شهد كل الناس بأصالة وفرادة إبداعه، وذكروا تلك الشخصية المحيرة في سخائها الإبداعي واليومي والعيني، ونثروا فوق قبره الكثير من الكلمات والدموع وكأنهم غفروا له ذلك الشرود والمفارقة كما تغفر أمٌ هفوات أولادها. 

أعتقد أن موقف فؤاد  كان خوفاً بلا حدود من انتصار الظلامية التي تبدو آفة الإبداع والحضارة وسرطان الإنسانية وعقدته الكأداء، وأن نظاماً مثل النظام السوري وحده قميناً بلجم تلك الظلامية، فزين له أن كل احتفاء السلطة به كان تعبيراً عن حمايته من ظلامية قادمة لتقتلعه،  ورسخ في ذهنه أن ما يقوم به النظام هو مهمة تاريخية لكنها محاطة بسوء الفهم.

ويبدو أن النحات العبقري لم يستطع أن يصون جوهر إبداعه، ولم يتمكن من تطوير موقف معارض واضح من الاستبداد وآليات اعتدائه على حرية الإنسان وحقوقه، ولم يفلح أن يخلق ذلك الانسجام بين الإبداع الجميل والموقف النبيل، فانسحب أخيراً انسحاباً تاماً مدركاً أن الإبداع موضوع فردي... وأن السياسة شأن جمعي وكوّن هوامش مشتركة مع الآخرين خارج ملاعب وحلبات السياسة الدامية.

لم يتمكن النحات العبقري فؤاد أبو عساف من تطوير موقف معارض واضح من الاستبداد وآليات اعتدائه على حرية الإنسان وحقوقه، ولم يفلح أن يخلق ذلك الانسجام بين الإبداع الجميل والموقف النبيل، فانسحب أخيراً مدركاً أن الإبداع موضوع فردي... وأن السياسة شأن جمعي! 

وأخيرا أكاد أجزم أن (فؤاد) النحات كان مهتما بالإنسان والإنسان فقط في إبداعه الخلاق. ولقد كان مفهومه حسب رأي المقربين منه أن العامة ليست خليقة بالأصالة، وأن كشفه عن ذلك كان لماما، وذلك نتيجة عَجِز النحات العبقري عن فهم روح السياسة وأبعادها ومراميها... أما أدونيس فهو يستمر مندفعاً حتى النهاية منطرحاً دون كلل في الدفاع والتسويغ والتبني. 

أخيراً أُدركُ أنها مقاربة سريعة قد تحمل كثيراً وجهات نظر خاصة، وقد يكون التقصي المعرفي لدي لم ينضج بعد.. ولكني أؤمن أنني ألتقي في هذا مع أغلب السوريين، وأن المبدع وإنْ كان مشتتاً منفياً مغترباً مؤيداً منبطحاً، هو في نهاية الأمر "قدَر" في سياق حدث تاريخي، وأن المبدع لا يتعامل مع وطنه وأمته كمعطى سابق وثابت وموروث فقط،  وإنما كقوة تتشكل من إرادات وعزائم مشتركة، ربما يغرد بعيداً عنها، حين تكون بحاجة أن يغرد معها. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات