رحيل المخرج اللبناني برهان علوية: ذكريات الفيلم المرعب والمجزرة

رحيل المخرج اللبناني برهان علوية: ذكريات الفيلم المرعب والمجزرة
في العاصمة البلجيكية بروكسل، رحل المخرج السينمائي اللبناني البارز (برهان علوية) عن عمر ناهز الثمانين عاماً صباح اليوم الخميس (9/9) في زمن يعيش فيه وطنه لبنان أسوأ أزماته، أما السينما التي آمن بها ودرسها أكاديمياً، وقدم خيرة نتاجه من خلالها، فقد غابت بطقوسها وقضاياها وأحلامها... لتترك في الذاكرة أرشيفاً يدرس أو يستعاد، أو يكتب مادة للرثاء المر.. وحصاد العمر! 

قصة لقاء قبل 22 عاما

التقيتُ برهان علوية (المولود في قضاء النبطية بالجنوب اللبناني عام 1941) التقيته في دمشق عام 1999، كان ذلك أثناء انعقاد الدورة الحادية عشرة لمهرجان دمشق السينمائي، وكان برهان علوية عضو لجنة تحكيم فيه.. فيما كان فيلمه الشهير (كفر قاسم) الذي أخرجه لصالح المؤسسة العامة للسينما في سوريا عام 1974، علامة باقية في ذاكرتي الشخصية.. فقد كان أحد الأفلام التي نظمت مدرستنا رحلة لمشاهدته في دار العرض السينمائي.. وبالنسبة لطفل مسكون برهاب الصهيونية الذي كان لا يغيب عن وسائل إعلام البعث، فقد كان الفيلم مُرعباً بالنسبة لي. ولم يكن الحدث المحوري فيه الذي يصوّر مجزرة بمجموعة من المدنيين العزّل من أبناء قرية كفر قاسم (شرق تل أبيب) عام 1956 ، من الأحداث التي يمكن أن تداعب خيال طفل، بقدر ما تسبب له الكوابيس لأيام أو أسابيع! 

كان في حواري المطول معه الذي أجريته عام 1999 والذي امتد لساعات، كان برهان علوية يضحك عندما أحدّثه عن رعبي من الفيلم. كان مبعث ضحكه هو هذه العقلية التلقينية البعثية التي تأخذ طلاب مدارس صغاراً ليشاهدوا فيلماً عن مجزرة! 

كان في حواري معه بسيطاً وتلقائياً، عميقاً وصادقاً كما عهدناه في أفلامه، لا يفلسف الأمور، لا يحاول أن يصنع هالة من الاستعراض والادعاء حين يتحدث عما قدمه، ولا يحاول أن ينسى أبداً المشهد السينمائي العربي الواحد الذي يأمل أن يخوض فيه تجربة الإنتاج المشترك باعتبارها الحل المجرّب لأزمة الإنتاج في السينما العربية كما كان يرى. 

كفر قاسم: المذبحة والفيلم والمعنى! 

عندما سألت برهان علوية: كيف تعاملت مع موضوعك في فيلم (كفر قاسم)؟ أجاب: 

" بحب وإخلاص..  بإحساس. أنا عملت ( كفر قاسم ) لأنه كان عندي إحساس قوي. درست سينما، لكنني لم أرغب في أن أعمل في السينما.. لكن ظروفاً معينة في هذا الوطن العربي جعلتني أفكر: "بلكي بالسينما فيك تعمل شي" واتجهت إلى (كفر قاسم) لأعمل شيئاً مفيداً "وهيك صار".  لم أكن عندها قادراً على أن أتحمّل أن هذه المذبحة حدثت ولم يُحكَ عنها كما يجب رغم أنها تحمل دلالات كان من المهم جداً أن تقال. وأذكر أنني سألت حينها لماذا لم أعمل فيلماً عن مذبحة دير ياسين وفيها (450) شهيداً، أكثر من شهداء كفر قاسم بكثير.. لماذا لم تعمل فيلماً عن  كفر شوبا أو عن بحر الغزال.. لكن جوابي أن كفر قاسم تحمل معنى هو عنصرية إسرائيل، لأن إسرائيل تقتل مواطنين هم في نظرها، وحسب ما تدّعي أمام العالم إسرائيليون.. معنى هذا أن الجنسية الإسرائيلية كذبة، لأنها لم تمنح المواطنين العرب حقوق المواطنة.. وأن إسرائيل قانونياً ونفسياً هي كذبة، وأنا أبدأ الفيلم بأحدهم يقول للآخر: أنت عم تقتل هالجماعة.. هل عندك إحساس إنك عم تقتل ناس؟!  فيجيب: ( لا ) بس.. انتهى الموضوع! هذا هو الشيء الذي دفعني لاختيار (كفر قاسم ) كموضوع.. وقلت: هذه هي النقطة التي يمكن أن أنطلق منها للتحدث عن العدو.. فأنا في (كفر قاسم) لم أكن أتحدث عن العرب بل عن العدو، أما عندما تريد أن تتحدث عن نفسك فالموضوع سيختلف "بتتعقد الأمور!!"

الإحباط جعله مخرجا! 

من القضية الفلسطينية في (كفر قاسم)، إلى الحرب اللبنانية في (بيروت اللقاء)، ورسائل زمن الحرب وزمن المنفى .. إلى التراث المعماري في مصر، ومشكلة السد العالي الذي حقّق عنه فيلماً تسجيلياً طويلاً.. تمتد قائمة أفلام برهان علوية، وتتعدد قضاياها، وتتسع دائرة همومها.. بل لا نستغرب أن تكون هذه الهموم هي التي دفعت برهان علوية لأن يرسم طريقه إلى الإخراج السينمائي، حيث اعترف في حواري معه قبل (22) عاماً: أن  "الإحباط جعله مخرجاً".. وأن "انهيار المشروع العربي العام حفزه على أن يرى في السينما وسيلة لعمل شيء مفيد"!

ما يميز أفلام برهان علوية الذي درس السينما في بروكسل- بلجيكا وتخرج عام (1973) وحقق أول أفلامه القصيرة (ملصق ضد ملصق) عام 1971 أنها مسكونة بحس نقدي عميق في قراءة الموضوع والتفاعل معه... 

وبخلاف الأفلام الدعائية التي أنجزت عن السد العالي في مصر، كان فيلم برهان علوية عن السد العالي (أسوان) الذي أنجزه عام 1990 صادماً ومثيراً للجدل.  عندما سألته في حواري معه ما الذي كنت تريد أن تقوله  عن السد أجاب:

"أردت أن أقول إن السد العالي أصبح كارثة بيئية، لأنه أخلّ بعلاقة التوازن بين النهر والبحر ، فالدلتا هي رأس متقدّم في البحر، صنعها فيضان النيل الذي يحمل الأتربة، لكن عندما أقاموا السد ومنعوا فيضان النيل، أخّروا الدلتا، فصار البحر يتقدم، والأرض تتآكل و"تفوخر" أو كما يقول المصريون ( الأرض مطبلة ) وحتى الآن أكل البحر من منطقة الدلتا في مصر حوالي أربعين أو خمسين كيلو متراً، هناك قرى كاملة انتهت، منذ فترة ذهبت وشاهدت أنهم بنوا على الدلتا، ما يشبه المصاطب ليمنعوا البحر من أن يأكل المزيد من أرض الدلتا، لكن جدواها تبدو ضئيلة جداً أمام طغيان البحر!"

مخرج القضايا العربية 

رحل برهان علوية الذي حصد فيلمه الروائي الأول (كفر قاسم) ثلاث جوائز، رحل المخرج الذي آمن بالكثير من القضايا العربية وتحمّس لها دون أن يهمل الحرب الأهلية اللبنانية التي أنجز عنها ثلاثة أفلام (رسالة من زمن الحرب) 1981، (بيروت اللقاء) 1982، و(رسالة من زمن المنفى) 1988. أنجز أفلامه والحرب ما زالت مشتعلة فأراد أن يقدم شهادته الخاصة عنها. وربما كان بإمكان هذا المخرج الذي أدرك الربيع العربي وهو في السبعين من العمر، أن يقدم شهادته عن أحلام الحرية والتغيير.. لولا أن إصرار الإنتاج السينمائي العربي على مقاومة أحلام التغيير إلى جانب الطغاة، حرمه من أن يقدم مساهمته.. أو حرمنا من أن نعرف آراءه الحقيقية تجاه هذا الحدث المشتعل الذي سيغير وجه المنطقة رغم الثمن الباهظ الذي دفعته شعوبها. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات