المستوطنات العمرانية شمال سوريا: إقامة مؤقتة أم تغيير ديموغرافي؟

المستوطنات العمرانية شمال سوريا: إقامة مؤقتة أم تغيير ديموغرافي؟
فجأة وبدون مقدمات تمهيدية انتشرت كالفطر عشرات المستوطنات العمرانية في مناطق مختلفة من الشمال السوري، وتسابقت المؤسسات والمنظمات الإغاثية والإنسانية القطرية والكويتية والتركية وعبر منظمات محلية أحياناً، لإطلاق مشاريعها الإسكانية للنازحين بديلاً عن المخيمات التي عانى سكانها طوال سنوات من الحرّ وقلة الماء صيفاً ومن البرد والثلج والفيضانات المطرية شتاء، فضلاً عن الظروف الإنسانية المختلفة الأخرى شديدة الصعوبة سواء لجهة الخدمات الصحية والعلاجية أو القضايا التعليمية لآلاف الأطفال الذين أصبحوا عملياً خارج نطاق العملية التعليمية . 

لا شك أن الاستجابة لظروف هؤلاء السوريين ولو بالحدود الدنيا التي تحفظ لهم كرامتهم وآدميتهم هو عمل محمود وواجب على كل سوري مقتدر وعلى كافة المؤسسات والمنظمات الإنسانية المحلية والأممية، بما يساعد على تخطي الظروف الصعبة وتحسين شروط العيش الإنساني لبضعة ملايين أُكرهوا على ترك بيوتهم وممتلكاتهم وأراضيهم تحت وطأة القصف والتدمير الممنهج لحواضرهم وبلداتهم بحثاً عن ملاذ آمن من عصابة استباحت كل شيء في سوريا لأجل ديمومتها في السلطة . 

لكني أزعم أن تلك المستوطنات التي ستتوسع أكثر في غضون السنتين القادمتين وستتحول تالياً إلى بلدات ومدن صغيرة تعج بساكنيها من النازحين السوريين وكذلك من اللاجئين أيضاً الموجودين في تركيا والذين تسعى الحكومة التركية بشكل محموم لإرسالهم إلى بلادهم – أو  إرسال معظمهم على الأقل – قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية المقررة في العام 2023 ، لم تُبنَ لتؤوي نازحين فحسب .. بل أزعم أنها جزء من مجهود يُبذل وستزداد وتيرته لتكون تلك المستوطنات ملاذاً آمناً بديلاً عن تركيا بالنسبة للاجئين فيها. 

 ولعل تصريح وزير الخارجية التركي في أنطاليا مؤخراً حول أن ( تركيا تعمل مع وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ( يقصد مفوضية شؤون اللاجئين ) لإعادة السوريين إلى وطنهم مجدداً  ) يأتي ليعزز هذا الاستنتاج محمولاً على سياق تصاعدت فيه الخطابات والمواقف العنصرية تجاه السوريين في تركيا وتحوله في بعض الحالات لجرائم اعتداء على الأشخاص والأموال يقابله تحرك خجول جداً من الحكومة تجاه هذا الأمر . 

 لم تعُد قضية حرية السوريين وحقهم بالانتقال الديموقراطي – وغالباً لم تكن أصلاً - ذات قيمة وأولوية من أولويات الجهود الدولية في التعاطي مع المسألة السورية .. ولم تعد لملايين الوثائق والتوثيقات الحقوقية للجرائم والانتهاكات التي مورست على السوريين من قيمة، إلا في نطاق المقايضات السياسية والابتزاز الدولي لانتزاع مواقف أو تنازلات يحتاجها طرف من الأطراف، ولم تعد لمئات آلاف الأرواح التي أزهقت في المعتقلات ودُفنت في عشرات المقابر الجماعية من قيمة في مسار العدالة المحرّمة على السوريين .. وبطبيعة الحال ما من قيمة لضحايا الكيماوي إلا في إجبار الجاني على استكمال تسليم أدوات جريمته فحسب، فالكل قايض وعقد الصفقات مبكراً  وحدد أطر الصراع وخرائطه وضبط آثاره ونتائجه .. والكل وظّف ما أمكنه توظيفه من أدوات في سبيل صياغة الشكل النهائي - ضمن حدود قدراته وفاعلية دوره - للحل الذي يبدو الآن أن ملامحه بدأت ترتسم .. (( إعادة بناء منظومة السلطة وترميم شرعيتها مع  إدخال بعض الرتوش والتعديلات البنيوية على مستوى الإدارات المحلية واسعة الصلاحيات ودور فضفاض لـحكومة وحدة وطنية تشتمل على بعض وجوه المعارضة ودمج بعض الأدوات والميليشيات في المنظومة العسكرية وإجراء انتخابات على الطريقة السورية المعروفة )) وإعادة دمج منظومة السلطة الجديدة في النظامين العربي والإقليمي بالتزامن مع دفع اللاجئين بالتضييق والقسر للعودة إلى بيت الطاعة. 

 إذاً فمسألة المستوطنات التي تسارَعَ إنشاؤها على عجل ليست لإسكان النازحين فحسب، وإنما تأخذ بُعداً ودلالة أخرى تتعلق بتوفير بنى الحد الأدنى للبدء بترحيل مئات الألوف من اللاجئين المقيمين في تركيا وإسكانهم في مناطق شمال سوريا مع ما يرتّبه ذلك من تغيير جوهري في البنية المجتمعية والديموغرافية لتلك المناطق .. فإسكان بضعة ملايين في منطقة لا ينتمون إليها جغرافياً ومجتمعياً تعني بالضرورة إعادة بناء نسق مجتمعي مختلف ربما ترى فيه تركيا حجاباً حاجزاً  يضبط وظيفة رئتيها في التنفس.  

التعليقات (1)

    Hasnaa

    ·منذ سنة 11 شهر
    كلام سليم و واقعي و حقيقي تماما
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات