نقص الحمولات الليبرالية عند التيارات السياسية العربية

نقص الحمولات الليبرالية عند التيارات السياسية العربية
نادرة هي الكتابات التي تتحدث عن الطبيعة التسلّطية للأنظمة العربية (خلدون النقيب مثالاً) رغم حصره إياها في المشرق العربي، أو التي تحدثت عن "الدولة ضد الأمة" (برهان غليون مثالاً)، رغم أن السلطة أكلت، أو همّشت، الدولة في معظم النظم السياسية السائدة في العالم العربي، إلا أن ملاحظة غياب الدولة أو تآكلها، بما هي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، وتالياً  غياب "المواطنة"، بمعناها الحقوقي والسياسي، كمواطنين أفراد وأحرار ومستقلين، ظل مفتقداً في معظم الأدبيات العربية، التي ظلت تتحدث عن السياسة كأننا إزاء دول منجزة، أو تتحدث عن الشعب (والجماهير) وكأننا في إطار مجتمعات مواطنين.

وفي تقارير مهمة، ولافتة، ومشغولة بشكل جيد، مثل تقارير «التنمية الإنسانية العربية»، وباتت تصدر تباعاً عن منظمة الأمم المتحدة، منذ النصف الأول من العقد الماضي (2002 - 2005)، وشاركت في إعدادها نخبة من الأكاديميين والمثقفين والباحثين في السياسة والثقافة والمجتمع والاقتصاد، فقد تم تلخيص أزمة التنمية الإنسانية العربية بثلاثة نواقص هي: نقص الحرية، ونقص المعرفة، ونقص تمكين المرأة. بيد أن تلك التقارير نسيت، أو تجاوزت، المشكلتين الأساسيتين، التي يعاني منهما العالم العربي المتمثلتين بنقص الدولة ونقص المواطنة. 

هذا ينطبق على مؤسسة المؤتمر القومي العربي أو المؤتمر القومي ـ الإسلامي العربي، الذي ضم نخبة من المثقفين والأكاديميين والسياسيين العرب، الذي لم يلحظ هاتين المسألتين أو لم يمحضهما اهتمامه اللازم. بل إن ذلك يشمل معظم الأحزاب السياسية العربية، من مختلف التيارات (العلمانية والإسلامية، اليسارية والقومية) إذ إن هذا الأمر ظل خارج مجال اهتماماتها.

فمن الثابت أن السلطات العربية بطبيعتها الشمولية، القائمة على الاستبداد والفساد، عوّقت قيام الدولة، باعتبارها دولة مؤسّسات وقانون ومواطنين، وعوّقت تحوّل الكتل المجتمعية إلى مجتمعات بمعنى الكلمة، بتكريسها إياها عند حدود الانتماءات الأوليّة، ما قبل المدنية (المذهبية والطائفية والأثنية والقبلية)، وضمن ذلك فهي عوّقت قيام الفرد – المواطن (الحر والمستقل والمتساوي)، بحرمانه من حقوقه، وامتهان إنسانيته وفرديته. وعليه فإن هذا النوع من الأنظمة هو المسؤول عن تأخّر البلدان العربية في السياسة والاقتصاد والمجتمع والتعليم والثقافة والفن، وعن غياب المجال العام المشترك (الجامعات والسينما والمسرح والمنتديات الثقافية والفنية)، وعن ترييف المدينة، فضلاً عن أنه المسؤول عن تحريم السياسة والحياة الحزبية.

هذا الوضع الناجم عن تسلط النظم الاستبدادية، أدّى إلى تأزّم تيارات العلمانية والديموقراطية واليسارية والإسلامية والقومية في البلدان العربية، وتشوّه ونقصان مفاهيمها وحمولاتها الثقافية والسياسية والحقوقية المتعلقة بالليبرالية؛ وهو ما بتنا نشهد تمثّلاته وعواقبه في مَعمعان الثورات الشعبية الحاصلة، التي تتوخّى الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية؛ وهذا كان موضوع كتابي: "الصدع الكبير..محنة السياسة والإيدلوجيا والسلطة في العالم العربي" (قيد الطباعة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر). 

وفي الواقع فإن تلك الثورات، على علّاتها ونواقصها، أتت بمثابة محاولة لاستعادة أوليات قيام الدولة والمجتمع والمواطن، ومواكبة التاريخ العالمي، وضمن ذلك فهي محاولة لإعادة تمثّل الليبرالية الديموقراطية في العالم العربي، وعند مختلف التيارات السياسية.

هكذا، لا يمكن تأسيس الديمقراطية في بلداننا من دون حمولات ليبرالية، أي المتعلقة بالحرية والاعتراف بالآخر وحق الاختلاف، عند مختلف التيارات السياسية، وهذه أيضاً مسألة لم تُطرح في التجربة الديمقراطية الأوروبية، لأنها مسألة ناجزة، كونها أسبق من الديمقراطية (أجاز البرلمان الإنجليزي مُسوَّدة حقوق الإنسان عام 1789)، فالديمقراطية ينبغي أن تتأسس أصلاً على الحرية والعقلانية والدولة الدستورية، وعلى فصل السلطات، والمساواة أمام القانون، وتداول السلطة، واحترام حقوق الإنسان والجماعات؛ والتي تختزل مسألتي العلمانية والليبرالية.

وإذا كانت النزعة العلمانية نشأت باعتبارها ثورة على السلطة الكنسية المستبدة والفاسدة وعلى توظيف الدين في السلطة، فإن النزعة الليبرالية نشأت باعتبارها ثورة للانعتاق من ربقة السلطات المستبدة، وإعلاء شأن حقوق الإنسان والحريات، أما الديمقراطية فهي ثورة في نظام الحكم وأشكال التمثيل والتعبير والتداول على السلطة وضمان استقرار وتوازن النظام العام، وهي تعبر عن تزايد دور المجتمع في تحديد مجال السلطة.

وربما يمكن القول إن الليبرالية هي بمثابة نقطة التوسط بين العلمانية والإسلامية فهي تهذّب العلمانية، كونها لا تذهب نحو استبعاد الدين والمتدينين، وتحدّ من مخاوف العلمانيين من سطوة الإسلاميين، وهذا يشمل انفتاح كل التيارات على بعضها، والاعتراف بحق الآخر. ناحية ثانية وهي أن الليبرالية ترشّد الديمقراطية، كونها لا تترك الأغلبية تتحكم بالأقلية، ولا تعطيها سلطة مطلقة، إذ تفرض عليها احترام الأقلية والتقيد بالدستور وبالقوانين، وبالقيم العليا (المواطنة والحرية والمساواة)؛ ما أوضحه بيتر برغر باعتباره أن "الديمقراطية الليبرالية هي البديل الوحيد للاستبداد غير المقيد".

القصد أنه لا يمكن القول بديمقراطية بدون ليبرالية (أي بدون قيم الحرية والمواطنة)، لأن الديمقراطية من دونها تفضي إلى استبداد مُشرعَن، بحيث تحكم أغلبيةٌ ما أقليةً ما، علما أن هذه الأكثرية قد تكون أقلية في مكان آخر، أو في مرحلة أخرى.

التعليقات (1)

    HOPE

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    قيم الحريه والمواطنه في ظل الانظمه العربيه غير موجوده بكل بساطه لان عقلية الحاكم تحمل الارث القبلي. كل الانظمه العربيه يحكمها شخص (وصل بطريقة ما للحكم بعد زوال الاستعمار)يدعي انه يعرف كيف يسير امور الرعيه وعلى الناس السمع والطاعه. بيده سلطه تكاد تكون الهيه يعطي ويمنع و بيده الحل والربط ولا احد سواه يفهم ويعرف المصلحه(العامه).لاحقوق ولا مواطنه!!والغرب يدعم هؤلاء لتحقيق مصالحه وسرقة خيرات هذه البلاد بمعية حكامها!!
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات