أمريكا بين التقاعد والعودة من بوابة الشرق الأوسط؟!

أمريكا بين التقاعد والعودة من بوابة الشرق الأوسط؟!
بعيداً عن الخوض في أسباب غزو أفغانستان والعراق، لم تحقق الحربان ما كان يصبو إليه صانع السياسة الأمريكي، وأصبح منظرو السياسة الأمريكيين وغيرهم ينظرون إلى هاتين الحربين على أنهما ورطة أمريكية، وحسب بريجنسكي: "تمثلت العواقب بتدهور درامي مثير لمكانة أمريكا العالمية في تناقض صارخ مع العقد الأخير للقرن العشرين من جهة أولى وتبديد تدريجي لمشروعية صدقية أمريكا على الصعيد الرئاسي والمستوى الوطني، إذن من جهة ثانية، وبتضاؤل ذي شأن لتماهي حلفاء أمريكا مع أمن أمريكا من جهة ثالثة". أمام هذا الواقع جاء الرئيس أوباما إلى السلطة حاملاً على كاهله وعوداً انتخابية بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان والعراق، وقيل وقتها إن هذه الوعود كانت السبب الرئيسي لفوزه بالانتخابات الرئاسية. 

رغم ذلك، لم يتمكن أوباما من الوفاء بوعوده، وجاء من بعده الرئيس ترامب حاملاً نفس الوعود، وإن كان بتوجهات مختلفة فيما يخص مفهومه للانسحاب، وقبل نهاية ولايته، قام ترامب بتخفيض عدد القوات الأمريكية إلى 2500 عنصر. لكن الفرصة لم تتح له لإكمال الانسحاب على اعتبار أنه غادر البيت الأبيض بعد فترة رئاسية واحدة. 

ضمن هذا السياق اتخذ الرئيس الأمريكي الجديد "جو بايدن" قرار الانسحاب، الذي يحظى بدعم أكثرية الأمريكيين الذين تعبوا من تمويل أطول حرب في تاريخ البلاد، خاصة وأنه لم يكن هناك منذ سنوات، أي أفق سياسي بحل مشرّف ومستدام. رغم ذلك، تعرض القرار لسيل من الانتقادات الحادة على اعتبار أن إدارة بايدن أخفقت في التحضير السياسي واللوجستي الفعال لانسحاب عسكري ودبلوماسي منظم. كذلك انتُقدت الأخطاء التكتيكية التي رافقت الانسحاب خلال مراحله المتعددة، وانتقد إخفاق المسؤولين الاستخباراتيين والسياسيين في توقع الانهيار السريع للحكومة الأفغانية وقواتها المسلحة. ومن جهة أخرى، هناك من نظر إلى قرار الانسحاب على أنه ضربة مروعة لمصداقية الولايات المتحدة ولمكانتها الأخلاقية في الشؤون العالمية. 

بعض الكارهين للولايات المتحدة مزجوا الوقائع بالأمنيات معتبرين أنها على حافة الهاوية، لكن الواقع يقول: إن الولايات المتحدة أكبر من أن تنهار بسبب حدث مثل الحدث الأفغاني رغم فداحته، لكن القول بأن أمريكا مرتبكة قول لا يجانب الصواب، بل يصح القول إن أمريكا مرتبكة منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وحتى الآن، لكن حجم الارتباك ومستواه الآن وصل إلى حد غير مسبوق، بل هو يفوق بأضعاف مضاعفة ذلك الارتباك الذي وقعت فيه الولايات المتحدة عندما تجاوز النظام السوري خطوط "أوباما" الحمراء وقصف غوطة دمشق بالأسلحة الكيماوية. في ذلك الوقت كتب "جون ميرشايمر" مقالا مطولا بعنوان "أمريكا المرتبكة" قدّم فيه رؤيته للحدث مشجعاً الرئيس "أوباما" على التراجع عن قراره بتوجيه ضربات عسكرية للنظام السوري، وفي سياق دفاعه عن وجهة النظر هذه ورداً على من يعتقدون أن الولايات المتحدة قد تفقد مصداقيتها في حال لم يلتزم الرئيس "أوباما" بتعهداته يقول "ميرشايمر": عندما يتراجع بلد ما عن قراراته في خضم أزمة يواجهها لا تتأثر مصداقيته بالضرورة في الأزمات اللاحقة. فحقيقة أن أمريكا تعرضت لهزيمة مذلة في حرب فيتنام، مثلاً، لم تدفع موسكو إلى الاعتقاد بأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا الغربية يفتقر إلى المصداقية. لو فشلت الولايات المتحدة بالنتيجة في اتخاذ الإجراءات المطلوبة ضد النظام السوري لاستخدامه الأسلحة الكيماوية، فلا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن القيادة في طهران ستستنتج أن واشنطن ليست جدية في منع إيران من امتلاك السلاح النووي.

نظرياً، تبدو المقاربة منطقية إلى حد ما، ولكن في نفس الوقت، هناك من اعتقد أن تخبط أوباما في تعامله مع استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين السوريين وتراجعه عن تنفيذ تهديده بتوجيه ضربة عسكرية لقوات الأسد، ربما ساهم ولو جزئياً في تشجيع بوتين على القيام بعدوانه ضد أوكرانيا. واليوم يبدو أن إيران على سبيل المثال أصبحت تعتقد أن الولايات المتحدة تلاشت أنيابها والأظافر، وأنه آن الأوان لأن تصفع على جبهتها، فمع النوايا الأمريكية المعلنة بالانسحاب من الشرق الأوسط والتوجه شرقاً نحو بحر الصين تحاول إيران أن تستثمر تلك النوايا بالظهور بمظهر من طرد أمريكا من منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي، تقدم نفسها كوريث شرعي للنفوذ الأمريكي في المنطقة. لقد أصبح بعض المراقبين يعتقدون جازمين أن أمريكا لن تتحرك عسكرياً مهما حصل، وهذا الاعتقاد إذا ترسخ لدى قادة بعض الدول وعلى رأسها روسيا والصين، فالسياسات العدائية تجاه جيرانهما سوف تطغى على الساحة الدولية في أقرب وقت. لذلك تبدو مقاربة "ميرشايمر" تفتقر إلى الدقة، ويبدو أن الولايات المتحدة بحاجة إلى التحرك، والتحرك بسرعة لترميم ما أصاب مكانتها وصورتها من تلف.

عندما فاز الرئيس بايدن في السباق الرئاسي هناك من قال: إن ترامب سوف يحكم أمريكا من خارج البيت الأبيض؛ على اعتبار أن أكثر من 74 مليون مواطن أمريكي صوتوا لترامب ونهجه رغم عداء الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الأمريكية، ورغم الفضائح المالية والجنسية، ورغم الطريقة الفاشلة في التعاطي مع وباء كورونا الذي أضر بالاقتصاد الأمريكي كثيراً. لذلك لا يمكن للرئيس بايدن تجاهل أصوات هذه الشريحة الواسعة جداً من الشعب الأمريكي. إذا أضفنا إلى هؤلاء الرأي العام الأمريكي الذي يريد التركيز على التحديات الداخلية التي تواجهها الولايات المتحدة، وإعادة بناء الاقتصاد الأمريكي ومواصلة مكافحة فيروس كورونا، إضافة إلى التنافس الاقتصادي مع الصين؛ قد يجد الرئيس بايدن نفسه مرغماً على اتباع نهج الرئيس ترامب الذي رفع شعار "أمريكا أولاً" واختار سياسة الانعزال عن العالم الخارجي؛ ليصبح هذا النهج استراتيجية واضحة للولايات المتحدة في المرحلة المقبلة. 

الخيار الآخر أمام الرئيس بايدن، وهو الأرجح، أن يتراجع عن فكرة أن الشرق الأوسط فقد أهميته ويجب الانسحاب منه، لأن الشرق الأوسط هو الساحة الأنسب لكي تستعيد أمريكا هيبتها ومصداقيتها إنْ هي أرادت ذلك، فالصدام مع إيران المنهكة أقل مجازفة من الصدام مع الصين أو روسيا، علماً أن ردع إيران وتحجيمها ليس ببعيد عن ردع روسيا والصين اللتين تعوّلان كثيراً على الدور الإيراني في إلهاء الولايات المتحدة، ولن تستوي الأمور بالنسبة للولايات المتحدة سوى بردع إيران عن كونها عنصر مشاغلة، وإعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط لكيلا يبقى ساحة مشاغلة. 

من جهة أخرى، لا تحتاج المواجهة مع إيران للدخول في حرب مفتوحة، فكل ما هو مطلوب: العودة إلى التكتيك الذي اتبعه الرئيس ترامب أثناء تعامله مع إيران. أي الضغوط القصوى مع توجيه بعض الضربات المحدودة إذا لزم الأمر.

عندما يكون الحديث عن دولة بحجم الولايات المتحدة، يكون من الخطأ حصر البدائل التي تمتلكها ببديلين اثنين فقط، ولكن رغم ذلك، إن البدائل أمام صانع القرار قد تقلصت بكل تأكيد في عالم يتغير بسرعة وتنحسر فيه قدرة واشنطن في التأثير على مستقبله. إن أمريكا اليوم بحاجة ماسة إلى إستراتيجية واضحة تنهي حالة الارتباك التي رافقتها منذ نهاية الحرب الباردة حتى اليوم، فأمريكا مرتبكة تعني: عالم مرتبك.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات